آلان وودز
(Alan Woods)
الحوار المتمدن-العدد: 5765 - 2018 / 1 / 22 - 10:21
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
البلشفية طريق الثورة
الفصل الثالث: مرحلة الردة الرجعية
انقسام البلاشفة
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي
في تلك الأثناء صار الانشقاق داخل فصيل البلاشفة علنيا. كان لصحيفة "Proletary" هيئة تحرير "صغيرة" تتألف من لينين وزينوفييف وكامينيف، الذين بدأ تعاونهم في تلك السنوات، إلى جانب بوغدانوف وعضوي اللجنة المركزية غولدنبرغ ودوبروفينسكي. التقى هؤلاء المحررون المذكورون مع أعضاء آخرين في كونفرانس مصغر في باريس، في الفترة ما بين 08 و17 يونيو (21-30) 1909. ومن بين الحاضرين كان هناك ريكوف وتومسكي، زعيم النقابات العمالية لاحقا من بطرسبرغ. كان الهدف من المؤتمر مناقشة مسألة "الأوتزوفية" وأصحاب "الإنذارات النهائية" ( Ultimatism ). دافع بوغدانوف عن موقفه في مناقشة مفتوحة، لكنه كان معزولا. فباستثناء شانتسر، الذي اتخذ موقفا توفيقيا، وامتناع عضوين عن التصويت (تومسكي وغولدنبرغ)، فقد صوت جميع المندوبين الآخرين لصالح موقف لينين. كما ناقش الكونفرانس الآراء الفلسفية لمجموعة بوغدانوف ورفضها. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن جميع مواقف لينين قد قبلت، مع وجود أصوات ضد وامتناع أخرى عن التصويت. بطبيعة الحال، ليس هناك أي شيء غير عادي بشأن القرارات التي تتخذ بأغلبية الأصوات، الفكرة القائلة بأن كل قرار يجب أن يكون بالإجماع هي فكرة تنتمي إلى تقاليد الستالينية، بعبادتها للزعيم المعصوم، وهو الشيء الذي يعتبر غريبا تماما عن التقاليد الديمقراطية للبلشفية. لكن في هذه الحالة بالتحديد، كان الامتناع عن التصويت له معنى، لأن العديد من نشطاء الحزب في روسيا اعتبروا النزاع حول القضايا الفلسفية ترفا لا يمكن تفهمه في ظل الظروف الصعبة التي كان الحزب يعمل فيها آنذاك. في الواقع، تعتبر النزاعات حول القضايا النظرية بالنسبة لهؤلاء الناس "تصرفا غير مناسب".
ومن الأمثلة النموذجية على تلك الحالة الذهنية نجد ستالين الذي عجز تماما عن فهم ما كان لينين يرمي إليه. وفي رسالة بعثها إلى م. ج. تسخكايا، قال إن النقد التجريبي له جوانب جيدة أيضا، وأن مهمة البلاشفة هي تطوير فلسفة ماركس وإنجلز «بروح ج. ديتزجن، بحيث تستفيد من الجوانب الجيدة للماخية». هذ العبارة المجنحة، مثل غيرها من نفس النوع، والتي تكشف عن نظرة ستالين الضيقة والجاهلة والمبتذلة للماركسية، تم حذفها طبعا من أعماله الكاملة، لكنها نجت في بعض الزوايا المنسية من أرشيف الحزب، من حيث تم استخراجها من قبل مؤلفي تاريخ الحزب الرسمي الذي نشر في عهد خروتشوف.[1] أغلب الاحتمالات هو أن ستالين لم يقرأ أبدا سطرا واحد لماخ، فهو باعتباره التجسيد الحي لـ "مهني" الحزب، لم يكن مباليا بهذه المسائل النظرية، التي اعتبرت مجرد تفاهات مزعجة وتشويشا على مهام الحزب اليومية. ويمثل الاقتباس أعلاه محاولة خرقاء لتحقيق الوحدة من خلال الاكتفاء ببساطة بتجاهل المسائل المبدئية تماما.
