|
محتوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم في بنية الوعي الشرقي
فاروق إبراهيم جامل
الحوار المتمدن-العدد: 1484 - 2006 / 3 / 9 - 11:36
المحور:
حقوق الانسان
قبل الكتابة عن بنية الوعي الشرقي ، علينا أن نذكر نبذة مختصرة عن مسيرة بنية الوعي في شعوب دول أوربا الغربية ، منذ القرن الخامس عشر حتى القرن العشرين ، وبعد ذلك مقارنتها ببنية الوعي الشرقي . مرّت أوربا الغربية خلال الخمسة قرون الأخيرة بمجموعة من التغيرات النوعية في بنياتها الاقتصادية الاجتماعية ، أنتجت بنية وعي جديدة حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم . كان ملوك أوربا الغربية منذ القرن 12 حتى القرن 18 ملوكاً مطلقين ، علاقتهم بشعوبهم علاقة عمودية ، علاقة راعي برعيته ، الراعي يملي كلّ شيء والرعية تنفذ ، دون أي حق في الاعتراض أو النقاش . انتهت هذه العلاقة العمودية بين الحاكم والمحكوم خلال القرن 19 والنصف الأول من القرن العشرين في معظم أنحاء أوربا الغربية ، عندما أنتجت التغيرات الاقتصادية الاجتماعية والصراعات الطبقية التي حدثت خلالها ، بنية اجتماعية جديدة ، اسمها المجتمع المدني . هذا المجتمع المدني الجديد أبدع آليات جديدة تنظم العلاقة بين جميع مكوناته ، وكذلك بين الحاكم والمحكوم . مجموع هذه الآليات اسمها الديمقراطية ؛ وهي آليات تتجدد وتغتني مع الزمن وتغير الظروف . جوهر هذه الآليات هو إقامة علاقة أفقية بين الحاكم والمحكوم ، وبين مختلف مكونات المجتمع . لم يعد هناك راعي ورعية ، آمر ومأمور ، بل شعب ، مجتمع مدني يختار سلطته من خلال انتخابات عامة ، سلطة تخدم مصالح مختلف الشرائح والمكونات الاجتماعية . بعد أن يختار المجتمع السلطة عبر الانتخابات ، يراقب مدى خدمة هذه السلطة لمصالحه عبر آليات متعددة ، أهمها البرلمان والإعلام من صحف وإذاعات ، ومؤخراً الفضائيات ومختلف تقنيات المعلوماتية . عند تقصير السلطة في خدمة مصالح مختلف الشرائح والمكونات الاجتماعية ، لا يجدد المجتمع لاستمرار هذه السلطة عند نهاية فترة حكمها ، ويختار سلطة جديدة تضمن مصالحه أكثر من السلطة السابقة ، وذلك في إطار مبدأ تداول السلطة وليس احتكارها من قبل اتجاه أو حزب سياسي واحد . إذن ، المجتمع المدني ، الذي ظهر في القرن 19 ومنتصف القرن 20 في معظم بلدان أوربا الغربية و ما أبدعـه هذا المجتمع المدني من آليات الديمقراطية ، هو الذي غيّر العلاقة بين الحاكم والمحكوم من عمودية إلى علاقة أفقية ، تغتني وتتعمق بمرور الزمن وتغيرات الظروف ، ولم تعد علاقة حاكم ومحكوم ، بل مجتمع مدني وسلطة تـخـدمه ، علاقة عقد اجتماعي مدني عقلاني يسعى إلى أن يبتكر أفضل الآليات التي تؤدي إلى مشاركة المجتمع الحقيقية في صنع قراراته بنفسه والتي تمثل التجسيد الحقيقي لعلاقة المجتمع بالسلطة وكذلك لعلاقة مكونات المجتمع فيما بينها . في الشرق عموماً ، وفي عراقنا تحديداً ، كان الحاكم ، منذ سرجون الأول أي منذ حوالي خمسة وأربعون قرناً ، ولحدّ صدام حسن ، عبارة عن فيض إلهي ، ظلّ الله على