ابراهيم منصوري ومحمد لعباد
الحوار المتمدن-العدد: 5765 - 2018 / 1 / 22 - 12:19
المحور:
الصناعة والزراعة
ملاحظات تقديمية:
لا شك أن العلوم الاجتماعية بصفة عامة والعلوم الاقتصادية بصفة خاصة رغم غِناهَا النظري تتميز بفقرها المنهجي الواضح (Methodological Poverty). كم شاهدنا على الفضائيات وقرأنا ورأينا على الشبكة العنكبوتية أُناساً مِنْ شتى الأطياف منهم صُناعُ القرار (Decisionmakers) وحتى الأكاديميونَ يتحدثون ويخطبون وينتقدون ويتظاهرون بالتحليل العلمي بل بتطبيق أرقى البَرَادِيغمياتِ (Paradigms) في الاقتصاد والسياسة وما دونهما. ففي ميدان العلاقات المالية والتجارية مثلاَ، يَنْحُو الساسة بل حتى الأكاديميون إلى اعتبار خفض معدل الصرف الحقيقي الفعلي (Real Effective Exchange Rate) عاملاً مؤثراً إيجاباً أو سلباً على رصيد ميزان الأداءات دون الاكتراث بخاصيات الاقتصاد الوطني المراد تحليله بل دون الغوص في النظريات الاقتصادية التي درسوها وهم جالسون على كراسي جامعاتهم؛ أي أن كُلاً يغني على ليلاه بلغة الأدب العربي الذي برع فيه العرب من المحيط إلى الخليج. نعرف أن الكثير من الناس يلعنون الساسة والسياسيين لأنهم كاذبون في كثير من الأحيان ولكن العجب العجاب يكمن في أن الأكاديميين أنفسهم يكذبون وفي شتى الحالات يتملقُونَ. بوجه صَلْبٍ يطل الأكاديمي فجأة على شاشة من شاشات هذا العالم العربي الفسيح فيخوض في العِلْمِ خوضا من السياسة إلى الاقتصاد وحقول شتى حتى لَيُخيلَ إلى المشاهد أن المدعو موسوعي بمعنى الكلمة.
تسعى هذه الورقة إلى توضيح الآثار المترتبة عن تغير معدل الصرف الحقيقي الفعلي على رصيد ميزان الأداءات في المغرب مع الأخذ بعين الاعتبار لخصوصيات اقتصاد البلاد (أنظر مثلاً Mansouri, 2003 Mansouri and El Baz, 2018). إلا أن أهمية هذه الورقة تتجلى بالخصوص في مظاهرها النظرية واالقياسية والمنهجية (Theory, Measurement and Methodology). من أجل معالجة هذه الإشكالية، ارتأينا أولاً وقبل كل شيء إلى استعراض ومناقشة الأدبيات الاقتصادية المتعلقة بالموضوع في إطار المبحث الأول لورقتنا البحثية قبل الغوص أكثر في دراسة محددات ميزان المدفوعات في المبحث الثاني وإجراء الاختبارات والتقديرات القياسية الضرورية في المبحث الثالث والخروج بالنتائج القياسية الضرورية مع تأويلها وتمحيصها وربطها بالسياسات العمومية في المغرب وصياغة ملاحظات ختامية في المبحث الرابع مع العلم أن تعميم هذه النتائج على بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يبقى وارداً في حالة الأخذ بعين الاعتبار لخصوصيات الاقتصاديات الوطنية المراد دراستها.
