روائي عراقي
( إن وظيفة المثقف ليست في ترداد ما يعتقده الجمهور، بل في إنتاج معرفة نظرية لا يستطيعها غيره)
المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز
*كتاب " نهاية الداعية"
إنه منتصف الليل العراقي.
الساعة المهيّئة لموعد الابادة.
في هذه الساعة العصيبة من تاريخ الوطن، وفي هذا المنعطف الخطير الذي يراد لنا أن نحشر فيه بين خيار القبول بالفاشية أو خيار القبول بالحرب ومن ثم الاحتلال، في هذا المنعطف المصيري، نجدد ثقتنا بولادة جيل غضب عراقي جديد على أنقاض وركام وخرائب وعقائد وأفكار وخيانات وصفقات ومساومات وصلت درجة المتاجرة بالوطن.
وهذا الجيل الذي كان ينمو بصمت وسرية تحت النار، وفي أدغال الحرائق، وفي مواجهة دبابات وحروب النظام، وفشل البرامج، والعقائد،كان غالبية أفراده ممن هم تحت سن العاشرة يوم بدأت حرب الخليج الأولى الكارثية التي مهدت للحروب التي لم تنته بعد.
فنحن لسنا استثناء من كل شعوب الأرض التي استجابت بطريقة حية وجدية وعقلانية لتحديات سياسية وحربية وثقافية وحضارية وغيرت نمط حياتها وتفكيرها ولغتها وأسلوب عيشها،وكفرت،بالمعنى الحرفي، بسلالات أحزاب التبرير والحشو والصفقة والمساومة مما أفقدنا القدرة على فرز المسافة بين الشجاعة والجنون، والبطولة والمغامرة، الصفاقة والجرأة، وبين الوطن والسلطة.
إن المغني اليوناني ثيوداريكس في حقبة المقاومة اليونانية ليس أكثر وعيا أو وطنية من أي فنان عراقي مقاوم، باستثناء أن المناخ اليوناني السياسي السائد أيام الحقبة العسكرية في السبعينات كان مناخ تقبل نحو تحولات فكرية وثقافية وسياسية عميقة الجذور تتجاوز الأزمة الراهنة إلى مشكل الحرية والانفتاح والمراجعة وإعادة النظر.
لذلك تأتي أغنيته داخل السجن التي صارت نشيدا للشبيبة اليونانية تجسيدا لمعنى الإصرار والثقة المطلقة بحتمية موت القوى الدكتاتورية مهما كان جبروتها:
( أنت لديكم دبابات
نحن لدينا أغان
وكل دباباتكم
لا تستطيع قتل أغنية واحدة).
كما أن صرخة الكاتب المسرحي الإنكليزي جون أزبورن في مسرحيته المبشرة بولادة جيل غضب جديد( أنظر إلى الوراء بغضب) كانت إعلان تمرد على بديهيات وحقائق جاهزة ومسلمات وأفكار وعقائد غير مفحوصة وعقل سياسي وفكري وأدبي قاد إلى تهلكة الحرب الأولى والثانية التي كانت تعبيرا عن احتقان التاريخ وانغلاق الطرق.
وفي ألمانيا أعلن الروائي ماريا ريمارك مؤلف رائعة" للحب وقت، وللموت وقت"عشية نهاية الحرب العالمية الثانية أن القنابل التي سقطت على برلين سقطت على اللغة والمسرح والثقافة والصداقة والعقل الألماني. وبلغة واضحة لقد تغير الشعب الألماني بعد هذه العاصفة.
في فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى والثانية قاد مفكرون ومثقفون وكتاب وشعراء فرنسيون ثورة ثقافية ولغوية وفكرية غيرت أعمق ما في الإنسان من قيم وفجرت قلق المعرفة وزحزحة مسلمات عفنة وأطاحت بقوى مهيمنة وعرضت قوى أخرى للسؤال الفكري والمحاسبة الثقافية بعيدا عن نزعات الانتقام وشراسة عقد الشعور بالدونية المغلّفة بمفهوم سياسي ملفق.
فكانت ولادة مدارس ثقافية وفنية وشعرية مثل السريالية والدادائية والتكعيبية وفلسفات القلق والسؤال كرد على تحديات العصر وحضور الأجوبة المستهلكة.