الأرض ، علاقته برعيته علاقة عمودية مركزة . قد يقول البعض : هناك فترة في تاريخنا الحديث ( الحكم الملكي وحكم قاسم ) لم تكن العلاقة العمودية بهذه الدرجة من التركيز ، لكنها كانت فقط مخففة وليست أفقية ، وفترة أربعون سنة لا تؤثر في بنية وعي تشكلت خلال ( 45 ) قرناً ، وعمودية العلاقة المركزة جداً بين صدام وشعبه محت العلاقة المخففة في فترة الحكم الملكي وقاسم . طيلة هذه القرون ، كان على العراقي تقديم فروض الطاعة والولاء المنافق لحكامه.. وعند أية بادرة اعتراض، مهما تكن بسيطة ، يقول الحاكم لجلاوزته المحيطين به : ( آتوني برأس هذا المعارض ) . هذه عبارة المستبد الشرقي التقليدية ، ولا يشعر بأي حرج عندما يقولها ، لأنه يؤمن بأن خروج أحد أفراد الرعية عن طاعته ، يمثل معصية كبرى لأن الحاكم هو ظلّ الخالق في الأرض ، وبهذا تكون معصية أحد أفراد الرعية للحاكم بمثابة معصية للخالق . صحيح أن العراقيين عرفوا منذ القدم بتمرداتهم أو ثوراتهم على الحاكم ، ولكنها كانت تمثل الاستثناء ، والقاعدة هي إطاعة عموم الرعية للحاكم طاعة تامة . إذن ، كانت العلاقة بين الحاكم والمحكوم عمودية عالية التركيز ، لأنها دينية ودنيوية ، وليست دنيوية فقط كما كان الحال عند ملوك أوربا المطلقين . كذلك استمرت هذه العلاقة العمودية آلاف من السنين ، مما أدى إلى تشكيلها طبقة سميكة في بنية وعي الفرد العراقي . هذا ما يفسر ما شهده العراق من تصدع وانفلات في كافة الجوانب ، في الأمن والسلوك والقيم ، إثر سقوط الصنم . لأنّ هذا الصنم ، كان يمثل جميع صفات الطغاة ذوي العلاقة العمودية بشعوبهم . فهو حاكم شمولي عن طريق الحزب الواحد، ودكتاتور عسكري برتبة ( مهيب ) وهذه براءة اختراع خاصة به ، وهو مستبد شرقي لأنه كــان أفضل المطبقين لقانون ( آتوني برأس هذا المعارض ) والتي هي براءة اختراع الاستبداد الشرقي . عندما انتهى هذا الحكم العمودي ، العـالي التركيز ، نشأ فراغ هزّ وصدّع بنية وعي معظم العراقيين . ليس هناك حاكم بديل مباشرة ( فراغ سياسي ) أمر لم يعتده الوعي العراقي منذ آلاف السنين . هذا أدى إلى ظهور حالات جنونية من العنف واللصوصية ، التي أطلق عليها شعبياً مصطلح ( الحواسم ) ، والتي مارسها العديد من العراقيين ، بسبب عدم وجود حاكم بديل عمودي العلاقة ، بكل ما يعنيه هذا التعبير من دلالات . فقد كان البديل سلطة مختلطة من المحتل والوطني ، علاقتها بالعراقيين لا هي عمودية ولا هي أفقية ، لأن العلاقة العمودية يمكن أن تتم بقرار ، من خلال الإرادة وفي ليلة واحدة من دون ضحاها ، ولكن العلاقة الأفقية التي بشرت بها السلطة المختلطة لا يمكن أن تتم بقرار وإرادة ، وإنما عبر تشكل وصيرورة تستغرق مدىً زمنياً طويل وبعد تغيرات نوعية في الظروف الموضوعية بجوانبها المتعددة، الاقتصادية والاجتماعية ثم السياسية، وعلى التوالـي . ما حصل في العراق أنّ التغيير بدأ من السياسة ومن الخارج، أي من نهاية مسلسل التغيرات ومن جهة خارجية . هذا ما يفسر الاضطراب الحالي في العراق في كافة الأمور من أمـن وخدمات