تبين نتائجنا القياسية المستقاة من نماذج تصحيح الخطأ (Error Correction Models) المُقَدرَة في الفترة الممتدة من 1972 إلى 2014 أن ارتفاع معدل الصرف الحقيقي الفعلي (Effective Real Appreciation) للدرهم المغربي يؤثر سلباً على رصيد ميزان الأداءات للبلد كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي على المدى القصير كما على المدى الطويل (Short and Long Run Effects). إلا أن الأهم في هذه الدراسة يكمن في أهمية الأسس النظرية (Theoretical Foundations) وقياس المفاهيم (Measurement of Concepts) وإجراء التقديرات والاختبارات القياسية من أجل فهم علمي أحسن للعلاقات السببية بين المتغيرات (من أجل فهم عصري لاختبارات السببية "Causality Tests"، أنظر Granger and Newbold, 1974 Johansen and Juselius, 1990). تبقى الإشارة إلى أن المؤلفَيْنِ قررا نشر هذه الورقة البحثية بالتزامن مع قرار المغرب تبني نظام سعر صرف عائم ومُدَار (Managed Floating Exchange Regime) ابتداء من يوم الاثنين 15 يناير كانون الثاني 2018.
1. عرض ومناقشة لأهم الأسس النظرية المتعلقة بمفعول سعر الصرف الحقيقي على أرصدة ميزان الأداءات:
يعرف كل من درس العلوم الاقتصادية على كراسي جامعات الدول المتقدمة (Developed States) أو البلدان السائرة في طريق النمو (Developing Countries) أن مفعول معدل الصرف على رصيد ميزان الأداءات (Balance of Payments Surplus) يتوقف على فرضية أو شرط Marshall and Lerner (Marshall-Lerner Condition) والذي بموجبه يؤثر ارتفاع سعر صرف العملة الوطنية سلباً على رصيد ميزان الأداءات إذا وفقط إذا (if and only if) كان مجموع المُرُونَتَيْنِ السعْرِيَتَيْنِ عند التصدير والاستيراد (Import and Export Price Elasticities) بالتتابع يفوق 1. هنا لا بد من الإشارة إلى أن معدل الصرف يؤثر في الصادرات كما يؤثر في الواردات أي أن خفض قيمة العملة الوطنية إن أثر إيجاباً على الصادرات عن طريق التقليص من أسعار السلع والخدمات المصدرة بالعملة الصعبة فهو يشجع الاستيراد أيضا عن طريق تقليص أسعارهاً بالعملة الوطنية. وفي هذا الإطار تكمن أهمية فرضية أو شرط Marshall and Lerner (للمزيد اقرأ بين السطور Marshall, 1890).
في إطار الأسس النظرية لمفعول معدل الصرف على ميزان الأداءات لا بد أولاً وقبل كل شيء من معرفة المتغيرات الأخرى التي تؤثر في رصيد ميزان الأداءات مع الإلمام بالطرق العلمية لقياسها ومفعولها. سنحاول في ما يلي التعرف على هذه المتغيرات ومنهجية قياسها والأسس النظرية لآثارها على المتغير قيد الدراسة.
2. ما هي محددات أرصدة ميزان الأداءات؟: قراءات نظرية معمقة
يعرف دارسو علم الاقتصاد أن القاعدة الأساسية للتحليل الاقتصادي على المستوى الشمولي (Macroeconomic Analysis) هي ما يصطلح عليه بنموذج IS-LM (IS-LM Model) الذي طوره الاقتصادي البريطاني John Hicks سنة 1937 والذي بفضله أو غيره نال Hicks جائزة نوبل في الاقتصاد وبالخصوص نظراً لجهوده المشكورة في سبيل مزج النظريتين الكلاسيكية والكينيزية (Classical and Keynesian Theories) في إطار نموذج متكامل. ورغم الأهمية البيداغوجية لنموذج Hicks فإنه ينطبق في أساسه مع فرضية اقتصاد مغلق (Closed Economy) لا مجال فيه للمعاملات التجارية الخارجية (Trade Transactions). إلا أن الكندي Mundell والأمريكي Fleming طورا بعد ذلك نموذجاً نظرياً جديداً يسمى في الأدبيات الاقتصادية بنموذج Mundell-Fleming وهو بمثابة توسيع ذكي لنموذج IS-LM الذي بلوره John Hicks ليشمل المبادلات التجارية والمالية الخارجية في إطار اقتصاد وطني منفتح على باقي العالم (Open Economy).
