لقمان الشيخ
الحوار المتمدن-العدد: 5779 - 2018 / 2 / 6 - 00:28
المحور:
سيرة ذاتية
كان الطرف الأيمن من مدينة الموصل في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي مركز الحياة والنشاط اليومي , و كان الطرف الأيسر من المدينة خالي من السكن , ما عدى حي الفيصلية والباقي عبارة عن بساتين وغابات وأحراش , مع مسكنين,هما قصر نجيب الجادر وقصر السرجيان , وكانت البساتين والأحراش محل للنزهة في أيام الربيع التي هي الفرصة الوحيدة التي تقضي العوائل في ربوعها فرصة للراحة والتسلية , تأتي حاملة الطعام و الشراب خاصة بمناسبة جمعة الخضر يوم احد دير ماركوكيس عندها تكون فرصة للعوائل التمتع بجمال طبيعة الموصل الخلابة , لم تكن في حينها منطقة الغابات الحالية بل كانت أحراش وغابة تدعى بحاوي المدرس تمتد من حديقة المدينة المركزية ألى دير ماركوركيس . وكانت هذه الأحراش يستخدمها سكان المدينة لجلب حطب الشعلة للطبخ , عندما لم تكن حينها المطابخ الحالية التي تعتمد الآن على الغاز والكهرباء , مع غابات وأحراش أخرى من الضفة اليمنى يطلق عليها حاوي الكنيسة والتي تبدى من منطقة درهيل القريبة من عين كبريت حتى دير مار ميخائيل لهذا اطلق عليه هذا ألاسم لكونه يرتبط بالدير. في فصل الخريف عندما تقل نسبة مياه النهركانت تظهر مساحة
واسعة من الأراضي المشبعة بغري النهر التي كانت تستغل بشكل جيد لزراعة أنواع من المنتوجات الزراعية يطلق عليه باللهجة الموصلية ( الشهغوق ) ويقصد أنها الشاعروق , وهي بساتين تمتد على ضفة النهر بمحاذاة حاوي الكنيسة , وكانت تمتاز بجودة مذاقها وكبر حجمها , منها البطيخ والشمزي والخيار والترعوز , يسمى ترعوز الشعغوق , وهو كبير الحجم لكنه يبقى طازجا لذيذ الطعم , لكن مع الأسف الشديد انتهت زراعته بعد هجمة العمار لينسى الناس هذا النوع الجيد من الخضار, وأذكر مشاهد كانت تمثل شكل خاصة بجو مدينة الموصل زالت الآن أيضا لكنها بقت في مخيلتي لأني عشت في ربوعها وقد جسدتها شخصيا من خلال لوحات فنية ,منها لوحة بعنوان( الكب) وفيه جو يملى مساحة واسعة صفت على أطرافها شمزي ( الركي) الموصل الشهير بحجمه وشكله ومذاقه الذي يميزه عن مثيله خارج مدينة الموصل , ومشهد أخر هو غسالات الصوف , فيه يعمل عدد من فتيات منطقة حي الجوبة القريب من جامع الخضر في المدينة يعملن في غسل الصوف في نهر دجلة , هذا المنظر جسدته ايضا في لوحة لي عرضت في المعرض الأول في مدينة الموصل سنة 1956 لخرجي معهد الفنون الجميلة في بغداد, هذه اللوحة أقتناها مني الفنان والمصور العالمي المرحوم مراد الداغستاني .
مشهد آخر كان يأخذ نصيبه من الماضي الجميل للمدينة , هو سوق باب السراي , الذي يبدأ من فضوه أمام خان حمو القدو , على بابه يجلس أبناء الخوشي وهم يعرضون
شدات من الورد ذات الشذا والعطر الفواح مع كومة من الفستق الطري الذي جلبوه للتو من بساتين الموصل التي كانت تزرع أشجار الفستق , لكنها مع الأسف الآن جرفها العمار ولم يبقى منها أثر , وعلى علو منهم يقع مقهى خلال النهار , يتحول مساء إلى ملهى كوكب الشرق تقام فيه حفلات الغناء و الطرب على صوت المغنية سلطانة يوسف باغيتها التي اشتهرت بها وهي ( طير السعد غنى وفرح , أليلة وياكم حلت يلا ددير الكأس ) على وقع دنبك سيد مهيدي ورقص الفنانة كاترين التي تقلد في الرقص الفنانة المصرية ( تحيا كاريوكا )
من فضوت سوق باب السراي تتفرع منها دروب على يمناها يجلس قاسم بائع الدوندرما , وهو ينادي بصوته وبمرح ( قيمغلي بوز , قاسم الديوز ) ,وعلى يساره يمتد درب يوصل إلى حمام باب السراي وكان كل يوم جمعة يأتي فوج من الجنود الهند خلال وجود حامية بريطانية في المدينة , وعلى عمائمهم قطعة خضراء دليل كونه مسلمون وكانوا يصرحون دائما ( الحمد لله مسلمان ) , وكان هذا الدرب سوق الإسكافية ( القوندرجية ) وكان سكان الموصل اعتمادهم على هذا السوق لعدم وجود مصدر آخر لشراء الأحذية لأن شركة باتا للأحذية وشركة زبلوق لم يكن لهم جود في المدينة , كما لم تكن معامل لصنعا يزداد الطلب لقرب أيام الأعياد , حيث يستمر العمل ليلا ونهار حتى يوفرون للجميع ، , وفي يوم العيد يتجه الصبية إلى منطقة باب الطوب حيث مجمع باصات النقل
الخشبية , ينادي أصحابها ( عشرة عشرة علنبي ) يقصدون عشرة فلوس للنقل إلى منطقة النبي يونس وكانت حينها خارج المدينة , عندها تكون في جيوبهم العيدانية وهو المبلغ الذي حصلوا عليه صباح العيد من الأهل والأقارب , وبعد تناول سندويج !! ( العنبة والصمون ) مع كمية من كليجة العيد تملى جيوبهم بعدها تتجه الباصات محملة بالصبية فرحين وهم يرددون أغاني على قرع الدنبك والتصفيق الحار ( جاء العيد ومد ايدو كلمن يلبس جديدو , غاح العيد وقلقو كلمن يلبس خواقو ) هكذا يكون الحال طول الطريق .