وفساد إداري ومالي وأخلاقي ( قـيَـم ) ، فسببه الاضطراب في بنية الوعي العراقي التقليدية المدمنة على السلطة المركزية القامعـة . وهذا ما يفسر أيضاً حنين البعض لسلطة صدام حسن ، لا لأنهم كانوا يحبونه أو موالين له في عهده ، وإنما لأن الحاكم العمودي العلاقة بهم اختفى ، والبديل الجديد ، الأفقي ، هو أمر جديد عليهم من كافة جوانبه ولا تستطيع بنية وعيهم هضمه واستيعابه . الانتقال من العلاقة العمودية إلى العلاقة الأفقية تصاحبها الكثير من السلبيات . فالسلطة الجديدة تريد أن تكون علاقتها بشعبها ، علاقة أفقية من خلال الانتخاب الحر وتريد أن يشارك الشعب مشاركة حقيقية في صنع قراراته . هذا في وعي العديد من العراقيين ليس سوى مزحة ، ولا يستطيع تصديقه ، لأنه سمع بهذا الكلام في الإعلام وتصريحات المسؤولين السابقين في مختلف العهود ، ملكية كانت أم جمهورية ، ولكنه لم يجد ، على صعيد التطبيق، أثراً أو ممارسة لهذا الكلام. هنا تكمن صعوبة وتعقيد مهمات السلطة الجديدة المنتخبة، التي لن يسهل مهماتها سوى الصدق في تنفيذ أطروحاتها على صعيد الواقع وليس على صعيد الكلام فقط . السياسة التي جاءت في نهاية التغيرات التي مرت بها أوربا ، عليها مهمة صعبة وشاقة في العراق . العقد السياسي الحالي بين مكونات المجتمع العراقي يجب أن تعقبه سلسلة تطورات نوعية في البنى الاقتصادية والاجتماعية ، لكي يتحول العقد السياسي إلى عقد اجتماعي يقود إلى بنية وعي جديدة تقوم على العلاقة الأفقية بكل دلالاتها ، بين مكونات المجتمع العراقي المتعددة ، وبين هذه المكونات والسلطة . السلطة قادرة على اختصار الزمن إلى بضعة سنين بدلاً من بضعة قرون كما كان الحال في أوربا ، لأن هناك الكثير من المستجدات في الظروف الموضوعية على المستوى العالمي والتي تساعد في سرعة الانجاز ، ولكن على الذاتي ( أي السلطة بشكل خاص ) والتي تمثل النخبة ، أن تقود المجتمع عبر الصدق والإخلاص والنزاهة في الكلام والممارسة ، من أجل بناء بنية الوعي الأفقي الحضارية المدنية العقلانية ، وتهديم بنية الوعي العمودية ، تدريجياً وبجميع مكوناتها ..
#فاروق_إبراهيم_جامل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنائية الدولية تطالب الدول الأعضاء بالتعاون لاعتقال نتنياه
...
-
رايتس ووتش: تواطؤ أميركي بجريمة حرب إسرائيلية في لبنان
-
الشتاء يهدد خيام النازحين في غزة بالغرق بمياه الصرف الصحي
-
اعتقالات واسعة بالضفة وكتيبة طولكرم تهاجم تجمعات لقوات الاحت
...
-
المحكمة الدولية: على الدول التعاون بشأن مذكرتي اعتقال نتنياه
...
-
الأمم المتحدة: نصف عناصر الجماعات المسلحة في هايتي أطفال
-
اليونيسف: نسبة غير مسبوقة... نحو نصف أعضاء الجماعات المسلحة
...
-
في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة وتزامناً مع انطلاق
...
-
آليات الاحتلال تطلق النار العشوائي على خيام النازحين في مواص
...
-
الأونروا: نصف مليون شخص في غزة معرضون لخطر الفيضانات
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|