إلا أن ستالين لم يكن الوحيد الذي فشل في فهم أهمية النضال من أجل المبادئ النظرية، بل على العكس تماما كانت هذه المواقف واسعة الانتشار في صفوف البلاشفة، بما في ذلك بين أقرب المتعاونين مع لينين. الزعيم المستقبلي للنقابات السوفياتية، ميخائيل تومسكي، كان ضد كل فلسفة وأعلن: «لم أشعر أبدا بالحنين إلى الفلسفة. وأولئك الذين يذهبون إلى الفلسفة يريدون الهروب من الحقائق».[2] في 26 ماي 1908، كتب كامينيف في النسخة الأولى من رسالة إلى بوغدانوف:
«إذا... ما واجهت إنذارا بأنه لكي نعمل معا سياسيا، يجب أن أوافق على جميع الخطوات التي اتخذناها ضد خصومنا الفلسفيين... فإنه، بطبيعة الحال، في نضال هذه الجماعات، لن يكون لدي أي خيار آخر ما عدا الانسحاب من هذا النضال»[3]
وفي خطوة توفيقية منه قال بأنه على الصحيفة المركزية للحزب، Sotsial Demokrat ، ألا تكتفي بنشر مقالات أولئك الذين يدافعون عن المادية الجدلية، بل أن تنشر أيضا مقالات أولئك الذين يعارضونها. هذا في الوقت الذي كان لينين قد توصل فيه إلى خلاصة أن القطيعة التامة مع البوغدانوفيين صارت ضرورية. في صيف عام 1908، كتب لينين إلى فوروفسكي، الذي عمل معه في فبيريود عام 1905، رسالة بعبارات توضح بشكل كامل أن القطيعة المفتوحة مع مجموعة بوغدانوف صارت مسألة وقت فقط. بل إن لينين كان يعتقد أنه قد يجد نفسه أقلية، وفي هذه الحالة سيضطر هو إلى الانشقاق:
«الصديق العزيز،
شكرا على الرسالة. كل "شكوكك" خاطئة. لم أكن أعاني من مشاكل عصبية، لكن موقفنا صعب. الانشقاق مع بوغدانوف صار وشيكا. والسبب الحقيقي هو أنه يحس بالغضب من الانتقادات الحادة التي وجهت إلى تصوراته الفلسفية خلال الاجتماعات (والتي لم تصدر أبدا في الصحيفة). والآن يعمل بوغدانوف على تصيد أي شكل من أشكال اختلاف الرأي وعمل جنبا إلى جنب مع أليكسينسكي، الذي يثير فوضى رهيبة والذي اضطررت إلى أن أقطع معه كل العلاقات، على إخراج الصراع إلى العلن.
إنهم يحاولون الانشقاق على أساس النقد التجريبي والمقاطعة. سوف تنفجر العاصفة قريبا جدا. والمواجهة في الكونفرانس القادم أمر لا مفر منه. هناك احتمال كبير لحدوث الانشقاق. وسأترك الفصيل حالما يصبح لسياسة "المقاطعة الحقيقية" و"اليسار" اليد العليا داخله»[4]
خلال هذه الفترة، تراجعت حظوظ لينين إلى أدنى مستوياتها. وعلى الرغم من أن الدعم الذي قدمه الاشتراكيون الديمقراطيون البولنديون واللاتيفيون أعطى الأغلبية للمواقف البلشفية في اجتماعات الحزب، فإن لينين وجد نفسه أقلية داخل الفصيل البلشفي. كان معظم أقرب المتعاونين السابقين معه- بوغدانوف ولوناشارسكي وليادوف- مقاطعين. وكان الجيل الجديد من القادة يميل بقوة إلى النزعة التوفيقية. أما لينين وكروبسكايا، والرجلين الذين كانا سيصيران أقرب رفاقهما في السنوات القليلة المقبلة، زينوفييف وكامينيف، فقد اضطروا للهجرة إلى سويسرا. طبيعة لينين المتفائل دوما لم تكن تترك مجالا للاكتئاب، لكنه عندما عاد إلى جنيف في يناير 1908، ظهرت عليه علامات الإجهاد. ومزاج الحزن والاكتئاب يتخلل كل سطر من أسطر الفقرة التالية من مذكرات كروبسكايا:
«بدت جنيف كئيبة. لم تكن هناك ثلوج، لكن كانت هناك رياح عاتية باردة تهب. كانت تباع بطاقات بريدية تصور مشهد المياه المتجمدة بالقرب من درابزين بحيرة جنيف، وكانت البلدة تبدو ميتة وخالية. ومن بين الرفاق الذين كانوا يعيشون هناك في ذلك الوقت، ميخا تسخاكايا، وف. ك. كاربينسكي، وأولغا رافيتش. كان ميخا تسخاكايا يعيش في غرفة صغيرة وخرج من السرير بصعوبة عندما وصلنا. قيل لنا أن لا أحد يريد النقاش، وكان آل كاربينسكي يعيشون في المكتبة الروسية حيث كان كاربينسكي يشغل منصب مدير، كان هذا الأخير يعاني من صداع حاد جدا عندما وصلنا وكانت كل النوافذ مغلقة لأن الضوء كان يضر به. وبينما كنا في طريق العودة من عند آل كاربينسكي، عبر شوارع جنيف الخالية، التي بدت أكثر وحشة من أي وقت مضى، قال إيليتش: "لدي شعور كما لو أني جئت إلى هنا لأدفن".»[5]
كانت مخاوف لينين مفهومة. كانت حالة المنفيين الروس أسوء بكثير من أي وقت مضى. نضبت الأموال، مما خلق مشقة مروعة لهؤلاء الأشخاص الذين كانوا أصلا يعانون معنويا وماديا. وكان البلاشفة هم من عانوا أكثر من الاعتقالات في فترة الردة الرجعية، لأن التصفويين كانوا قد اقتصروا أساسا على الأنشطة القانونية. كان البلاشفة يمتلكون أموالا أقل مما كان متوفرا للمناشفة، الذين كانوا ما يزال يمكنهم الاعتماد على داعمين أثرياء من الانتلجنسيا. ولهذا السبب أساسا، احتمل لينين استمرار عمليات "المصادرة" لفترة أطول مما هو مبرر حقا من وجهة النظر السياسية البحتة. في يناير 1908، كتب لينين رسالة إلى الاشتراكي الانجليزي، ثيودور روثشتاين، مؤكدا على الوضع المالي الرهيب:
«الكارثة الفنلندية، واعتقال العديد من الرفاق، ومصادرة الأوراق، والحاجة إلى نقل المطابع، وإرسال العديد من الرفاق إلى الخارج، كل ذلك تطلب نفقات ثقيلة وغير متوقعة. إن المحنة المالية للحزب أكثر خطورة لأنه خلال عامين فقد الجميع عادة العمل بشكل غير شرعي وتم "إفسادهم" بالعمل الشرعي أو شبه الشرعي. والآن يتعين علينا أن نعيد بناء المنظمات السرية من الصفر تقريبا. وهذا يكلف الكثير من المال. جميع المثقفين والجبناء يتخلون عن الحزب؛ إن هجرة الانتلجنسيا هائلة. أما الباقون فهم بروليتاريون خالصون لا يمتلكون أي قدرة على جمع المساهمات المالية بشكل علني»[6]
كان النقص الحاد في الأموال يعني أنه لم تعد هناك أي إمكانية لمساعدة ذلك العدد الكبير من المنفيين الذين تدفقوا إلى الخارج. في منتصف دجنبر 1908، انتقل لينين إلى باريس مع كروبسكايا ووالدتها. كانت حياة المنفيين هناك أسوء مما كانت عليه في جنيف لأنه كان هناك الكثير منهم. أنشئ صندوق للمساعدة، لكنه كان ضعيف الموارد ولا يمكن استخدامه إلا في حالات الضرورة القصوى. كان لينين يعيش على كتابة المقالات وتلك المبالغ الصغيرة التي كانت والدته ترسلها له من وقت لآخر. كان الفقر والاكتئاب والمرض الشيء المشترك بين المنفيين. أصيب بعضهم بالجنون وانهوا حياتهم في مصحات المجانين، وانتهى الأمر بالبعض الآخر وحيدين في المستشفيات، أو في أعماق نهر السين. كان الوضع محبطا. وتذكر كروبسكايا حالة رجل كان قد قاتل في انتفاضة موسكو وكان يعيش الآن في ضاحية الطبقة العاملة في باريس، متقوقعا على نفسه. في أحد الأيام صار مجنونا وصار يتصرف بطريقة غير متزنة. والدة كروبسكايا التي فهمت بأن الهذيان جاء بسبب المجاعة، قدمت للرجل بعض الطعام، وتتذكر كروبسكايا:
«بدا إيليتش شاحبا من الحزن عندما جلس بجانب الرجل. ذهبت للبحث عن طبيب نفسي، كان صديقا لنا، جاء الطبيب النفسي وتحدث إلى المريض وقال إن هذه حالة خطيرة من الجنون ناجمة عن المجاعة التي لم تصل بعد المرحلة النهائية؛ سوف تتطور إلى هوس الاضطهاد، ومن ثم من المرجح أن يقدم المريض على الانتحار»[7]
كان هذا مصير المنفيين الروس خلال سنوات الردة الرجعية الستوليبينية المظلمة.
على الرغم من أن المؤتمر الخامس مثل خطوة هامة إلى الأمام بالنسبة للبلاشفة، فإنه لم يغير حقيقة أن الحركة داخل روسيا كانت تواجه أوقاتا صعبة للغاية. كان البلاشفة يستقطبون اهتمام القطاعات الأكثر جذرية بين العمال والشباب، لكن الوضع العام كان كئيبا. أدى انقلاب الثالث من يونيو إلى انفتاح فترة من الرد الرجعية الحادة. في عام 1907، كان مجموع أعضاء الحزب اسميا هو 100.000 عضو. لكن هذا الرقم عانى من انهيار سريع. وحدها منطقة القوقاز هي التي كان الانخفاض فيها أقل حدة إلى حد ما، لكنها كانت معقل المناشفة. كانت عدد أعضاء المنظمة البلشفية في بيترسبورغ قد بلغ 6778 عضوا أوائل عام 1907. بعد عام واحد انخفض الرقم بالنصف إلى 3000، لكن بحلول عام 1909، لم يعد هناك سوى 1000 عضو فقط. وبحلول ربيع عام 1910، حصرت الأوخرانا مجموع الأعضاء في 506 أعضاء فقط.[8] استمرت غارات الشرطة في بث الفوضى في منظمات الحزب السرية المستنزفة بشدة. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1908 ضربت الشرطة مرة أخرى، وقد ركزت هذه المرة على منظمي الحزب في مناطق معينة من موسكو وبيترسبورغ. وقد اضطر عضو باللجنة البلشفية في بيترسبورغ للاعتراف بأنه بعد اعتقالات الربيع "توقف العمل في المقاطعات تقريبا...".[9]
لم يكن هذا كل شيء. فالصراعات الداخلية والانقسامات أدت إلى أن لينين صار معزولا بشكل كامل تقريبا داخل فصيله. وبعد طرد جماعة بوغدانوف، كان الاتجاه السائد في القيادة هو ما يسمى بالفصيل التوفيقي، الذي كان أقل ميلا إلى اتباع قيادة لينين. بعد سنوات عديدة وصف تروتسكي الحالة خلال تلك السنوات القاتمة في مقابلة مع س. ل. ر. جيمس ("جونسون"):
«جيمس: كم كان عدد أعضاء الحزب البلشفي؟
تروتسكي: في عام 1910 كان هناك في البلاد كلها بضعة عشرات من الأشخاص. كان بعضهم في سيبيريا، لكنهم لم يكونوا منظمين. كان الأشخاص الذين يمكن أن يتواصل معهم لينين عن طريق المراسلة، أو عن طريق وسيط، يبلغ نحو 30 أو 40 شخصا على الأكثر. ومع ذلك، فقد كانت التقاليد والأفكار بين العمال الأكثر تقدما بمثابة رأسمال هائل استخدم في وقت لاحق خلال الثورة، لكننا عمليا كنا معزولين تماما في ذلك الوقت»[10]
يشهد زينوفييف على دقة هذه الأرقام حيث كتب:
«كانت سنوات الثورة المضادة الستوليبينية هي الأكثر حرجا وخطورة على بقاء الحزب. وبالعودة إلى تلك الفترة الصعبة، يمكننا القول دون أدنى تردد إن الحزب، بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم يعد موجودا. لقد تفكك إلى حلقات فردية صغيرة لم تكن تختلف عن حلقات سنوات الثمانينيات وأوائل التسعينيات [القرن 19] إلا في أن المناخ العام، السائد فيها كان هو الإحباط، في أعقاب الهزيمة القاسية التي تكبدتها الثورة»[11]
كانت الصعوبات التي تواجه الحزب في العمل السري غير مسبوقة.