يتبين من خلال سبر أغوار نموذج Mundell-Fleming أن رصيد ميزان الأداءات يرتبط أساساً بمتغيرات داخلية وخارجية أهمها الطلب الكلي المحلي (Domestic Aggregate Demand) والطلب الكلي الخارجي (Foreign Aggregate Demand) ومعدل الصرف الحقيقي (Real Exchange Rate). وبما أن الاقتصاد الوطني المراد دراسته على مستوى ميزان الأداءات يرتبط أساساً في معاملاته التجارية الخارجية مع عدد محدود من أهم الشركاء التجاريين (Trading Partners)، فإنه يُسْتحسنُ قياس وحساب ما يسمى في الاقتصاد الدولي (International Economics) بمعدل الصرف الحقيقي الفعلي (Effective Real Exchange Rate) وذلك عن طريق حساب المتوسط الهندسي (Geometric Mean) لمعدلات الصرف الحقيقي البينية (Bilateral Real Exchange Rates) مع ترجيح (Weighting) هذا المتوسط بوزن المبادلات الخارجية للاقتصاد الوطني مع كل شريك تجاري أساسي.
وعلى نفس المنوال، يتم قياس الطلب الكلي الخارجي عن طريق المتوسط الحسابي (Arithmetic Mean) المرجح بوزن المبادلات الخارجية البينية للنواتج المحلية الإجمالية الفردية بالأسعار الثابتة (Per Capita GDPs in Constant Prices) عند أهم الشركاء التجاريين للبلد. أما بالنسبة للطلب الكلي المحلي فقد جرت العادة على قياسه بالناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (Domestic Real GDP) أي الناتج المحلي الإجمالي المقدر بالأسعار الثابتة (Constant Prices).
إلا أن ضرورة الأخذ بعين الاعتبار للعجوزات المالية للقطاع العام كمحدد لأرصدة ميزان الأداءات تستدعي دمج رصيد موازنة الدولة (Government Budget Surplus) في المعادلة المعبرة عن سلوك ميزان الأداءات وذلك طبقا للنظرية المعروفة عند عموم الاقتصاديين بفرضية العجزين التوأمين (Twin Deficits Hypothesis) المستقاة من النظرية البوست-كينينزية (Post-Keynesian Theory) والتي تذهب إلى أن تراكم عجوزات القطاع العام يؤدي إلى تدهور رصيد ميزان الأداءات مع العلم أن هذه العلاقة بين العجزين تستمد أصولها المفاهيمية من نموذج Mundell-Fleming نفسه خاصة إذا افترضنا أن للقطاع العام مَيلْاً إلى الإنفاق على السلع القابلة للمبادلات الخارجية (Government Propensity to Spend on Tradable Goods).
3. صياغة وتقدير نموذج ميزان الأداءات في الحالة المغربية:
طبقاً للأدبيات الاقتصادية المتعلقة بالموضوع والتي ناقشناها في المبحث السابق يتبين أن رصيد ميزان الأداءات يرتبط أساساً بمعدل الصرف الحقيقي الفعلي (Effective Real Exchange Rate المشار إليه بالمتغير "ERER") والطلب الكلي المحلي (Domestic Demand المُوَمأ إليه بإشارة "DD") والطلب الكلي الخارجي (Foreign Demand المعبر عنه بالمتغير FD) ونسبة عجز موازنة الدولة إلى الناتج المحلي الإجمالي (Budget Deficit Ratio to GDP : BDR). وعلى هذا لأساس، تتسنى نموذجة (Modeling) سلوك نسبة رصيد ميزان الأداءات الجارية إلى الناتج المحلي الإجمالي (ِCurrent Account Balance as a Proportion to GDP المومأ إليه بإشارة CAB) على الشكل التالي:
CABt = f(DDt , FDt , ERERt , BDRt)
وباستعمال اللوغريتم النيبيري (Neperian Logarithm) عند الضرورة، نحصل على المعادلة التالية والتي سنقوم بتقديرها بالاعتماد على أخر الابتكارات في ميدان تحليل السلاسل الزمنية (Time Series Analysis) مع الأخذ بعين الاعتبار للعنصر الساكن "c" (Constant) والنزعة الزمنية "t" (Trend) وعنصر الخطأ "ε" (Error Term):
CABt = c + b.t + α.ln(DDt) + β.ln(FDt)
+ γ.ln(ERERt)+ζ. BDRt + εt
بالاستناد إلى الأسس النظرية التي قمنا بجردها في المبحث السابق، ينتظر أن يكون المعامل (α) المرتبط بالطلب الكلي المحلي (DD) في المعادلة السابقة سالباً لأن ارتفاع الطلب الكلي على السلع والخدمات داخل البلد قيد البحث يؤدي إلى الزيادة في الواردات ومن ثمة إلى تدهور رصيد ميزان المدفوعات الجارية (Current Payments Balance) وخاصة أن أثر ارتفاع الطلب الكلي المحلي على الواردات عادة ما يفوق مفعوله الإيجابي على الصادرات مع العلم أن المعامل α هنا يعبر عن شبه مرونة (Semi-Elasticity) نسبة الرصيد الجاري لميزان المدفوعات إلى الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة إلى الطلب الكلي المحلي.