الأمر نفسه تكرر في أسبانيا في المرحلة البوليسية خلال حكم الجنرال فرانكو، حيث قام جيل غضب أسباني في زعزعة القيم التقليدية الراسخة وهدم الأصنام العقلية في السياسة والثقافة والفكر، بل ذهب بعض رموز هذا الجيل إلى حد الموت خلف هذه الثورة المضادة لما هو سائد، وقتل الشاعر لوركا لا يزال طريا في الذاكرة كجرح أخضر في سماء غرناطة. ولن ننسى مواقف وقصائد الشاعر الكبير رافائيل البرتي حتى آخر لحظاته.
كل شعوب العالم حين تواجه تحديات ومنعطفات وعواصف ترد عليها بطريقة شجاعة تبدأ بفحص وهدم الأسس التي مهدت للخراب وأسست له، ونحن لسنا استثناءً أبدا.
إن أكثر من حربين دمويتين مرتا علينا، ومجزرة قادمة في الأفق الأسود، ونذر مشؤومة بحرب إبادة كبرى قد تقع سواء على يد هذا الدكتاتور السافل أو على يد خصومه، وهذه الحروب والمصائب لم ولن تمر على مقبرة قطعا.
لقد ولد جيل غضب عراقي جديد من رحم هذه الحروب والكوارث على أنقاض جيل سياسي وثقافي مهزوم شكلا ومضمونا، سرا وعلنا، وكان الجيل الجديد، وهنا المفارقة، قد ولد خلال هذه الحروب الكارثية أو عاش طفولته في حربها الأولى.
أي أن هذا الجيل انبثق، كما لم يتوقع أحد، كما تنبثق الزهرة من خرائب القبور، وكما تشرق وردة برية في أرض من الملح والرماد والجفاف، وكما يولد برق في عتمة داكنة.
هكذا بهدوء وسرية وبلا صخب ولد جيل غضب عراقي جديد هو في الطريق لإحداث تحولات عميقة في مستقبل حزين ومخيف.
ولا نشعر بحرج أن نسمي بعض هؤلاء الذين ولدوا أو عاشوا طفولتهم تحت القصف والطيران والمشانق والموت العاري في الشوارع، ثم صاروا من أكبر مناهضي الحرب في سلوك ارتقائي شجاع ضد الحقد وشهوة الانتقام، وتدل كتاباتهم على نزعة قوية للمراجعة وإعادة النظر وفتح سجلات السياسة والثقافة والفكر والمجتمع.
إن مواقف وكتابات هؤلاء دليل مفرح على أن الورد يمكن أن يزهر في القنابل الفارغة والمرمية، وعلى أن قانون الكراهية والحرب قد ينتج نقيضه بشرا عشاقا أسوياء مسالمين.
إن الشاعر والفنان علي رشيد، والشاعر علي مزهر، والكاتب كاظم الشاهري، وعقيل قفطان، والشاعر عباس خضر وغيرهم الكثير هم الوعد ببشارة قادمة لجيل تمرد على التسول الفكري، والوصاية، والانبهار الصبياني لكل ما هو يلمع، وعلى منطق العصمة في السياسة والفكر، وتقديس الأفكار، وعلى ضرورة التصحيح والمراجعة ونقد الذات والتاريخ والهوية، وعلى وثنية الحرس الأدبي والسياسي القديم، كما لو أننا دائما نعيش على مكتسبات بداية واحدة لا غيرها، أو في مواجهة مستمرة مع زمن واحد هو زمن الأصل وكل الأزمنة الأخرى هي عزف عليه.
هذا الجيل لا يعاني من عقدة الكرسي والمصلحة والمنزل والراتب والموقع، لأنه رؤية وطنية تقوم على أنقاض خيانات الساسة الذين كانوا يغطون في النوم، في حين كان الوطن يغرق في الوحل والجريمة وسفالات الضباط الجهلة والمرتشين والعملاء وزبائن شركات النفط.
جيل وجد نفسه محشورا بين حروب مضت وأخرى قادمة، وبين حرس قديم في السياسة وحرس قديم في الأدب.
جيل حاولوا قتله في الداخل، كما حاولوا قتله في الخارج بالنسيان والإهمال والصمت تارة أو بالتسقيط تارة أخرى، وإسقاط كل ثقافة الوشاية والزور والتحزب وقوانين الردح وأخلاقيات الكذب والوصاية وكل الأفعال القهرية النزوية عليه.
لا أحد يمتلك حق الوصاية، ولا أحد يمتلك حق حساب أحد.
لسنا غنما أو أحجارا تتراكم في الطريق لكي يلعب بنا كل من فشل في أن يكون حزبيا أو سياسيا أو شاذا أو زانيا أو قوادا أو واشيا أو مهرجا أو خائنا أو مقاولا أو مأبونا.