وقال شابيرو: «في غضون عام واحد بعد المؤتمر الخامس، صارت العديد من المنظمات التي كانت تضم مئات الأعضاء لا تضم سوى العشرات.»
ويقدر نفس المؤلف أنه «في صيف عام 1909، كانت هناك فقط خمس أو ست لجان بلشفية تعمل».[12] القصة نفسها كررها العديد من المؤلفين المختلفين، قال ستيفن كوهين: «لم يعد يوجد أكثر من خمس أو ست لجان بلشفية تعمل في روسيا، وفي نهاية عام 1909، لم تعد منظمة موسكو تضم سوى 150 عضوا فقط»[13]
وتتذكر كروبسكايا الموقف قائلة:
«كانت أوقاتا صعبة. في روسيا كانت المنظمات تتحول إلى شظايا. وقد تمكنت الشرطة، بمساعدة من العملاء المندسين، من اعتقال عمال الحزب البارزين. أصبحت الاجتماعات الكبيرة والمؤتمرات مستحيلة. ولم يكن من السهل على الناس، الذين كانوا منذ وقت قصير فقط يخطبون في الحشود، أن يذهبوا تحت الأرض. وفي الربيع (أبريل - ماي) ألقي القبض في الشارع على كامينيف ووارسكي (وهو اشتراكي ديمقراطي بولندي وصديق حميم لدزيرجينسكي وتيسكا وروزا لوكسمبورغ). وبعد بضعة أيام، ألقي القبض أيضا على زينوفييف، ثم ن. أ. روزكوف (وهو مناضل بلشفي، عضو في لجنتنا المركزية)، في الشارع. كانت الجماهير قد انكفأت على نفسها، أراد الناس أن يفكروا في الأمور، وحاولوا أن يفهموا ما حدث. كان النشاط التحريضي بشكل عام قد تراجع ولم يعد يرض أي شخص. كان الناس ينضمون بسهولة إلى حلقات الدراسة، لكن لم يكن هناك أحد ليتولى مسؤوليتهم. وقد وفر هذا المناخ تربة مواتية للأوتزوفية [النزعة المقاطعاتية]»[14]
وبصعوبة بالغة تمكن المركز البلشفي من الحفاظ على العلاقات مع المجموعات المحلية في روسيا، باستخدام أساليب سرية. وجد أوسيب بياتنيتسكي نفسه مرة أخرى مسؤولا عن إرسال الوثائق السرية إلى روسيا، وخاصة الصحف البلشفية: Proletary و Sotsial Demokrat - تماما كما في الفترة القديمة السيئة، قبل 1905. كان مقر المركز الخارجي لهذا النشاط هو لايبزيغ، أما مقر المركز الداخلي ففي مينسك. وكما كان الحال عليه قديما، كان ذلك العمل مراقبا عن كثب من طرف جهاز الأوخرانا القيصري، الذي تسلل عميله زيتوميرسكي إلى موقع رئيسي في التنظيم البلشفي بالخارج. صادق المؤتمر الخامس على طريقة جديدة لانتخاب قيادة الحزب على جميع المستويات، ونظرا للمشاكل الأمنية الحادة، كان ينبغي لذلك أن يشمل التعيين. ولما كان أغلب القياديين قد وقعوا ضحية لمداهمات الشرطة (التي كان يوجهها على نحو فعال أمثال زيتوميرسكي)، فقد كان يتوجب تعيين اناس جدد لسد الثغرات.