أما بالنسبة للمعامل β المصاحب للطلب الكلي الخارجي (FD) فينتظر أن يكون مُوجباً والسبب في ذلك يكمن في أن الزيادة في الطلب الكلي على السلع والخدمات عند أهم الشركاء التجاريين للبلد يدفع بالصادرات الوطنية إلى الارتفاع مما ينجم عنه تَحسنٌ في الرصيد الجاري لميزان الأداءات مع العلم أن المعامل β يُمَكنُ من تقدير شبه مرونة نسبة الرصيد الجاري لميزان المدفوعات إلى الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة إلى الطلب الكلي الخارجي.
أما في ما يخص المعامل ζ المرفق بنسبة عجز موازنة الدولة (BDR) إلى الناتج المحلي الإجمالي فتبقى إشارته الحسابية ملتبسة (Ambiguous) طالما أن فرضية العجزين التوأمين (Twin Deficits) لا تستقر على حال في ارتباطها بخصوصيات الاقتصاديات الوطنية أو الاقتصاديات الصغيرة المنفتحة على الخارج (Small Open Economies) كما يشير إلى ذلك نموذج Mundell-Fleming نفسه. وفي هذا الإطار، بين الاقتصادي السوري ممدوح القزواني مثلاً أن أرصدة ميزان المدفوعات هي التي تحدد أرصدة موازنة الدولة في المملكة العربية السعودية وليس العكس (أنظر Alkswani, 2000) مع العلم أن اقتصاد هذا البلد يعتمد بالأساس على ريع المحروقات التي وصفها وزير نفط سابق في الحكومة الفنزويلية بِبُرَازِ الشيْطَانِ.
أما في ما يتعلق بالمعامل γ المصاحب للمتغير الأهم في هذه الدراسة، أي معدل الصرف الحقيقي الفعلي (ERER)، فتبقى إشارته الحسابية (Sign) مُبْهَمَةً أيْضاً لأنها تتوقف على ما إذا كانت فرضية Marshall-Lerner تنطبق على الحالة المغربية أي على ما إذا كان مجموع مرونتي (Elasticities) التصدير والاستيراد بالنسبة إلى سعر الصرف يفوق 1. إذا كان الأمر كذلك فإن أي انخفاض حقيقي (Real Depreciation) للعملة الوطنية سيؤثر إيجاباً على الصادرات ومن ثمة إيجاباً على رصيد ميزان المدفوعات الجارية (Current Balance of Payments). ولهذا السبب فإن تحديد أثر معدل الصرف الحقيقي الفعلي على أرصدة ميزان المدفوعات يبقى رهينا بدراسة قياسية (Empirical Study) يُسْتَعْمَلُ في إطارها ما جد وجاد في عالم تحليل السلاسل الزمنية (Time Series Analysis)، أي كل ما يتعلق باختبارات الجذر الأحادي (Unit Root Tests) والترابط المشترك (Cointegration Tests) ونماذج تصحيح الخطأ (Error Correction Models) والسببية على المديين القصير والطويل (Short and Long Run Causality Tests).
