|
المبدع محمد بلمو شاعر لا يركع للخراب
عبد الرحيم العطري
الحوار المتمدن-العدد: 1482 - 2006 / 3 / 7 - 11:23
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
بورتريه قريبا من جبل زرهون بالمغرب العميق تنبت قرية غائرة في القدم تدعى بني عمار ، منها جاءنا الشاعر المغربي محمد بلمو ، يحمل بين ضلوعه انكسارات مغرب سبعيني مغموس في الجمر و الرصاص ، هناك قبالة الجبل المطل على ريف محمد بن عبد الكريم الخطابي ، جرب الفتي تطويع الكلمات و هزم البياض ، انتصر منذ البدء لوادي عبقر ، فإما أن تكون شاعرا أو لا تكون . هكذا اختار أناشيد التراب الندي، و أفنان الزيتون و ملح الأيام الرديئة، ليكتب سير المعذبين في متاهات الانحناء ، لكنه لم ينحن قط ، بل ظل شامخا كالطود ، يرفض و يثور و يستقيل من عمله ضدا في التطبيع و الهرولة الماسخة . من بني عمار إلى فاس اليسار النبيل ، إلى السوسيولوجيا تحديدا سيرتحل محمد بلمو نحو مسارات جديدة من السؤال و النقد ، سيسعى إلى فهم مجتمع عصي على الفهم من خلال آليات المطبخ السوسيولوجي ، و في الآن ذاته سيغرق حتى النخاع في محاورة كتابات مهدي عامل و كل الأدبيات الماركسية ، لكنه لا ينسى الشعر بحيرته الجميلة ، لن ينسى الأدب الذي هاجر إليه منذ الصغر ، و سيتضح ذلك جليا خلال سنة الإجازة لما اختار سوسيولوجيا الأدب كأفق معرفي لبحث التخرج . هكذا هو محمد بلمو لا يفرط في الشاعر و الأديب فيه و لو في ظل شرط سوسيولوجي يستوجب القطع مع الحس و الحس المشترك . مرة أخرى سيجد بلمو نفسه مدعوا للغرق من جديد في برودة العاصمة ، سيلتحق بمدينة ضاقت ذرعا بربطات العنق و لاعقي الأحذية ، سيلتحق بمهنة المتاعب بجريدة ملونة في زمن الألوان و الأشكال ، لكنه لن يفرط قط في الانتصار " للطريق " جريدته و يساره النبيل . من أجل الخبز سيجرب السفر المكوكي إلى مدينة بلا هوية ، إلى البيضاء التي تمعن في الانمساخ و التردي ، و لأنه جاء في زمن غير الزمن ، و لا يعرف جيدا من أين تؤتى الكتف ، فسوف يعود خائبا إلى الرباط مستقيلا من " مغرب اليوم " احتجاجا على الهرولة و التطبيع . سنلتقي مجددا قريبا من " لاسافط " بالرباط نقارع أهوال " الثقافي " و "الاجتماعي" و نموت غيظا و ألما من تخريجات الوقت الرديء ، نمضي صباحات من الهم ، نتأمل وطنا متشظيا لا يهدي إلا الألم و اليأس لمواطنيه / رعاياه ، نتسكع في جرائد الآخر و النحن و نكتشف الهوة السحيقة التي تفصلنا عن صحافة الخبر لا الرأي ، حينئذ كان محمد بلمو كالطفل اللذيذ يبتهج و يبكي ، يغضب و يفرح ملء الحياة ، لأن الإنسان لم يمت فيه بالمرة ، و لأن بدويته العذبة لم تغادره بالرغم من كل هذه الكائنات الإسمنتية التي تحاصره و تمنعه من الحلم و الاشتهاء . الشاعر فيه متوثب كما العادة ، يهدي شعرا ، يهدي بحرا بل بحورا من العشق و التراب و الهشاشة ، من الفوضي يخلق جمالا ، من الانتظام يكتب هذيانا و اغترابا لروح شقية لا تطمئن للجاهز و المستهلك من الصور و الأطاريح . و عندما يبدأ الشعر ينتهي العقل ، ينطلق موسم الحكي و الرحيل نحو أقاصي الكلام ، عندما يرحل الكبار كما الصغار من دولة الشعر ، يبكي محمد بلمو و يقطر شعرا و ربما دما و ألما ،" يفقد صباحه ما تبقى من أضوائه و تمعن الروح في اغترابه ، و البلاد تتسكع في البلاد ، تنتحب الأغنيات و يهيم النادي في صلاة الفقدان " لن يكون إلا هو الإنسان حد الامتلاء و الشاعر حد الهشاشة ، لا يكتنز في أعماقه غير الحب و الشموخ الباذخ ، لن يكون غير حالم مائز يغرد في الليالي الباردة ، يحلق في سراديب الوقت ، برفقة الغيلان و حوريات البحر ، لن يكون هذا ال " بلمو" غير محمد بلمو كما هو لا كما ينتظر منه أن يكون . هو القادم من قدم الريف المغربي ، هو الشاعر الملتهب السيزيفي المارد البسيط ، هو الإنسان الذي لم يستحل ذئبا يعوي و يتربص بأحلام صغيرة كما حبات رمل و اشتهاء .