ووصفت رسالة من الأورال الوضع كما يلي:
«قوانا الأيديولوجية تذوب مثل الثلج. إن العناصر التي تتجنب الانضمام إلى المنظمات غير القانونية بشكل عام... والذين انضموا إلى الحزب فقط في وقت الانفتاح والحرية التي كانت موجودة آنذاك في العديد من الأماكن، قد تركوا منظمات حزبنا الآن»[15]
ولخص مقال في الجريدة المركزية للحزب الموقف قائلا: «المثقفون، كما يسمون، صاروا ينسحبون أفواجا أفواجا في الأشهر الأخيرة».[16] وتعليقا على ذلك كتب لينين:
«لكن تحرر الحزب من المثقفين أشباه البروليتاريين، البرجوازيين الصغار، قد بدأ يوقظ للحياة الجديدة القوى الجديدة البروليتارية الصرفة التي كسبت خلال فترة النضال البطولي للجماهير البروليتارية. إن منظمة كوليباكي نفسها التي كانت، كما يبين الاقتباس الوارد في التقرير، في حالة يائسة -وحتى "ميتة"- قد تم إحياؤها، وبدأت تتحرك. نقرأ: "أعشاش الحزب بين العمال المنتشرة بأعداد كبيرة في جميع أنحاء المنطقة، والتي هي في معظم الحالات دون أي قوى فكرية ودون أدبيات، بل وحتى من دون أي علاقة مع مراكز الحزب، لا تريد أن تموت... عدد الأعضاء المنظمين لا يتناقص بل يزداد... لا يوجد مثقفون، وعلى العمال أنفسهم، الأكثر واعيا بينهم، أن يواصلوا العمل الدعائي". والاستنتاج العام الذي تم التوصل إليه هو أنه: "في عدد من الأماكن بدأ العمل المسؤول يمر إلى أيدي العمال المتقدمين بسبب هروب المثقفين."» (Sotsial-Demokrat ، رقم 01، 28)[17]
لكن كان لذلك عيوبه أيضا، حيث فقد الحزب، بطريقة أو بأخرى، الكثير من أكثر أعضائه خبرة. كان المنخرطون الجدد ضعيفو التكوين وعديمو الخبرة في العمل السري، مما جعلهم أهدافا أسهل للشرطة. ومن جهة أخرى، كان من الأسهل بكثير على الشرطة إدخال عملائها في اللجان السرية، التي سرعان ما صارت ممتلئة بالجواسيس والمحرضين. ومن أجل تشديد الإجراءات الأمنية، تم تغيير أساليب الانتخاب لتتلاءم مع الظروف الجديدة. كان على المنظمات المحلية أن تتبنى طرقا مختلفة لانتخاب لجانها، مما كان يعكس متطلبات العمل السري. في موسكو، وبدلا من انتخاب اللجان في اجتماع عام، صارت تنتخب في اجتماعات محلية أصغر. في البداية كانت هناك خلايا ولجان ومجموعات حزبية في جميع المصانع الكبيرة، لكن مع مرور الوقت وتكثيف الشرطة لبحثها عن المناضلين، تعطلت لجان الحزب بشكل متزايد وانخفضت العضوية النشيطة إلى الحد الأدنى من البروز. كقاعدة عامة كان من المفترض أن تجتمع لجان المقاطعات مرة واحدة في الشهر، في حين كان على اللجنة التنفيذية للمقاطعة أن تجتمع أسبوعيا. لكن من المشكوك فيه ما إذا تم الحفاظ على هذا النظام حقا في معظم المناطق. وبشكل عام لم تكن هناك سوى أعداد صغيرة، وكانت تلك المجموعات التي بقيت نشطة تعمل بشكل مستقل.