مع الأخذ بعين الاعتبار لكل هذه المسائل المنهجية، قمنا بتقدير سلوك رصيد ميزان المدفوعات في المغرب كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة الممتدة من 1972 إلى 2014، فتبين لنا ما يلي:
- أولا: تُوَضحُ نتائجنا القياسية (Empirical Results) أن الطلب الكلي المحلي والطلب الكلي الخارجي يؤثران في رصيد ميزان المدفوعات كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي وذلك طِبْقاً لِما تذهب إليه النظرية الاقتصادية المنضوية في إطار نموذج Mundell-Fleming. وفي هذا الإطار وبالارتباط بهذا النموذج النظري، تبين نتائجنا القياسية ان الطلب الكلي المحلي لا يؤثر على الأرصدة الجارية لميزان المدفوعات إلا على المدى الطويل وبِوَقْع حوالي 0,20 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي كتغير سلبي في الرصيد إذا ارتفع الطلب الكلي المحلي بواحد في المائة (One Percent). أما بالنسبة لأثر الطلب الكلي الخارجي فإن نتائجنا القياسية في إطار نموذج تصحيح خطأ (Error Correction Model) توضح أن الأثر على المدى الطويل يصل تقريباً إلى تغير إيجابي في الرصيد الجاري لميزان الأداءات بِوقع 0,30 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي لكل زيادة في الطلب الخارجي بواحد في المئة . ويتبين من خلال هذه النتائج القياسية أن كُلاً من الطلب الداخلي والطلب الخارجي لا يؤثران على الأرصدة المالية الخارجية إلا على المدى الطويل رغم أن المُعَامِليْنِ المصاحبين لهما يتفقان في إشارتهما الحسابية ودلالتهما الإحصائية (Statistical Significance) مع ما يتنبأ به نموذج Mundell-Fleming.
- ثانياً: تُوَضحُ تقديراتنا المبنية على نموذج تصحيح الخطأ (Error Correction Model) أن تحسن رصيد موازنة الدولة يؤثر إيجابياً على أرصدة ميزان الأداءات على المدى القصير كما على المدى الطويل. فعلى المدى الطويل مثلاً، يؤدي تدهور رصيد ميزانية الدولة بوقع نقطة مئوية واحدة من الناتج المحلي الإجمالي إلى تفاقم عجز ميزان الأداءات الجارية بحوالي 0.96 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. وتبقى الإشارة هنا إلى أن هذه النتيجة القياسية تلائم ما ذهبت إليه فرضية العجزين التوأمين (Twin Deficits Hypothesis) والتي تقول إن تفاقم عُجُوزَاتِ القطاع العام تؤدي إلى تراكم العجوزات الخارجية (External Deficits).
- ثالثاً: بالترابط مع الإشكالية العامة لهذه الورقة البحثية، تُوحِي نتائجنا القياسية إلى أن معدل الصرف الحقيقي الفعلي (Effective Real Exchange Rate ) يؤثر فِعْلاً في أَرْصِدَةِ ميزان المدفوعات بالترابط مع شرط Marshall-Lerner (Marshall-Lerner Condition). ففي الحالة المغربية، يتبين من خلال نموذج تصحيح الخطأ الذي صغناه وقدرناه وقمنا بجميع الاختبارات القياسية (Econometric Tests) المتعلقة به في الفترة الممتدة من 1972 إلى 2014 أن أي ارتفاع على المدى الطويل في معدل الصرف الحقيقي الفعلي (Long-Run Real Appreciation) بوحدة مئوية ينجم عنه تدهور في ميزان المدفوعات بوقع ما يناهز 0,25 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. وتبين هذه النتيجة القياسية مدى أهمية توخي الحذر من طرف صناع القرار (Decisionmakers) في إطار السياسات الماكرو – اقتصادية (Macroeconomic Policies) من أجل تجنب معدل صرف حقيقي فعلي مرتفع بالارتباط مع أساسيات الاقتصاد الوطني (Fundamentals).