هذا للصبية اللذين أحبوا ركب سيارات النقل وزيارة النبي يونس , لكن آخرون فضلوا السينما , خاصة في أيام العيد تعرض أفلام يرغبها الصبية , وكانت سينما الملك غازي المجاورة لمركز الشرطة العام لصاحبها الرجل اليهودي ( أبن زرو ) تعرض أفلام هندية بطولتها ( جابك والي ) التي اشتهرت بتفوقها على خصومها من الرجال بطريقة تثير أعجاب الحاضرين يشتد التصفيق والنداء للمزيد من الصراع , في هذه السينما جرى حادث مروع في عيد سنة 1948 في نهاية عرض الفيلم وكان مزدحما بالصبية صغار السن , حدث تدافع سقط عدد منهم خلال التدافع تحت أقدام الآخرين راح نتيجتها عدد من الضحايا.
وكنت حينها داخل هذه الواقعة أحمل بيدي أخي ستار الشيخ وكان عمره 6 سنين , استطعت بجهد جهيد الخروج بسلام , أما سينما الحمراء لصاحبها الرجل المسيحي ( كامل )
في شارع حلب القريبة من ثانوية الشرقية أفلام طرزان , مرة بطولة (جوني وسمولر) وأخرى بطولة ( بستر كراب ) وكان الصبية يفضلون دور (بستر كراب) لكونه أكثر ارتباطا بطبيعة الغابة وارتباطه بمربيته الشادي (القردة )
أعود إلى منطقة باب السراي , فضوه تتوزع منها أربع دروب , أهمها الدرب الذي يصل إلى مركز الحركة التجارية المهمة في المدينة وخلال السير تصادفنا محلات بيع التحف والحاجات البيتية التي تنتشر ببضاعتها الجيدة تسمى (المغازات) , وخلال السير يتوارد صوت المطارق والجواكيج من قيصرية على الجهة اليمنى , هذه الأصوات نتيجة عمل حقائب السفر المصنوع من التنك , خلال الحرب العالمية الثانية أنعدم استيراد الحقائب الجلدية , لذا اضطر المواطنون لشراء تلك الحقائب , بعدها يأتي مدخل جامع العبدال وعلى بابه يوجد محل جهاد أبو الشربت , الذي تنتشر في أرجاءه عطر عصير العنب حلو المذاق دائما يوجد عدد من المحبين لهذا الشربت , بعدها مطعم القليجي ( أتا ) الذي يقدم قليته لوجود أناس يرغبون تناولها خاصة أيام الشتاء , بعدها ساحة يتوسطها دكة يجلس عليها بايعوا الخبز الموصلي , على اليسار خبازو دكة بركة ذو اللون الأبيض , وعلى اليمين خبازو باب البيض ذو اللون الأسمر والأكبر حجما بعدها دكان الرجل المسيحي يعرض حلاوة السكر مطعمة بالجوز والكنيلة , بجواره دكان ملك الطرشي طه ملك الذي اشتهر بمنتوجه الذي لا ينافس, بعدها تتوارد رائحة الشواء من دكان سيد بكر الذي اشتهر
بتقديم أجود أنواع الكباب , والى جواره مطعم باجة مصطفى الباججي الذي شمر عن ساعدية ليعرض عضلاته لكونه مولع برياضة جمال الجسم منافسا للرياضي إسماعيل كبابجي ,وخلال السير تتوارد أسواط تشابه موسيقى الجاز التي تأتي نيجة مطارق سوق الصفافير , بعدها تأتي دكاكين الأيمنجية , وهم يجلسون أمام قطعة لوحة من شجرة معمرة سميكة تتحمل ضغط الواقع عليه خلال العمل لهذا الشكل من الأحذية أسمها ( اليمني) وتعليلي لهذا النوع من الأحذية جاء من المهاجرين من اليمن واستقرارهم في مدينة الموصل.. أعود إلى دكة الخبازين لدخول درب يقودني الى شارع الملك غازي , في البداية دكاكين السراجين , التي تصنع منها سروج الخيل , والأحزمة والأحذية الصيفية ( الصنادل والنعالات ) , بعدها نشم رائحة القهوة وهي تطحن بواسطة الجاون , يقوم رجال يدكون في جاون كبير من المرمر بواسطة مدكات خشبية لطحنها وتقديمها لمحبيها , هذه الطريقة كانت الوحيدة لتحضير مسحوق القهوة لعدم وجود مكائن كهربائية لطحنها , والآن عودة إلى فضوة باب السراي والسير بدرب آخر نحو شارع الملك غازي أيضا , في البداية رائحة بخار محل ( أوتجي) يصحح في قالب بحجم الفيس ( الطربوش) ِشكله الطبيعي بعد غسله وتنظيفه , لكون لا زال عدد من مواطني الموصل يتعممون الفيس , بعده يأتي درب ضيق يقع بيت الراقصة كاترين , وكنت متعمد المرور به لمصادفة رؤية بنتها التي كنت معجبا بها
وكانت تلاحظ اهتمامي بها , على مثل كلمات المغنية صباح ( بعيد بعيد حبيتك) .... يتبع
#لقمان_الشيخ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