جيل قدم من الأكواخ والصرايف والأضرحة والمقابر والبرية وشاحنات الحرب ، ونمضي إليها.
عشنا بين التوابيت والأزهار.
عشنا كنبت محرم بالقوة على هذه الأرض.
لسنا سياسيين أو حزبيين لكي نخدع الناس بخطاب ملفق عن المستقبل، ولا يهمنا رأي الجموع إذا كنا على صواب، ولا نمارس خطاب تقديس أخطاء الجموع من أجل الكسب السياسي الرخيص.
لا نلتفت إلى ما يشغل غيرنا من مواقع ، لأننا لسنا حكومة، لسنا جيشا، لسنا ايديولوجيا، بل نحن جيل ولد من فم الوحش ورحم الخديعة.
نحن أفق ونافذة ومناخ.
تغرق مراكب السياسيين أو تصل مراكب المرتزقة إلى القصور أو المناصب أو المصارف، لكننا نعلن للعالم أننا فقراء أبديون،
نرفض المال الحرام، ونرفض المال الحلال الذي يفيض عن الحاجة،
فلا طموح لنا في هذه الدنيا / الحطام غير تأسيس دولة الفرح البشري بلا حرب، بلا سجون، بل بمقاومة باسلة متواصلة توشك أن تصل إلى أهدافها لو لا الرغبة الأمريكية والاسرائيلية و"حزب اسرائيل العراقي" في إجهاض نضال ودماء وكفاح ومنافي العراقيين على مر السنين والسيطرة على الوطن من خلال مؤسسة مرتزقة أو فاسدين أو خرفين أو من يستعجل الموت والحصول على قبر قبل فوات الاوان، أو من نسيتهم الجماهير فلجأوا إلى الرقص على حبال الحرب لكي يثبتوا فقط انهم مازالوا احياءً ولو على شقاء الناس ومحرقة إبادة ولعنة التاريخ والابدية.
نحتقر المناصب والمواقع، لأننا أكبر منها، ونحتقر السلطة عدا سلطة الناس.
سلطتنا موجودة في الآتي، والقادم، والمتوقع، والمدهش.
وسلطة السياسي أو المثقف الهامشي والمرتزق، في الكرسي، وفي السرير، وفي الخمرة، وفي النقود، وفي المرايا المزيفة، والواجهات، وفي الدجل.
نرفض أية سلطة على الارض ماعدا سلطة الانسان، ودولتنا نبنيها بعرقنا واحلامنا وخيالنا واشعارنا وحكاياتنا كما فعل ذلك كل كتاب ومثقفو وفنانو العالم ورساموه.
ونظرة واحدة على تماثيل اسكندنافيا، تعطينا الدليل القاطع على ان دولة الانسان لايبنيها السياسي والمرتزق والخائن، بل يبنيها المثقف والمفكر والموسيقي والفنان المغرد خارج السرب، والذي يرفض كل أنواع الاكراهات.
فهذه النخب الفاسدة غير قادرة ليس فقط على إدارة مشروع التغيير الحقيقي، بل وغير قادرة على إدارة مشروع دواجن.
لسنا قطيعا من الفئران يحق لمن يشاء أن يمارس تجاربه علينا في السياسة وفي الحروب وفي المساومات وفي استدعاء الجيوش.
لسنا تجمع أرانب.
ولا يحق لأحد أن يصوت أو يقرر وكالة عنا.
نحن من سيموت، في النهاية، حين يهرب هؤلاء كما في كل مرة.
هم يصيرون أبطالا بهروبهم، ونحن في قبورنا نتحول في منطقهم إلى مغفلين.
بدون وقفة شجاعة سوف لن يحترمنا احد لا في الداخل ولا في الخارج.
نشجب ونعلن رفضنا لكل ما قدمه الجيل السياسي العراقي السابق من سفالات وخيانات وجرائم ومساومات وسجلات تحقير ومحاكمات أرصفة وثقافة عاهات، وما يزال هذا الجيل هو نفسه يتحكم بنا مرة، ومرة، وثالثة، مادمنا كسالى نقبل اليد التي هجرتنا ونفتنا وطاردتنا هنا أو هناك، وأعلنت وصايتها علينا في هذه المحنة تحت تأثير الكحول والخرف ونشوة قرد وعزلة المنبوذ والتي ليس لديها ما تقوله سوى كلمات محسوبة ومعدودة تلوكها كلقمة البعير من الفك الأيسر إلى الفك الأيمن طوال هذه الحقب العاصفة.
