|
صناعة العبوديّة واستساغة الدكتاتوريّة
جواد كاظم غلوم
الحوار المتمدن-العدد: 5760 - 2018 / 1 / 17 - 14:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كثيرا ما اتساءل مع نفسي لماذا يبقى مواطننا العربيّ الحالي يرتضي الخنوع والاستكانة لواقعه المرير ويستسيغ الاستضعاف ولا يوقظ عقله ويظل طوال حياته متبلّدا مستأنسا بما هو عليه من حالٍ مزرٍ ، نائما ومسترخيا في زريبته في مدن الصفيح والعشش العشوائية ويأنف من تغيير أوضاعه ويخاف المغامرة لصناعة أطر نظام حداثوي جديد مثل حال بقية الشعوب التي ادركت سوء واقعها وصممت على تغيير وضعها البائس سلفاً الى ان تحولت الى مدارج الرقيّ والنماء الآن ومازالت تسعى حثيثاً الى تطوير حالها ومآلها الى مستويات أرقى وأرقى دون ان تقف عند حد معين في حين اننا نظلّ ندور في حلقات مفرغة مثل بغال عمياء حول نواعيرها لا تدري اين تمضي ومتى تستكين . ما الذي يجعل مواطننا المسكين يرضى بعبوديته ويحبذها ويأنس بها وكأنها جنّته في الدنيا ونصيبه الذي لامفر من الركون اليه والتعايش معه ؟ تلك هي قناعة الضعفاء الواهنين ممن لا يحرك عقله ولو عملت له ارتجاجا ولا يمدّ ساعده او يرفعه احتجاجا بسبب حالة خوفٍ ملازمة له توارثَها جيلا بعد جيل . هذه الحالة السائدة لدينا الان والتي يسميها علماء الاجتماع " المواطن الساكن المستقر " ليست وليدة اليوم انما رسخت عبر تاريخنا منذ قرون ولا زالت آثارها ماثلة فينا مع ان الكثير من الشعوب رزحت تحت انظمة ملكية مستبدة وقوى سياسية ظالمة وسطوة دينية مخادعة لكنها نهضت وفككت أسارها وانطلقت لتشيّد انظمة معاصرة قائمة على العدل والمساواة والمواطنة الحقّة الخالية من الفروقات والمنزوعة من الاستبدادات الدينية والدكتاتورية باستثنائنا نحن فقد ظللنا نراوح في مكاننا باحثين في ثنايا العِرقية عن بطلٍ ينتشلنا حالمين بالفاتحين والقادة الاوَل ليخرج من ترابه وينتفض من اجل تخليصنا وفي حيثيات الدين ندعو الى مخلّص لا يأتي الا في المخيلة المتلهفة لبديل منقذ وكأن هذا البديل يأتينا طائعا يقول لنا شبيك لبيك ها أنا ذا بين يديك . في اواخر الثمانينات من القرن الماضي حينما كنّا نتابع مايجري في ربيع ثورات الشعوب التي رزحت في ظل السلطات المسماة بالمعسكر الاشتراكي والمنضوية تحت مظلة حلف وارشو حكى لي صديق كان مقيما في رومانيا طوال العهد الشيوعي ما زلتُ اتذكر ما قاله احد المواطنين الرومانيين قبيل الأيام الأخيرة لسقوط نيقولاي تشاوشيسكو في العام / 1989 هذا الشيوعي الاكثر وحشية ؛ دكتاتور رومانيا حين لملمَ مجموعة من اتباعه يخطب فيهم ويدعوهم الى نصرته امام التظاهرات العارمة التي اجتاحت البلاد ومنها العاصمة بوخارست فقفز احد المتجمهرين نحو الرئيس شاوشيسكو صارخا قبالته وجها لوجه بملء فمه : " ارحل ايها الدكتاتور نحن لسنا من الشعوب العربية حتى نرضى بالدكتاتورية ، اذهب الى هناك واحكم ماتشاء وستكون مَرضيّاً عنك ". نعجب كثيرا ان يستسيغ المواطن العربي هذه العبودية التي يختارها لنفسه ويتلذذ بتدجين نفسه ويقبل ان يكون مواطنا خانعا مستكينا يصل الى حدّ الاستئناس بالعبودية الاختيارية ، هذه الحالة تذكّرني بموقف السود المرحّلين الى اميركا حينما هبّ العبيد في وجه ابراهام لنكولن عندما اصدر مرسومه لتحريرهم ربيع عام / 1865 ؛ الا انهم وقفوا ضد رغبات لنكولن وانضموا الى جانب صفوف مستعبديهم وكل ذلك بسبب القمع الطويل المزمن المتغلغل في اعماق الشعوب المقهورة بما يخلق المواطن الساكن المستقر الذي يأنف من ايّ تغيير ولو كان يتحرك قيد أنملة وفعلا هذا ما يتسم به المواطن العربي الان بحيث تنحصر اهتماماته في توفير الغذاء وملأ الجوف بما متوفر وإشغال العقل والنفس بالمعتقد الديني فالعقيدة لدى المواطن المستقر لاتعدو كونها إداءً مستمرا للطقوس دون الاحساس بتشذيب السلوك الانساني ولا الميل نحو ترسيخ العدالة وإحقاق الحق انما يحسون بالذنب والتقصير عندما تفوتهم ممارسة احد الطقوس او يغفلون عن اداء الصلاة بوقتها المحدد او قضائها في غير أوانها وما