|
الفكر الإسلامي و إشكالية القطيعة .
مهدي جعفر
الحوار المتمدن-العدد: 5789 - 2018 / 2 / 16 - 18:16
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تقوم مختلف المجتمعات القديمة على تكوين موروث ثقافي يجيب عن أهم أسئلة الإنسان الوجودية ، كما يصوغ نموذج الفعل الإجتماعي و الأخلاقي و السياسي ، و ذلك ما يخلق بنية عشائرية أهم وظائف ثقافتها هي إبعاد أفراد هذه العشيرة عن الشرود ، الذي قد يؤدي إلى ما يسميه الأنثروبولوجي الفرنسي "إميل دوركايهم" بالأنومي أو ضعف الإنتماء إلى المجتمع ، لذلك تعمل الثقافات بواسطة أديانها و أساطيرها و عاداتها على ضمان حد أدنى من اللحمة الإجتماعية بين أفراد جماعة أو عشيرة ما ، و بهذه الطريقة تتقلص الفوارق و الإختلافات بينهم ، ما يجعل حياتهم تتأسس على التشابه و الأحادية و ليس على الإختلاف و التعدد .
بالإضافة إلى ذلك ، تتميز ثقافات المجتمعات القديمة بالجثوم أما حياة أسلافها ، فلا تقعد إلا كما قعدوا ، و لا تجلس إلا كما جلسوا ، و لا تحكم إلا كما حكموا ، و لا تقرأ إلا ما قرؤا و لا تتعلم إلا ما تعلموا . أو بكلمة علمية ، تحافظ الثقافات القديمة على "نظرية المعرفة" بمعناهى الإبستمولوجي الذي ترثها عن أجدادها ، ذلك بما تتضمنه من معنى العالم و الذات و الماضي ، و الآخر الذي لا ينتمي لثقافة السلف ، و نمط السياسة و الحكم ، ثم المصير أي ما بعد الموت .
أما ثقافة المجتمعات الحديثة ، فإنها تقوم على "القطيعة" مع موروث أجدادها ، و تصوغ نظرية معرفتها الخاصة بالعالم و الطبيعة و الإنسان ، و تخلق نموذج حكم و سياسة جديد ، كما تبدع منطق فعل أخلاقي مغاير ، و ذلك ما يفتح أمامها سبل اكتشاف ما لم يكتشفه أو يعرفه أسلافها ، الإكتشاف الذي يعد أساس كل مبادرة إنسانية تروم التقدم و التطور و الإرتقاء . لا يحصل ذلك إلا عن طريق إحداث قطيعة مع نمط تفكير الأجداد و إبداع نمط تفكير جديد هو أقرب إلى روح زمن الخلف منه إلى عبق أيام السلف ، و في ذلك تظهر أحد أهم سنن الطبيعة و الحياة ، و هي التغير و التبدل و التقدم ، إذ أن كل ظواهر الطبيعة تتعرض للتغير و تتميز بالإختلاف ، و ذاك نفس ما يتصف به تاريخ الإنسان .
غير أنه يبدو أن التغير و التجديد كأهم سنن الطبيعة ، تعارضه بعض الثقافات الجاثمة أمام العالم و ليس الواقفة بإزائه . لعل الثقافة الإسلامية بمعناها "السياسي" في الوطن العربي تعد أبرز و أوضح نموذج عن ذلك ، إذ يرفض الإسلامي مصدر المعرفة المعاصرة و هي "العقل" و يُصر بأن مصدرها "الغيب" حصرا ، كما يرفض نموذج أخلاقي معاصر و لا يقر نموذجا أخلاقيا إلا ما ما أقره السلف ، يستنكر نمط الحكم الجديد و يصفه بالجاهلي و يستمسك بنمط حكم عتيق بيننا و بينه من الزمن آلاف السنين ، يلعن و يكفر أهل الأرض كلهم و لا يستسيغ بأن منطق التكفير لا يتيح سبل العيش في عالم مُعَوْلَمٌ ، كل شيء فيه مرتبط بكل شيء ، فكيف تكفر من يصنع لك حتى السجاد الذي تصلي عليه .
