أنس نادر
(Anas Nader)
الحوار المتمدن-العدد: 5822 - 2018 / 3 / 21 - 23:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن قلق الوجود الجمعي بالطبع يختلف كثيرا عن القلق الوجودي الذي يساور أفكار الفرد, فلكل فرد بيئته وتجربته الخاصة ومن خلال هذه التجربة وخلال الزمن تخرج طبيعته النفسية بمعادلة وجودية تتناسب مع أفكاره ومتوازنة مع نظامه النفسي والفكري, وفي العالم النامي المتأخر عن ركب الحضارة يميل الشخص إلى أقرب الطرق وهو التدين نتيجة لإنهزام نفسي وشعور عميق بالدونية الثقافية, ويمضي ما يتبقى من حياته محاولا ترسيخ هذه المفاهيم والأفكار الدينية وردها إلى أعماقه في حال ظهور أي فكر جديد يزعزع نظامه النفسي ويحرض قلقه الوجودي على الرغم من عدم ضرورة إلتزامه السلوكي بشرائع وأحكام الدين الذي يؤمن به, فالعملية برمتها عبارة عن نزعة نفسية من أجل التوازن الوجودي يقوم بها الفرد بشكل لاشعوري.
أما المثقفين والعلمانيين والأشخاص الغير متدينين بشكل عام في المجتمع النامي, فيكون لهم أفكارهم الخاصة عن الحياة والموت والوجود والفناء, ولكن غالبا ما تُركن الأسئلة الوجودية العميقة والكبيرة في جانب مظلم في غياهب النفس ولا تخرج إلى السطح إلا عند الإيمان بمعتقدات أو أفكار جديدة, أو القيام بدراسات وأبحاث جديدة بهدف الوصول إلى حقيقة كلية ومترابطة. وأعتقد أن المثقفين والأشخاص غير المتدينين يعانون من قلق الوجود أكثر من غيرهم من المتدينين, فالمتدين يُذيب قلقه الوجودي مع الحالة العامة المتدينة للمجتمع ولا تعود للظهور إلا في حالة القلق الوجودي الجمعي للمجتمع وهذا ما سنأتي عليه لاحقا, أما الشخص الغير متدين فإنه ليس من السهل على الإطلاق إقناعه بأي فكرة مادامت القوى والطاقة الجمعية للمجتمع لم تؤثر عليه, وقد شذّ عن القاعدة الجمعية رغم كل الأمان والإطمئنان النفسي التي تمنحه إياه قوة وهيمنة الجماعة, لذلك أنه أشد قلق من الناحية الوجودية فإنه يجابه المصير الغامض الذي يجهر به ويلف عالمه ووجوده من ناحية وأيضا القوة الروحية والتاريخية للمجتمع المحيط من ناحية أخرى.
ولكي نستطيع إخماد هذا القلق لا بد من الخوض في كافة التفاصيل والجزئيات الفكرية والفلسفية والروحية من أجل الوصول إلى قاع مستوية وركيزة فكرية أساسية وجوهرية تنبثق عنها كل الأفكار والرؤى والإحتمالات, وهذا ما حاولنا تحقيقة في الفصول السابقة.
ولكن وبدون شك إن هذا القلق يكون محرضا لتأسيس ثقافي جديد, فالكتاب والمثقفون والشعراء والفنانون معظمهم من غير المتدينين, ولكن كما أسلفت إن الطرح الثقافي من الصعب جدا أن يؤثر بشكل مباشر بالمجتمعات النامية فإن أمامهم كل تجارب المجتمعات المتقدمة على مختلف مشاربها ورغم ذلك لا يكنون سوى الرفض والإلغاء للثقافات الأخرى, وهذه هي أزمة المجتمع النامي فالمجهود الفردي الثقافي لا يمكن أن يضاهي ويواجه الموروث الثقافي الجمعي, ولكن جهود المثقفين ممكن أن تتوّج بالإقتراب من تغيير المنظومة السياسية للدولة, وهذا ماقد يساهم في إرساء نظام جديد أو تغيير جذري بهيكلته وكيانه ما يؤدي بدوره إلى النمو الإقتصادي والإصلاح الإجتماعي الذي يلعب دورا مهما في تنشيط المؤسسات الثقافية ويعلن مرحلة تغيير وتحديث للموروث الثقافي الجمعي للمجتمع. وهذا قد يكون صحيحا من الناحية التصاعدية للنشاط الثقافي النخبوي, ولكن التجربة الإنسانية تميل في قول كلمتها بأن التغيير الثقافي قلما يحدُث تصاعديا بفعل النخبة المثقفة, بل أنه يحدث ثوريا بتأثير هذه النخبة ولو كان بشكل غير مباشر, فالثورات الإنسانية عبر التاريخ هي من صنع الفارق الحضاري والثقافي والقفزات النوعية بفعل الثورة والتغيير الجذري وذلك بالتأسيس لموروث ثقافي جمعي جديد, وليس بفعل التطور التصاعدي لأنظمة الدول, وخاصة إذا كانت هذه الأنظمة شديدة التهالك وغارقة في الأزمات والتعقيدات التاريخية, ولا ننكر وجود بعض التجارب للدول التي نهضت تصاعديا, وخاصة بالنسبة للدول الحديثة نسبيا البعيدة عن الأزمات التاريخية, إلا أن العامل الأعم في أدوات تغيير الموروث الثقافي للشعوب هو العامل الثوري, ولكن إذا كان النظام السياسي فاسدا وغير قابل للتطوير تصاعديا بفعل النخبة المثقفة, والإنتاج الثقافي للنخبة المثقفة غير قادرا على مجابهة وهزيمة الموروث الثقافي الجمعي لما يمنحه الأخير من أمان وإطمئنان جمعي للمجتمع ؟ فكيف سستتشكل الجذوة الأولى لإيقاظ الروح الجمعية الكامنة من سباتها العميق؟ والجواب هو القلق الوجودي الجمعي.