محمد بلمو شاعر من زمن مغربي لم يولد بعد ، لهذا ترك " الجمهور " و التحق بقريته الوديعة ، ترك مدينة موبوءة بالقحط الروحي ، ليقدم النموذج الحيوي لعمل جمعوي ينهجس فقط بالتنمية لا غير ، إنه لا يريد بلوغ قشدة المجتمع كما يفعل الكثيرون من زبانية المجتمع المدني ، إنه يهفو إلى إسماع صوت قريته الجميلة ، بكل الطرق الممكنة و المستحيلة ، لهذا نظم مسابقة أجمل حمار و مهرجانا أول لسينما القرية و كرس برفقة قدماء تلاميذ بني عمار تقليدا سنويا للاحتفاء و الفرح ، فالمغرب العميق المغموس في الألم و التهميش من حقه أن يفرح و لو في عز الضياع و القحط . الشعر عند محمد بلمو معاناة و مكابدة مستمرة ، القصيدة عنده قد تأخذ شهورا كي تكتمل بهاء ، إنه لا يكتب الشعر كما باقي الكتبة و محبري الجرائد و المجلات ، الشعر كالتراب يتشكل عبر ملايين السنين من معادن و حيوات و مسارات شتى ، القصيدة لا تأتيه ساجدة متى شاء ، لكنها عندما تأتي تكون بهية شامخة و فاتنة في عيد الحب و الإنسان ، لهذا اختار " أناشيد التراب " اسما لانشقاقه البكر ، فالتراب يختزل كل تاريخ الإنسان و جغرافيا الروح ، و الشعر تراب ندي يعبق منه ريح الإنسان ، إنه كما قال عن نزار لما غادرنا تاركا ياسمينه في أعماقنا " شهادة في زمن الانسلاخ الصامت والمدوي، عنوان لبريد الشعر الذي لا يخاف وهو يترنح، ولا يتزلف وهو يغني، لا يركع للخراب، لا يتنكر للحقول، لا يفتح دكانا لتسويق اللغة " . هكذا يفهم بلمو الشعر ، و هكذا يتمثله أسطورة واقعية لكتابة اندلاق الزمن و تاريخ الأشياء ، شهادة على موت الإنسان و رحيل الربيع ، صوتا مدويا في وجه الدمار و الانهيار الفادح ، و ميلادا لحب و وطن و أمل بعيد المنال ، الشعر التزام في زمن خلاسي فاقد للهوية و العذوبة ، لهذا تظل القضية حاضرة بقوة في المتن الشعري عند محمد بلمو ، و يظل هو كما لا ينسلخ من جلده و لا يستحم في الوحل و لا يصطاد فيه قبلا و بعدا . يدمن التأمل و البكاء و الضحك أيضا . لكنه متيقن جدا بأن الموت وحده من يستقبل الشعراء بحفاوة هنا و الآن ، بالأمس رحل كثير من الأحبة من دولة الشعر " نعم ، تدور العقارب، كبغل طاحونة ،كلما دقت الساعة، تيقنت، وحده الموت ، يستقبلنا بحفاوة" ، أي نعم وحده الموت و التهميش يشرع الأذرع مرحبا بالشعراء ، فها محمد بديش يحتضر فمن ينقده يا بلمو ؟ و ها الفراشة مليكة مستظرف تطير في غير موعد الربيع فمن ينصت جيدا ؟ و من ينتصر للشعر و الإبداع و الإنسان عموما ؟ إلى ذلك لن تكون يا محمد بلمو إلا أنت القادم من تراب الصمود، لا تركع للخراب ، و لا تتنكر للحقول،و لا تفتح دكانا لتسويق اللغة و استكتاب الشعر المزيف ، فهنيئا لنا بك شاعرا لا ينمسخ، وصحافيا لا يهرول، و إنسانا عذبا ينتصر دوما للشعر و الشعراء.
#عبد_الرحيم_العطري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بول باسكون الراحل خطأ : عالم الاجتماع هو ذاك الذي تأتي الفضي
...
-
في حوار مع المبدع المغربي محمد شويكة
-
المبدعة مليكة مستظرف فراشة في غير موعد الربيع
-
حوار مع المبدع المغربي محمد الاحسايني بائع الفحم الذي صار رو
...
-
من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق 3
-
من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق 2
-
افتتاح وحدة للتكوين و البحث في العلوم الاجتماعية و التنمية ا
...
-
من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق
-
حوار مفترض مع الشاعر الراحل محمد علي الهواري
-
أين الجثة ؟
-
كوم . إيكار
-
تكريما لروح بول باسكون
-
في لقاء حميمي مع المبدع المسرحي العراقي جواد الأسدي
-
حوار مع القاص المصري محمد عطية محمود
-
التلقيح السوسيو سياسي بالمغرب :عقاقير سياسية لتسكين التوتر ا
...
-
سؤال الدعارة الرخيصة..تراجيديا الأجساد المتهدلة!
-
سكن هامشي أم سكان مهمشون؟
-
هل تصير الأسرة بسبب التوقيت المستمرمجرد مؤسسة بيولوجية للإنج
...
-
السوسيولوجيا معرفة تعيش حالة الاستثناء
-
من يضع الملح فوق جراح البيضاء؟
المزيد.....
-
إسرائيل توسع عملياتها في الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية تت
...
-
-هجوم- أوروبي مضاد في وجه أطماع ترامب التوسعية
-
السجن 14 عامًا لجندي بريطاني سابق مُدان بالتجسس لصالح إيران
...
-
كيف وقع حادث اصطدام الطائرة والمروحية في واشنطن؟ - بي بي سي
...
-
حرب -لا رابح- فيها... أوروبا تتوحد سياسة ترامب الجمركية
-
الاستخبارات الروسية: -الناتو- يستعد لحملة تشويه بزيلينسكي
-
-حماس- تعلق على إمكانية عودة إسرائيل إلى الحرب في قطاع غزة
-
رسميا.. جورجيا تسحب وفدها من الجمعية البرلمانية الأوروبية
-
ملتقى سلطنة عمان للسياحة يدعو لتفعيل التأشيرة السياحية الخلي
...
-
مبادرة المشري وتكالة.. هل تضع حدا لانقسام مجلس الدولة في ليب
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|