غير أن هذه التغييرات لم تفعل شيئا يذكر لحماية الحزب من رقابة الشبكة المتزايدة باستمرار من الجواسيس والمحرضين الذين تمكنوا، في مناخ الإحباط السائد، من التسلل إلى أعلى المواقع واللجان:
«تمكن الدرك من قراءة النص غير المرئي للرسالة وزاد عدد سكان السجون. أدى الخصاص في القوى الثورية إلى خفض معايير اللجنة بشكل حتمي. وقد أدى تقلص فرص الاختيار إلى تمكين عملاء سريين من تسلق التسلسل الهرمي للمنظمات السرية. بإشارة من اصبعه كان في مقدور العميل المندس أن يتسبب في اعتقال أي ثوري يعرقل تقدمه. وقد أدت محاولات تطهير التنظيم من العناصر المشكوك فيها إلى انطلاق اعتقالات جماعية على الفور. وقد أدى مناخ الشك وعدم الثقة المتبادل إلى عرقلة جميع المبادرات. وبعد عدد من الاعتقالات المحسوبة بشكل جيد، صار العميل المندس كوكوشكين على رأس منظمة المقاطعة بموسكو في بداية عام 1910. كتب أحد المشاركين النشطين في الحركة: "لقد تحقق المثل الأعلى للأوخرانا. صار العملاء السريون على رأس جميع منظمات موسكو". لم يكن الوضع في بيترسبورغ أفضل بكثير. "يبدو أن القيادة قد سحقت، لم تكن هناك أي وسيلة لاستعادتها، لقد قضم العملاء الاستفزازيون أعضاءنا الحيوية، وانهارت المنظمات...". في عام 1909، كان في روسيا خمس أو ست منظمات نشطة؛ لكنها هي أيضا سرعان ما غرقت في الجمود. وانخفض عدد الأعضاء في منظمة مقاطعة موسكو، التي كانت تصل إلى 500 عضو خلال نهاية عام 1908، إلى 250 في منتصف العام التالي وبعد ستة أشهر أخرى إلى 150؛ وفي عام 1910 لم تعد المنظمة موجودة.»
في أوائل عام 1909 كتبت كروبسكايا بيأس: «لم يعد لدينا مناضلون على الإطلاق. كلهم متناثرون في السجون والمنافي».[18] وفي نهاية مارس 1910، اشتكى لينين قائلا:
«هناك عدد قليل من القوى في روسيا. آه لو كان في مقدورنا أن نرسل من هنا عامل حزب جيد إلى اللجنة المركزية أو لعقد كونفرانس! لكن كل من لدينا هنا "أموات".»[19]
هوامش:
1: Istoriya KPSS, vol. 2, 272 (التشديد من عندي أ. و)
2: Protokoly soveshchaniya rasshirennoy redaksii Proletariya, 12.
3: Pod Znamenem Marksizma, No. 9–10, 1932, 203 (التشديد من عندي أ. و)
4: LCW, Letter to V.V. Vorovsky, July 1, 1908, vol. 34, 395
5: Krupskaya, Reminiscences of Lenin, 162
6: LCW, Letter to Theodore Rothstein, January 29, 1908, vol. 34, 375.
7: Stanley Payne, The Life and Death of Lenin, 240.
8: McKean, Between the Revolutions, 53.
9: Kudelli, in Krasnaya letopis’, No. 14, quoted in McKean, Between the Revolutions, 53
10: Trotsky, Fighting Against the Stream, in Writings, 1938–39, 257.
11: Zinoviev, History of the Bolshevik Party, 165
12: Schapiro, History of the CPSU, 101.
13: Stephen F. Cohen, Bukharin and the Bolshevik Revolution, 12.
14: Krupskaya, Reminiscences of Lenin, 183.
15: LCW, On to the Straight Road, vol. 15, 18.
16: Ibid., 18.
17: Ibid., 18.
18: Trotsky, Stalin, 95 in both quotes.
19: LCW, Letter to N.Y. Vilonov, March 27, 1910, vol. 34, 415.
#آلان_وودز (هاشتاغ)
Alan_Woods#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