من المعروف أن أية دراسة علمية خاصة في حقل العلوم الاقتصادية تتوخى الخروج بملاحظات هامة ترمي إلى تنوير صُناعِ القرار في ما يخص العلاقات بين مفاهيم شتى وأساليب السياسات العمومية الواجب صياغتها وتنفيذها من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومن ثمة تحسين مستوى عيش الساكنة. ففي إطار هذه الورقة البحثية، بيننا نظرياً وقياسياً وبالاستناد إلى إسقاطات النظرية الاقتصادية وتحليل عصري مُسْهَب للسلاسل الزمنية في المغرب في الفترة الممتدة من 1972 إلى 2014 أن الرصيد الجاري لميزان المدفوعات في المغرب كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي يتأثر بمتغيرات مطابقة لنموذج Mundell-Fleming و فرضية العجزين التوأمين (Twin Deficits Hypothesis) وشرط Marshall-Lerner (Marshall-Lerner Hypothesis). سنحاول في ما يلي أن نختم هذه الدراسة ونبين العلاقات الوطيدة بين نتائجها القياسية والسياسات العمومية (Public Policies) الواجب إتباعها من طرف المسؤولين.
4. ملاحظات ختامية: أية علاقات بالسياسات العمومية؟
لا شك أن ارتفاع الطلب الكلي المحلي على السلع والخدمات يؤدي حتماً إلى الزيادة في الواردات خاصة في ظل اقتصاد منفتح يحتاج إلى مزيد من الواردات من أجل تحسين التحول البنيوي للاقتصاد الوطني (Structural Transformation). وإذ بينت تحاليلنا النظرية والقياسية (Theoretical and Empirical Analyses) أن الطلب المحلي الإجمالي يدفع بالواردات إلى الصعود فلا بد من دراسة بِنْيةِ الواردات وأثرها على النمو الاقتصادي على المدى الطويل حتى يتبين أن هذا المتغير يؤثر إيجابياً على الاقتصاد الوطني خاصة إذا كانت الواردات من الصنف الذي يشجع انتقال التكنولوجيا (Technological Transfer). وفي هذا الإطار، لا بد من دراسة بنية الواردات طِبْقاً لتصنيف الأمم المتحدة والتي بموجبها قام السيد محمد لعباد (Mohammed Loubade) بدراسة آثار نِسَبِ التبادل على الميزان التجاري في المغرب مع الأخذ بعين الاعتبار لثمانية قطاعات مصدرة ومستوردة (أنظر Loubade, 2018, Forthcoming).
ويتضح من خلال نتائجنا النظرية والقياسية أن مفعول الطلب الكلي الخارجي على الرصيد الجاري لميزان المدفوعات في المغرب يبقى ضعيفاً نسبياً إذا ما قُورن بنفس الأثر في بلد مثل تٌركيا. فطِبْقاً لتقديراتنا واختباراتنا، يتضح أن ارتفاع الطلب الخارجي الكلي بواحد في المائة لا ينجم عنه إلا تحسن في ميزان الأداءات في المغرب بِوَقْعِ 0,30 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي مقابل ما يناهز 0,87 نقطة مئوية في تركيا. ويعني هذا أن المغرب لا يستفيد كثيراً من ارتفاع النمو الاقتصادي عند أهم شركائه الاقتصاديين خاصة في أوروبا مما يستدعي بذل مزيد من الجهود في سبيل الرفع من مستوى العرض القابل للتصدير (Exportable Supply) واتخاذ استراتيجيات ناجعة لتسويق الصادرات الوطنية وتنويعها مع المضي قُدُماً في اتجاه تنويع الصادرات نَفْسِها خاصة في إطار مخطط الإقلاع الاقتصادي الجديد والمِهَن العالمية الجديدة للمغرب والتي بدأت تُدر نتائِجَهَا الباهرة خاصة في ميادين صناعة السيارات والطائرات والإليكترونيات.