إن المجتمع النامي ينحى لتثبيت قيمه الأخلاقية والدينية ويكون متشددا في ترسيخها لأنه لا يستطيع أن يصنع بديلا ثقافيا ومعرفيا يفخر به ويحمل هويته الثقافية, وبنفس الوقت لا يتقبل أي ثقافة أخرى خارجة عن مجتمعه أو حتى منبثقة عنه, وهذا بالطبع ليس لأنه قاصرا ذهنيا على فهمها أو غير قادر على التأقلم معها, فالمجتمع النامي مجتمع ذكي وعميق وذو خبرة عالية بمجال الحياة الإجتماعية والعملية فالنظام السياسي والإقتصادي الفاسد قد علمه الكثير عن كيفية التعايش والتأقلم والنجاة بإحتياجاته, لكنه يدرك في نفس الوقت وبشكل عميق الأساس الواهِ الذي يقوم عليه المجتمع والروابط الرخوة التي تجمع أوصاله.
فالمجتمع النامي لا يثق بقدرته على الإبداع والإنتاج المعرفي لذلك ينأى بنفسه عن التفكير بأي تغيير محتمل, ويتشبث بموروثه الثقافي القديم, لذا تسعى الروح الجمعية لجعل الدين ملاذ وجودي وقيمة ثقافية تعكس هويته على الرغم من أن نسبة من أفراد هذا المجتمع لا يؤمنون عقائديا بها بالمعنى الحقيقي والعميق ويميلون سلوكيا للمظاهر المدنية والإجتماعية والثقافية إلا أنهم ينضوون تحت السطوة الجمعية لهذه الثقافة ويتبنون عقيدنها. والشيئ الوحيد الذي يمكن أن يجعل هذا المجتمع المركب من مجموعة تناقضات روحية ووجودية وإجتماعية وحتى إنتمائية أيضا, أن يتحرك في اتجاه معاكس ويحرك المياه الراكدة والآسنة هو تهديد هذه القيمة الوجودية الجمعية, أو ما دعوناه القلق الوجودي الجمعي.
ولكي لا نكون قد بالغنا في تبسيط حركة المتغيرات الروحية للشعوب, فلا مناص من الإقرار بسطوة البعد التاريخي في تكوين الموروث الثقافي المباشر للشعوب وبالتالي الروابط الوجودية الجمعية, فالأزمات التي تعاني منها الشعوب النامية وما دعى وأدى لنشوء أنظمة سياسية وإجتماعية وإقتصادية متخلفة هي أزمات تاريخية وليست أزمات مباشرة استطاع أن ينشئها نظام سياسي أو اجتماعي ما, فالمنطقة العربية على سبيل المثال تعاني من هزائم وإحباطات سياسية وثقافية منذ سقوط الدولة العباسية وتوالت عليها الكثير جدا من القوى الطامحة والحضارات الفتية والمتقلبة حتى ألغت وشوهت التبعية الثقافية لقرون عديدة هويتها وموروث حضارتها, وبالتالي أي نظام سياسي يخرج به المجتمع سيمثل الهزيمة التاريخية المتعاقبة والهوية الممزقة لهذا المجتمع الذي يلوذ ويتوارى خلف قناع ثقافي واه غير أصيل تمكن المجتمع من خلق ملامحه بفعل التوازن الروحي والنفسي التي تحتاجها المجتمعات لتكوين ثقافة جمعية تلوذ تحت ثوبها الوهمي من قلق دفين يهدد وجودها.