نستثني من ذلك الشهداء الابرار ضحايا السلطة وضحايا غيرها والذين ماتوا تحت الاحذية وبدون مقاومة على حفنة أسرار تافهة يعرفها رجال الأمن.
لأنه كان المطلوب من العراقي إما الموت في سراديب الأمن والمخابرات أو الموت ذلا وتشنيعا في سراديب الأحزاب.
لسنا بشرا، في منطق الحزب الحاكم، إلا إذا متنا في الحرب.
ولا في منطق الحزب النائم إلا إذا متنا في السجن.
حياتنا شبهة هنا أو هناك.
رقمنا أو صورنا كشهداء أفضل من صورنا أحياء، لأن صورنا موتى ترفع من حرارة التصفيق للرفاق في القاعات والمؤتمرات الدولية وكي يقال عنا إلى الأبد نحن شعب لا ينتج إلا الموتى أو الشهداء.
نحن ضحايا مهزلة هنا وهناك.
لا تكتمل آدميتنا إلا في ساعة الدفن.
كتاب النعي السياسي الحزبي الجاهز أهم من يتم العائلة وتشرد الأطفال.
لا بطولة غير بطولة الموت في الحالتين.
فنحن كنا ولا نزال نموت، أو يجب أن نموت، بين نعيين جاهزين:
نعي سلطة بالبطولة في حرب لا ناقة ولا جمل لنا فيها.
ونعي آخر بشجاعة الموت في سرداب أمن تحت الأحذية دون أن يكون أحدنا حين يموت في الأقل على سر ثورة أو تمرد أو انتفاضة قادمة.
لسنا خونة ولا شجعانا.
نحن ضحايا.
الذين قادونا إلى التهلكة هنا وهناك عليهم التنحي أو نجبرهم على الخروج من حقل السياسة، ونعريهم، ونفضح سرقاتهم وجرائمهم.
القوى التي قادتنا إلى هذا المصير ليست أحزابا بل هي زرائب قذرة للروث والرشوة وبيع الأوطان في هذا السوق الحقير من المساومات والمزايدات الرخيصة، وعلى جثة وطن مطروح في المشرحة في انتظار ساعة توزيع الغنائم.
لسنا سياسيين هرمين أو مثقفين أذلاء مهزومين مقاولين لكي نعاني من محنة نفسية بين الفاشية وبين الاحتلال.
نعلن رفضنا للاثنين ولا نقبل أن تسرق عذابات شعبنا ودماء أبطاله على مدى عقود من الكفاح ضد الفاشية.
نرفض الفاشية ولو قطعت رقابنا، ونقاوم الاحتلال بكل السبل في الداخل والخارج ولو منعنا مرة أخرى من دخول الوطن.
ليس لدنيا ما نخاف أن نفقده، ولا عندنا ما نخشى أن يزول.
بيوتنا في الحدائق وفي البراري وعلى الضفاف.
كل قادة العالم، كل ساسة العالم، كل كتّاب العالم، يهرمون، ويموتون، إلا زعماء العراق وكتاب العراق وقادة العراق وعقداء العراق. فهؤلاء حتى بعد أن نشيعهم إلى المقابر ونقرأ الفاتحة على أرواحهم، يخرجون علينا بعد ربع قرن وهم في مرحلة المراهقة الجديدة.
من خرج برتبة عقيد في الجيش، نراه صار على فضائية برتبة فريق بعد سنوات.
كما لو أنهم في ثكنة وليس في منفى.
كل الأزمنة تتعطل إلا زمن الترقية.
ومن كان عضوا في حزب أو زريبة في الخمسينات أو الستينات هو نفسه الآن عضو في الحزب نفسه وفي الزريبة نفسها وفي قرن جديد.
بعض هؤلاء يريد منا أن ندفع له ثمن الصفعة في مركز للشرطة أو ثمن الهروب إلى الخارج أو ثمن دفاعه عن حريته وشرفه البشري.
بل بعضهم هرب من مخفر الشرطة أو فر بالخزنة أو هرب بدخل المحل أو هرب بمالية الوزارة أو شركة سرية من شركات السلطة، ويطالبنا أن نصدق، ولو بالقوة، أنه مناضل من أجل التغيير.
حتى الذين فروا لشم الهواء، وتبديل الطقس، وبعد إفلاس السلطة صاروا ثوارا عبر واجهات الأحذية.
بعض هؤلاء عاش مع هذه الفاشية حتى آخر فلس، فلم يحتج على مبدأ الظلم، بل على مبدأ الإفلاس.
وبخبرة التاجر والانتهازي، أسسوا صحفا وأحزابا ومؤسسات ومطبوعات في الخارج وقادونا مرة أخرى.