يتبين من خلال دراستنا أن عجزي ميزانية الدولة والحسابات الخارجية الجارية هما فِعْلاً عَجْزَانِ تَوْأَمَانِ أي أن العجز الأول يؤدي إلى تفاقم العجز الثاني مما يؤكد أن نموذج Mundell-Fleming في علاقته بِمُعَدلَي الفائِدَةِ والصرف وَنُزُوعَ القطاع العام المغربي إلى الاستيراد (Moroccan Government Propensity to Import) ينطبق على الاقتصاد المغربي. وفي هذا الإطار، يتعين على صناع القرار في المغرب أن يبذلواْ أقصى الجهود من أجل تقليص العٌجُوزَاتِ المالية للقطاع العام وذلك عن طريق ترشيد النفقات (Rationalization of Spending) والعمل على محاربة التملص والتهرب الضريبيين (Tax Evasion and Fraud).
وفي الأخير وفي إطار الموضوع الرئيسي لهذه الورقة البحثية، لا بد من الإشارة إلى أن أبحاثنا خَلُصَتْ إلى أن ارتفاع معدل الصرف الحقيقي الفعلي للدرهم المغربي (Real Appreciation) يؤدي إلى تدهور رصيد ميزان المدفوعات الجارية كَنِسْبَةٍ مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. وفي هذا الإطار تَكْمُنُ أَهَميةُ السياسات الماكرو – اقتصادية خاصة السياسة المالية (Fiscal Policy) والسياسة النقدية (Monetary Policy) من أجل ضمان استقرار في الأسعار (Price Stability) وتوازن في الحسابات المحلية والخارجية (Domestic and External Sector Accounts ) مما يمكن انتقالاً سَلِساً إلى تعويم العملة الوطنية الذي لن يكون إلا تدريجياً عِوَضَ المقاربة الصدماتية (Shock Approach) التي تبنتها الدولة المصرية وما زال الشعب المصري يجني شوكها حتى اليوم في سياقٍ انخفضت فيه القيمة الاسمية (Nominal Value) للجنيه المصري بالنسبة للعملات الصعبة الرئيسية خاصة الدولار الأمريكي مع العلم أن المصريين يعولون كثيراً على استيراد سِلَعٍ متعددة لأن العرض المحلي غير كافٍ مما يُقَوضُ القدرة الشرائية للأُسَر.
المراجع:
• Granger, C.W.J. and P. Newbold. (1974). “Spurious Regression in Econometrics.” Journal of Econometrics, N° 2.
• Johansen, S. and K. Juselius. (1990). “Maximum Likelihood Estimation and Interference on Cointegration with Application to the Demand for Money”, Oxford Bulletin of Economics and Statistics, N° 52.
• Loubade, Mohammed. (2018) Forthcoming, Impact des Termes de l’Echange sur la Balance Commerciale au Maroc: Approches Macroéconomiques et Mésoéconomiques, Doctorate Thesis, Faculty of Juridical, Economic and Social Sciences, Cadi Ayyad University, Marrakech, Morocco.
• Mansouri, Brahim. (2003). “Fiscal Deficits, Public Absorption and External Imbalances: An Empirical Examination of the Moroccan Case”, Working Paper N° 0138, Economic Research Forum (ERF), Cairo, Egypt: https://erf.org.eg/wp-content/uploads/2017/05/0138.pdf
• Mansouri, Brahim and Ayad El Baz. (2018). “Fiscal Deficits and External Sector Variables: A Multivariate Structural Modeling for Morocco”, Asian Academic Journal of Social Sciences and Humanities, Vol. 1, Issue 1, January: http://www.asianacademicresearch.org/2018_abstract/january2018/8.pdf
• Marshall, Alfred (1890), Principles of Economics, Macmillan and Co., London, UK 8th Edition, 1920.
كتبها د. ابراهيم منصوري، أستاذ العلوم الاقتصادية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش و ذ. محمد لعباد، باحث مُتقَدم في سلك الدكتوراة في العلوم الاقتصادية بنفس المؤسسة.
#ابراهيم_منصوري_ومحمد_لعباد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