لكن المفارقة ، عندما تجد إسلاميا يستعمل و يتمتع بشكل الحياة الحديثة و في نفس الوقت يكفر من أبدع هذه الحداثة ، فلو قلت لسلفي: إذا أردت أن تحرث أرضا فاستعمل المحراث الخشبي القديم ، لتعجب و رد عليك بأن البشرية اخترعت المحراث البخاري الجديد الذي يتحرك بالديازيل و ليس بالدابة . لو اقترحت عليه أن يكتب رسالة لأخيه في أقاصي الأرض ، و يبعثها مع مرسول يوصل الرسالة على قدميه أو عبر حصان ، لضنك أهبلا و رد عليك بأن البشرية طورت وسيلة تلحق الرسائل بأهلها في ثوان فقط . أما لو اقترحت عليه أن نسافر بعيدا عن طريق دابة أو فُلك ، لشك في عقلك و قال: البشرية اخترعت الطائرة توصل المسافر حيث ما يريد في ساعات بل دقائق . غير أن مع تمتع السلفي الإسلامي بكل مخترعات الإنسانية الجديدة ، لو عرضت عليه ، تأسيس الدولة على أساس المواطنة الجديدة ، و السياسة على أساس العلمانية الجديدة ، و المجتمع على أساس القانون الوضعي الجديد ، لكفرك و لعنك و هددك بالويل و الثبور و عظائم الأمور ، و لاستمات في المطالبة بدولة إسلامية و تطبيق الشريعة التي يقطع كل عاقل باستحالة عودتها في ثوبها السلفي القديم.
و ممن أجمعوا على هذه الإستحالة ، أهم المفكرين -من غير السلفيين- الذين ظهروا في العالم الإسلامي، من بينهم الثلاثة الكبار المغاربيين ، "محمد عابد الجابري" ، "محمد أركون" و "عبد الله العروي". إذ لاحظ الجابري أن العقل العربي انحط عندما تحالف العقل العرفاني -الصوفي- مع العقل الفقهي ، و هو ما هَمَّشَ العقل البرهاني أو الفلسفي أو العقلاني ، الذي أتبث التاريخ أن لا نهوض و لا تحضر إلا بعقل برهاني ناهض و متحضر ، و كحل لمعاودة النهوض يقترح الجابري إحداث قطيعة مع العقلين البياني و العرفاني ، و بالمقابل إحداث "الوصال" بين المسلمين و العقل البرهاني ، أي العقل الفلسفي و العلمي ، الذي ينزع إلى التقدم و الإرتقاء و هو ما من شئنه أن يسهل قيام الحضارة المنتظرة ، عكس العقل البياني و العرفاني الذي يتميز بالنكوص و بمنطق قياسي إلى ما فات ، و الذي غير مهتم بالتنظير لأسس جديدة ليقوم عليها المستقبل.
أما "أركون" ، فقد لاحظ أن تراث المسلمين (حتى لا نقول تراث الإسلام) أصابه الجمود و التكلس في مختلف مظاهره نظرا لتحالف الخليفة مع الفقيه ، أي تحالف الدين مع السياسة ، ذلك ما دعاه إلى المنادات بتحييد الدين من حقل السياسة ، ثم إحداث قطيعة "جزئية" مع الأسس الفكرية التي تقوم عليها ثقافة المسلمين ، سواء البيانية أو العرفانية أو البرهانية ، و هو ما من شأنه أن ينتج ثقافة جديدة قد تيسر الطريق نحو الخروج من حالة العطالة الحضارية ، التي يعيش فيها المسلمون منذ ما يقارب سبعة قرون .
