|
سجناء مُطلقون، وسجانهم النسبي، تحت القصف
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 5811 - 2018 / 3 / 10 - 03:16
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
الغوطة الشرقية تحت القصف، وتوشك محمية سورية الأسد على إعادة احتلالها. أفكر في أني كان يجب أن أكون هناك اليوم. لو كنت هناك لكنت في أغلب الظن مع سميرة ورزان ووائل وناظم، مخطوفاً من قبل "جيش الإسلام" ومغيباً مع امرأتي وأصدقائي. كان هذا هو مكاني الصحيح. لكني لست في ذلك المكان. ترى ماذا يحتمل أن يكون الفعل الصحيح لمن ليس في المكان الصحيح؟ قد يفيد الجواب الذي تمليه البداهة المستقرة يفيد بأنه العمل، الاستمرار في العمل من أجل المغيبين والقضية العامة. لكني قلما استطعت أن أقول ذلك لنفسي باقتناع كاف. ليس أن العمل المطلوب يبدو أكثر وأكثر مهولاً، يتجاوز طاقات الفرد والمجموعة والجيل، ولكن فكرة العمل ذاتها كشغل على أشياء خارجنا تبدو لي ضيقة أكثر وأكثر. ولا يلوح صحيحاً في كل حال أن جهداً أكبر يثمر حتماً نتائج أفضل، حتى ولو شفع المزيد من الجهد بالانضباط والانتباه والإخلاص. عالم اليوم أكثر تعقيداً، وصراعنا أكثر مأساوية، من أن يكون "العمل" هو الحل، وإلا فهو المزيد من العمل. * أفكر في أن آمالي بانكسار غياب سميرة كانت مرهونة بتغير كبير في الوضع في الغوطة الشرقية، "تغير باردايغمي" كما يقال. ومنذ خطف سميرة لم يعد هذا التغير في النموذج منفتحاً على "إسقاط النظام". كان خطف سميرة ورزان وائل وناظم مندرجاً سلفاً في واحد من احتمالين: إمارة حرب سلفية لزهران علوش ووارثيه في الغوطة الشرقية عاصمتها دوما، أو إعادة احتلال المحمية الأسدية للمنطقة مثلما يبدو أنه يجري اليوم. في دوما يدافع عن أهلهم ضد قوة متوحشة أناسٌ اختطفوا زوجتي وأصدقائي. فوزهم المستبعد يبقي امرأتي وأصدقائي بين أيديهم. وهزيمتهم تعني وقوع مصير سميرة ورزان ووائل وناظم بيد الأسديين الذين كانت المرأتان والرجلان من الثائرين عليهم. أجد نفسي في واحد من أقسى أوضاع الإنسان. أتطلع إلى تغير الوضع على نحو يكسر سياسة الغياب الذي استخدمها الجيشإسلاميون ضدنا بخسة إجرامية وبما تمرسوا به من كذب حلال، وفي الوقت نفسه ليس هناك فرصة لتغير الوضع على غير يد من يفوقون جيش علوش-كعكة إجراماً وكذباً وخسة. هل تقول سميرة ورزان ووائل وناظم لأنفسهم ما كنا نقوله لأنفسنا في السجن الأسدي إنهم يريدون أن يفتح الباب، لا يبالون من يفتحه؟ لكن كيف لا يُبالى بمن قد يفتح الباب حين قد لا يفعل إلا كي يغلق بابه الخاص عليهم؟ ليتني استطيع ألا أبالي. لا أستطيع. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من احتقار عميق لجيش الإسلام قيادة وشرعيين وجهازا أمنياً مافيوياً واختصاصيو اغتيال، وهذا في منطقة محاصرة مساحتها عشرات قليلة من الكيلومترات. قائد جيش الإسلام الحالي، أبو همام البويضاني، يتكلم بينما الغوطة تقضم أن "لدينا أراض كثيرة". كم ينبغي أن يكون المرء عديم الإحساس حتى يقول ذلك بينما الغوطة ودوما تحت المذبحة؟ هذه التفاهة الهائلة تسببت بأذى هائل. ومهما تمليتُ في الوضع أجده أشد تراجيدية مما نعرف في مسرحيات وروايات وأفلام: امرأتي، السجينة السابقة التي جاءت إلى دوما لاجئة هرباً من سجانها الأسدي، اختطفها وغيبها جيش الإسلام الذي يحارب السجان الأسدي، سجان زوجتي وسجاني السابق، وسجان ملايين السوريين، الذي يسجن أيضاً الغوطة ودوما وجيش الإسلام ذاته في معكسر اعتقال متواضع المساحة منذ نحو خمس سنوات ونصف، كان يتعرض للقصف طوال الوقت! ولم يقدم السجان الجيشإسلامي (ولديه عشرة سجون أو أكثر وجهازاً إدارياً تجسسياً دينياً يقدر بما يقارب نصف كادره الذي كان يقال إنه نحو 15 ألفاً منذ عام 2013) على فتح سجونه حتى وهو يوشك أن يخسر رأسه بالذات. هل ربما يُسلِّم سميرة ورزان ووائل وناظم إلى النظام مقابل شيء ما؟ هل يستأثر بالأربعة بعض فلول العصابة السلفية المتعصبة، ويفاوضون عليهم من أجل أن ينجو برؤوسهم؟ هل يضع النظام يده على سجون جيش الإسلام ويأخذ الأربعة إلى سجونه بصمت؟ أو ربما بصخب إعلامي؟ ليكون السجان استمراراً للسجان الذي كان بدوره استمراراً له؟ هناك سيناريوهات متعددة، بعضها فاجع أكثر من بعضها، لكن ليس بينها ما هو غير فاجع. وأنت لا تستطيع أن تختار حقيْك معاً: حرية سميرة ورزان وناظم ووائل، وعدم عودة دوما والغوطة إلى المحمية الأسدية، ولا تستطيع أن تختار واحداً من هذين الحقيْن المتصارعين. هذا يصلح تعريفاً للوضع المأساوي. وهو وضع مأساوي مركب بعدُ من حيث أنه لا يُحاط به من قبل ما هو متاح من أدوات تفكير، ومن أدوات إحساس إن جاز التعبير. المتاح الفكري قليل الإحساس، ولا يسمح باستيعاب التجربة، ولا يبدو أنه يشعر أنها تتحداه وتدعوه إلى تجاوز نفسه. والأكثر إشهاراً بيننا لخانات يضعون في بعضها أنفسهم وفي غيرها غيرهم هم في الوقت نفسه الأقل أحساساً والأكثر اكتفاء بما لديهم. هذه الخانات سجون طوعية، والواحد من شاغليها سجين نفسه وسجان نفسه. وفي هذا ما يوجب أن يكون الصراع مع الوضع المأساوي هو في الوقت نفسه صراعاً مع أدواتنا القاصرة جداً عن تمثيل هذا الوضع. هذان في الجوهر وجهان للتغير الأكثر جذرية وثورية: تغيير الذات، التخلص من السجين والسجين معاً. * قلت فوق إني لا أجد عزاء في فكرة العمل، الاستمرار في العمل، المثابرة على الكفاح من أجل القضية. هذا مسلك نضالي، وقد يكون بطولياً. لكنه يبدو استمراراً لعادات في النشاط والتفكير والإحساس تفشل في أخذ التراجيدي بعين اعتبارها، وبما يمكن أن يحقق نقلة إلى الأمام في العمل والنضال ذاتهما. يلزم "عمل" يتجاوز تصوراتنا عن الاجتهاد والإبداع والانضباط والذكاء والنضال والعزيمة، وينفتح بالمقابل على صراعنا الذاتي وتمزقاتنا الذاتية، ليس فقط دون إدارة الظهر للموضوع، وإنما مع مواجهته والاشتباك معه. هذا مستحيل، لكنه شرطنا. شرطنا المأساوي. نعمل على أن نتغير بينما نعمل على التغيير العام. خسرنا الثورة، وتغيير الذات صار شرطاً للخروج من الخسارة. تغيير الذات يعني قتل الذات من أجل أن تنبعث بتكوين مغاير. يعني المأساة. ومن تلاقي المأساوي والتغير يمكن أن تنبثق الطوبى، مشروع جديد لحياة واجتماع جديدين، وثقافة جديدة، يفكر في الإنسان وفي كل إنسان كمشروع، لا كسجن. لعل في ذلك ما يسعف في كسر الاتجاه الغالب عالميا اليوم نحو تفرق الناس، وربما يستعيد البعد التعبوي أو التحشيدي الذي كانت تلبيه الشيوعية لمصحلة يوتوبيا عالمية، الإيمان بممكن مغاير. * لأنهم أكثر من سجناء مضاعفين بكثير، لأنهم مسجونين، مغيبين لا ترد من طرفهم أخبار قطعية، وفي منطقة مسجونة، يسجنهم فيها سجناء، ويحيط بالسجناء سجانون متوحشون، ولا يؤمل للمسجونين وللمسجونين المضاعفين عون من عالم يسجن نفسه في قوته وقسوته، لأنهم التجسيد الأقسى للمعاناة الإنسانية للسكان في الغوطة الشرقية، وفي عالم اليوم كله، لأنهم سجناء مطلقون، سميرة ورزان ووائل وناظم هم الرموز الأكثر بطولية ومأساوية للحرية في عالم اليوم. ولعلهم لذلك الأكثر إلهاماً لتغيير الذات والحياة والعالم.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقالات إلى سميرة (4) المظلومية، الظالمية، الظلامية: ظهور طائ
...
-
ثلاثة أبعاد لقضية اللاجئين
-
مقالات إلى سميرة (3): شبكة الغياب
-
ضد العملية التركية في عفرين
-
مقالات إلى سميرة (2): عن الصداقة والعداوة
-
إلى سميرة: أربع سنوات وأربع كلمات
-
مقالات إلى سميرة (1) عن الحب والكره
-
قضية سميرة ورزان ووائل وناظم، والإسلاميون
-
التغيبب القسري: منظور شخصي
-
الدين والتجربة الشخصية: شهادة
-
من المظلومية إلى الحرب الأهلية: جيش الإسلام ونظام الحزب الوا
...
-
رسائل إلى سميرة 7
-
إعادة بث السحر في العالم
-
رسائل إلى سميرة 6
-
الثورات العربية، الإسلاميون، الطائفية، اليسار والعالم/ حوار
-
رسائل إلى سميرة 5
-
رسائل إلى سميرة 4
-
حروب السيادة والتسوية المؤسسة للسياسة
-
رسائل إلى سميرة 3
-
رسائل إلى سميرة 2
المزيد.....
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
-
مدفيديف: لم نخطط لزيادة طويلة الأجل في الإنفاق العسكري في ظل
...
-
القوات الروسية تشن هجوما على بلدة رازدولنوي في جمهورية دونيت
...
-
الخارجية: روسيا لن تضع عراقيل أمام حذف -طالبان- من قائمة الت
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|