نحن، في الحالتين، غنم وأباعر وقطيع معروض للبيع.
في داخل هؤلاء شعور عميق وسري ومدفون ومبطن بأن الحرية للناس هي آخر ما كانوا يفكرون به.
بعض هؤلاء ساسة وزعماء أحزاب مارس سلطته على الشعب من موقع الحكم أو من موقع المعارضة العلنية أو السرية .
جربناهم في الحالتين ووجدناهم: فاشيين، كذابين، دمويين.
نستثني من ذلك مثقفين شرفاء ومناضلين يضيعون في مهرجان الزور والوشاية ولا يظهرون في الواجهة لأن المسرح مخصص لعرض الأدعياء وباعة الضمير ولصوص المال العام والخاص .
نحن من اكتوى بنيران الحروب ونعرف معنى الهجوم والهجوم المضاد ومعنى القنبلة والانفجار والغاء المواعيد، وانتظار الامهات، والقطارات، وباصات الحرب والليل، واليتم، ودخان الغارات، وسقوط الجدران، ورائحة البارود والدم، ومعنى لون الشبابيك الازرق الذي يقتل الرغبة البشرية المسروقة بين حرب وسجن.
بدون جبهة ثقافية حقيقية،
بدون عصيان ثقافي وفكري ونفسي وأخلاقي،
بدون مقاومة يومية على كل الجبهات الاعلامية والثقافية،
بدون رفض مطلق للزعماء الكذبة،
بدون محاكم لمجرمي الشعب الذين القوا بنا في هذا المصير المظلم ومن خلال محاولات جرنا نحو مصير أكثر ظلاما، بدون ذلك سوف يمارس الجميع، في الداخل وفي الخارج، كل اشكال الاحتقار والقهر والاذلال على أجسادنا، وستصبح جلودنا أحذية لجنرال قادم.
لن نغفر للقتلة.
لن نغفر للمجرمين هنا أو هناك.
وإلا لماذا تقوم شعوب الارض كل عام باحتفالات ومهرجانات وتؤسس انصابا لضحايا الحروب والعبودية والقهر؟
كي لا ننسى.
كي لا نغفر.
كي نتذكر دائما قوى الشر.
ومن يريد أن يغفر فليغفر لجلاده.
ومن يريد أن ينسى فلينس جلاده.
في دول متحضرة يسقط زعماء ورؤساء وزارات أو قادة أحزاب من مجرد خطأ بشري، أو سقوط جسر، أو انهيار عمارة، أو انحراف قطار، أو موت كلب، أو علاقة جنسية سرية.
قادتنا في السلطة أو في خارجها حتى بعد أن سقطت جسور الحياة على رؤوس الناس فهم يتشمسون كالتماسيح والذباب عند كل منعطف تاريخ أو منعطف حقبة أو حرب أو شارع أو منعطف مرحلة.
هم أبطال كل خيبة ومجزرة وفضيحة.
مازالوا بكل الصلف والحقارة يعلنون أنفسهم قادة كل العصور والمراحل والحقب والقرون.
هؤلاء يستمدون صلفهم من جهلنا وتساهلنا وغياب الوعي عندنا.
نريد بابلو نيرودا يصرخ في شوارعنا:
" تعالوا انظروا الدم في الشوارع
تعالوا انظروا الدم في الشوارع"
نريد لوركا يقتل على عشب مضاء بنور القمر.
نحلم بجون أزبورن وهو يصرخ:
انظروا إلى الوراء بغضب
كما صنعت الصحافة الحزبية زعماء في السياسة، صنعت كتابا وأدباء، وهؤلاء لا يعرفهم حتى الجار الأول ولا زبال الشارع أو صاحب المقهى أو عامل المصعد في الطابق الذي يعيشون فيه ولا دفان المنطقة.
كل ما نحلم به هو: جيل غضب عراقي لمقاومة الفاشية والحرب والاحتلال ، وإلى وعي الذات وإعادة اكتشافها بعد أن طمرت تحت ركام من الاكاذيب والاعلانات والقيم غير المفحوصة والدعاوى الزائفة واشكال العقائد السياسية الكاذبة.
وهذا الاكتشاف هو ثورة نحو الأمل.
وهو المنقذ من الفاشية ومن الحرب.
نحن في مواجهة كبرى وفي صراع تاريخي جبار يصعد نحو الأيام القادمة.
ولا نستعجل الثورة ما لم تكن ثورة الإنسان.
ــــــــ*
من سلسلة مقالات" محنة البطريق"