من جانبه فإن "العروي" يتجاوز الموقفين السابقين ، و يرى بأن لا سبيل للإنخراط في الحداثة و الحضارة إلا بقطع تام مع تراث السلف ، حيث ينظر هذا المفكر إلى الثقافة التي أنتجها المسلمون في القرون السابقة على أنها لا تتلاقى و لا تتوافق في شيء مع ثقافة عصر الحداثة الذي نعيش فيه ، ما يستدعي لا الإستمساك بشيء من تراث السلف و ترك أشياء كما دعى إلى ذلك الجابري و أركون ، بل يقتضي ترك كل ما لو علاقة بثقافة السابقين ، و بالمقابل إبداع تراث حداثي لا يرتبط بأي علاقة مع تراث الأجداد . لأنهم لم يعيشوا إطلاقا ما يعيشه الأحفاد من مشاكل لم تكن لتظهر إلا في هذا الزمن ، ما يستلزم إبداع مخرج جديد ، قطعا لا يوجد أساسه عند أحد من السلف، لأن الحل يختلقه إلا من يعيش المشكل لا من لم يخطر على باله قط. هكذا فالقطيعة عند العروي إما أن تكون كلية و إما لا تكون .
هكذا إذن فلم يخفى على مفكري هذه الأمة من غير السلفيين و الإسلاميين ، أن العودة إلى التاريخ و الحضارة تقتضي إحداث قطيعة مع ثقافة الأجداد و تأسيس ثقافة حديثة ، رغم اختلاف مستويات القطيعة بين المفكرين الثلاثة ، إلا أنني أجد نفسي مناصرا للمستوى القطيعة الذي اقترحه العروي ، أي القطع كليا مع ثقافة السلف و إبداع تراث و ثقافة جديدة تتأسس على المنطق الحديث ، و ليس على منطق من عاشوا في القرون الوسطى ، إذ بدون هذه القطيعة الكلية فلا مستقبل غير ما في الحاضر من ضنك و انحطاط .
#مهدي_جعفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العصابات الإسلامية و الثورة ، من هدم الدولة إلى هدم الإنسان.
-
الإلحادوفوبيا في العالم العربي .
-
الأسطورة كمُعيق للتاريخ ، والعقل كمشترك إنساني
-
داعش لم تحدث أي أثر على تفكير الإنسان العربي
-
الحراك الشعبي الإيراني بين ابن سلمان وترامب
-
مخاطر الأفكار ، بين إدغار موران و طارق رمضان .
-
عولمة الجوع ، و الإحتباس الغذائي الجديد .
-
فصول من الفكر الإسلامي المعاصر .
-
العلمانية ليست دينا جديد
-
هل نسي الرأي العام المغربي قضية حراك الريف ؟
-
في رحاب فكر -فراس السواح- الميثولوجيا و الأديان
-
ملاحظات حول حراك الريف
-
غوستاف يونغ في محالة لفهم الإنسان المعاصر
-
حرية الصيام و الحق في عدم الصيام .
-
مواقف مفكرين مغاربة من العلمانية و علاقة الدين بالسياسة .
-
قراءة في كتاب -الحقيقة الغائبة- لد.فرج فودة .
-
العلم في منظوره الجديد .
-
فوبيا الفلسفة بين مجتمعات الحداثة و مجتمعات القدامة .
-
الهوية و إشكالية الإختلاف .
-
قراءة في كتاب د. وفاء سلطان -نبيك هو أنت- .
المزيد.....
-
السيسي لرئيس الكونغرس اليهودي العالمي: مصر تعد -خطة متكاملة-
...
-
الإفتاء الأردني: لا يجوز هجرة الفلسطينيين وإخلاء الأرض المقد
...
-
تونس.. معرض -القرآن في عيون الآخرين- يستكشف التبادل الثقافي
...
-
باولا وايت -الأم الروحية- لترامب
-
-أشهر من الإذلال والتعذيب-.. فلسطيني مفرج عنه يروي لـCNN ما
...
-
كيف الخلاص من ثنائية العلمانية والإسلام السياسي؟
-
مصر.. العثور على جمجمة بشرية في أحد المساجد
-
“خلي ولادك يبسطوا” شغّل المحتوي الخاص بالأطفال علي تردد قناة
...
-
ماما جابت بيبي..فرحي أطفالك تردد قناة طيور الجنة بيبي على نا
...
-
عائلات مشتتة ومبيت في المساجد.. من قصص النزوح بشمال الضفة
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|