ولكن على الرغم من تمسك المجتمع بأسباب عزلته الثقافية والإنسانية التاريخية كمبرر يستر قلقه من الوجود, إلا أنه كما ذكرنا في نفس الوقت يدرك بشكل عميق غير قابل للجهر الأساس الضحل والمتهاوي الذي يقف عليه والذي بشكل عميق يثير مخاوفه من الواقع الرديئ, ولهذا السبب يبقى هناك صراع داخلي وموازنة جمعية خفية في الهاجس النفسي الجمعي للمجتمع ما بين قيمه الثقافية وأزمة الواقع, فعندما لا يكون هناك أي جدوى لتغيير الواقع ولا تلوح بالأفق أي حركات سياسية او اجتماعية او شعبية واعدة وحقيقية تلقى قبول جماهيري واسع, يميل المجتمع إلى التمسك بموروثه الثقافي القديم والإرتداد إلى ملاذات وجودية تتجلى بقيم ثقافية تعكس هويته وهذا ما أحلناه للقلق الوجودي الجمعي, وفي حال تمخض الواقع عن حراك جمعي وأخذ يستشعر المجتمع فرصة حقيقية للخلاص من الأمان النفسي والوهمي في أي حركة تمتلك المحرضات الواقعية للتغيير, فإن المجتمع ينفض عن أكتافه غبار السنوات الغابره ورونق الماضي التليد وينتفض حاملا غليان وحمة عقود من الكتمان والحصر في شكل فوضوي وشرس تتلاشى فيه إرادة الفرد في القوى والهيجان الشعبي والجمعي العارم لإرادة الجموع, وبذلك تتحول المجتمعات الصامتة إلى حشود ثورية لا يمكن السيطرة عليها, وتشرع عملية البناء والهدم الجذري ما يخلف آثار من الفوضى الخلاقة والهدامة في نفس الوقت تساوي في حجم قوتها وعنفها حجم سوء الواقع والتخلف والفساد الذي كان سائدا وقبلت به الشعوب وتكيفت معه ثقافيا وواقعيا في سبيل أمنها الجمعي والثقافي, وكأن كل هذه القسوة والفجائية والهجيان تعبر عن غضب الوجود لسنوات طويلة من سبات التاريخ.
إذا إن القلق الوجودي الجمعي هو السبب وراء تكريس المجتمع للثقافة البالية بشكلها الإيدولوجي أو العقائدي وهو أيضا وفي نفس الوقت وراء المحرضات النفسية الجمعية في المجتمع للتجمهر والإتحاد عندما ينضج الواقع إلى المدى الذي يستطيع المجتمع فيه أن يجابه مخاوفه ويصرخ في مرآة ذاته ليعرّي تاريخه وضميره ويؤسس لوجود جديد لا مكان للقلق فيه.
وبناءا على ما ذكرناه فيما يخص قلق الوجود الجمعي فإنه في الواقع أن جميع الدول المحكومة بالإستبداد والتخلف والأزمات التاريخية العميقة, جميها قابلة للإشتعال والغليان عند وجود المسببات والمؤثرات المتاحة للقيام بذلك, ونعني بالغليان أي بالتغيير الثوري وليس التصاعدي الذي يتكون من النضوج الإجتماعي والإقتصادي والثقافي التدريجي, ويمكن أن نلاحظ أن الدول الناشئة ذات التاريخ الحديث وبالتالي المحدودة الأزمات التاريخية والثقافية, أقل عرضة بكثير لغضب الثورات والمتغيرات الجذرية مقارنة مع مثيلاتها من الدول العريقة تاريخيا وثقافيا وحضاريا, فالدول والمجتمعات ذات التاريخ الطويل الحافل في التقلبات السياسية والحضارية عرضة بشكل أكبر بكثير للتناقضات الثقافية وخاصة إذا كانت تساس من أنظمة كرست التخلف والإستبداد والعوامل التاريخية وأخذت من المسلمات الثقافية والعقائدية لتلك المجتمعات منطلقات عقائدية ثابتة جعلتها خطوط دفاع أولى عن أنظمتها وذلك لشرعنة وجودها من ناحية وتغذية التخلف الثقافي من ناحية أخرى, أو بمعنى آخر أن الأنظمة الإستبدادية تأخذ من المعتقدات الثقافية والتاريخية التي آمنت بها الشعوب والتي ترتبط بإرثهم وعقائدهم بحكم الموروث التاريخي لهم, جعلت الأنظمة الإستبدادية منه مشروع وطني وحق يتوجب الكفاح والنضال من أجله ولتحقيقه, وبالتالي لا يكون هناك مسبب ثقافي وعقائدي جمعي يتناقض ويعارض الواقع السياسي الإستبدادي, كنظريات المؤامرة والمقاومة والتدين السياسي وغيرهم من الذرائع التي تستخدمها الأنظمة الفاسدة في استهلاك شعوبها وعزلها الثقافي. وإن هذا النوع من الإستبداد الثقافي غير متاح بشكل مثالي في الدول الناشئة ذات التاريخ الحديث حيث تكون الثقافة المجتمعية آخذة بالنضج بالتوازي مع التقدم التقني والإقتصادي للدولة وهو ما يؤؤل بالنهاية إلى موروث ثقافي جديد نابع من طبيعة الحركة الإقتصادية والسياسية المتزامنة مع واقع المتغيرات في العالم المحيط.
فليس من الضروري على الإطلاق بأن تكون دولة ما ذات إرث تاريخي عريق متطورة فكريا وثقافيا عن دول لا تملك نفس القيمة التاريخية, خاصة إذا كان هذا التاريخ يعود لحضارات دخيلة وفتية أرست نفوذها ونموها الحضاري على تلك الأرض, فإن القيمة والتجربة التاريخية في هذه الحالة تعود للحضارة والثقافة الإنسانية بشكلها العام وليس للأرض التي قامت عليها تلك التجربة الحضارية فحسب, ولكن وبنفس الوقت لا يمنع الفشل السياسي الذي يؤدي إلى تخلف الدولة والتي ربما كانت ذات إرث تاريخي عريق من التصدير الثقافي الذي قد تجنيه الشعوب كموروث معرفي. فإنه كما أن للتاريخ أوابده وصروحه ونقلاته النوعية التي تنتج موروثا ثقافيا بنّاء, له أيضا إخفاقاته وإنهزاماته وأزماته التي تترك الشعوب في قلق غائر بين عبقرية الماضي وريبة المستقبل.
لذلك يتبدى جليا أن الموروث الثقافي التاريخي قابل للتغير والتكيف, ذو تفاعلات ومتغيرات مباشرة مع التقلبات السياسية والإجتماعية لحركة الشعوب, فكما هناك طفرات تاريخية في عمر الحضارة كالثورات الشعبية التي تأسس مورورثا ثقافيا جديدا واستثنائيا, وكما انه هناك أيضا نضوج تصاعدي سياسي واقتصادي في تجارب الدول يمهد لمقاييس ثقافية جديدة كالتي تشهده الدول الناشئة الحديثة, فإنه هناك أيضا في نفس الوقت ملمات ونكسات وخيبات سياسية واقتصادية قد تؤدي إلى تقهقر موروث ثقافي ناضج ومتحضر لشعب من الشعوب وارتداده حضاريا نتيجة الفشل والإخفاق السياسي والإجتماعي حتى يأخذ شكل بديل ثقافي فاسد وبالتالي بداية لعصور وفترات طويلة من التراجع والإنحطاط, وهذا واضح بشكل جلي في تجارب الشعوب وتقلبات الحضارة البشرية.
إن قلق الوجود الجمعي غالبا ما يترافق مع الموروث الثقافي المبني على خيبات تاريخية وبالتالي ثقافة إجتماعية مشوهة ومتناقضة, وبذلك ترتد الشعوب إلى آليات دفاعية نفسية بديلة توحد المجتمع تحت رايتها وعقيدتها, أما قلق الوجود الذي يلاحق الفرد منذ الأزل وكان السبب الغائر وراء كل هذا التاريخ الديني والروحي العريق للثقافة البشرية, فهو قابل للمداخلات الفردية الشخصية وأكثر مرونة وإبداع وجاهزية لأفكار خلاقة جديدة كونه لا ينضوي تحت رقابة مجتمعية وجماهيرية مباشرة, وحتى لو كان كذلك بطريقة غير مباشرة تعود للثقافة المجتمعية, ولكن حتى على الرغم من ذلك يبقى السلوك الفردي ينضوي على حرية أكبر ومجال للتفرد والتحرر والإنعتاق لا يقوى على فعلها المجتمع ككل إلا في حالات جد قليلة كالثورات وحركات التحرر التي أتينا على ذكرها في ما سبق.
إن هذا القلق الوجودي الدفين الذي يلاحق هواجس البشر منبثق عن وعي الأنسان وشعوره بالإنتماء لحالة معنوية عميقة وقد نضح جميع أشكال الفن والإبداع والمعرفة كحالة قلقة للتعبير عن الضياع والغربة الإنسانية داخل أقفاص الجسد. الجسد الذي كان سببا لكل العذابات الإنسانية المكبلة داخل قفصه ومحرضا وملهما لأكثر النوازع الجمالية للتحرر من قيوده.
أي لغز هام وتجلى في أجسادنا كعبادة حزينة.....
#أنس_نادر (هاشتاغ)
Anas_Nader#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