عدا ذلك فانهم يبيحون لانفسهم ممارسة الكذب و النفاق والاستكانة للظلم والاقتناع بالمآل السيء فيما بينهم دون اي تحرّج . والغريب ان مثل هذه النماذج الانسانية الشائعة في بقاعنا لايتحسسون بمظلومية أقرانهم ومواطنيهم ولا يتضامنون مع شركائهم في الوطن من المقهورين والمعتقلين السياسيين ظلما ولا يهتمون بعدد الضحايا ممن ماتوا اضطهادا وتعذيبا في سجون الطغمة الحاكمة التي تتحكم ببلادهم ومن بقي معوقا في الحروب العبثية غير المشروعة دون اية رعاية او اهتمام وينسون انهم مواطني بلد واحد وعليهم مؤازرة بعضهم البعض ، لكنه ينتفض فزعا ويعربد بملء شدقيه عندما يسمع ما لايعجبه من الغرب " الكافر " بشأن أوضاعنا المربكة ، او يرى صورا كاريكاتيرية عن شخصياتنا السلفية الموقرة والمقدسة او تثير حفيظته تقارير ناقدة تصدرها منظمات حقوق الانسان ومنظمات الشفافية عما يجري ببلاده من تنكيل وتضييق للحريات في بلاده فيصبّ جام غضبه على الآخرين ويعزو مايقول الى نظرية المؤامرة ويتخيل ان كل الشعوب ماهي الاّ عدوة له ولأمته ويستمر في التظاهر والاحتجاج على الآراء والرؤى المخالفة لوجهة نظره ويظن ان تلك الاراء تمثل رؤى الدولة فيرى ان كل الدولة ومواطنيها هم اعداء له بسبب ضيق الافق وفقدان سعة الصدر مثلما حدث لمقر مجلة " شارلي ايبدو " سنة / 2015 وقبلها صحيفة " يولاندس بوستن " الدانماركية وتناقلتها بقية الصحافة والاعلام تباعاً وكأن الشعوب الاوربية كلها راضية عن نشر هذه الاساءات السمجة لكن ردود الفعل ايضا كانت اكثر سماجةً وسوءاً ومثل هذه الرؤية الضيقة لاتفهم ابدا معنى الحرية واختلاف وجهات النظر التي شرّعتها الانظمة الديمقراطية لمواطنيها ويتصور أن أية وجهة نظر مخالفة لنفسه ولو كانت متطرفة كأنها من ثوابت وقناعات الدولة والنظام الذي يعيش فيه لانه ببساطة لم يعش في ظل الانظمة التي تحترم مبادئ وقيم الاخرين مهما اختلفت القناعات وهذا مايسميه علماء النفس " التبلّد الراسخ " الذي يصعب معالجته آنياً نظرا لقدم التكلسات في انظمة الفكر الواحد عندنا حتى لو عملنا لكل واحد رجّات دماغية لأيقاظ العقل وتحريره من التبلّد ؛ فالأمر يحتاج علاجا طويل الامد ودربة ومران شديدين حتى يعتاد المعايشة والتكيف مع الانظمة الراقية والديمقراطية التي تحترم قناعات الناس مهما اختلفت رؤاهم ووجهات نظرهم . والمدهش في هكذا امورٍ ان مواطننا المتحمس هذا يقيم الدنيا ولا يقعدها لو ثلمت مقدساته قيد أنملة خارج حدود بلاده ولكنه يستكين خانعا صامتا ولا يفتح فاه بحرف او حتى كلمة احتجاج على ضياع حقوقه السياسية وحرمانه من الحرية وتقييده بالقوانين الجائرة ويخرس دون ان يقول شيئا على سلطات بلاده واضطهادها لبني جلدته ولو كانوا اقرب المقربين له ممن ظلموا واعتقلوا وماتوا جراء مايتعرضون له في داخل السجون والمعتقلات الرهيبة داخل وطنه . تلك هي صفات مواطننا المستقر الجامد الفاقد للوعي المجتمعي دون اية حركة احتجاجية فهو العائق الاساس امام كل تطور مرتقب نحو الافضل يمكن ان يؤدي ببلداننا الى شيء من التغيير ولو بخطوات وئيدة وسوف لن يتحقق ايّ تقدم ملحوظ الاّ اذا خرج هذا المواطن المستقر من عوالمه الخانقة ومزّق شِباكه وهتك حبل قيوده لينفلت الى سوح الكفاح والتظاهر ويملأ ساحات بلاده احتجاجا ويدرك تماما ان الصمت على الاضطهاد والاستبداد اكثر ايلاما واشد فداحة مما تخلفه الثورة والتغيير الايجابي ، فلكل شيء ثمنه ولابد من تضحيات وخسائر اذا اردنا تغيير واقعنا نحو الافضل .
#جواد_كاظم_غلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حبٌّ مَنْهِيٌّ عنهُ
-
بعضُ ما خَفِيَ من سيرة الغزالي سفير الأغنية العراقية
-
العقائد الدينية وخوضها في مناقع الخرافة والاسطورة
-
لِمَن أرعشتْ كلّ تفاصيلي
-
مصاريعُ مقفلة
-
حديث عيسى بن هشام المعاصر
-
الصائح النائح
-
السفارة في العمارة أم في وسط المنطقة الخضراء ؟
-
باكورة تعليم الشعوب خطوةَ النهوض الاولى
-
تَنَحَّي أيتها النقاهة لأرقصَ بقامتي الفارعة
-
طائرٌ في سوق الغزل البغداديّ
-
صباحٌ مغمّسٌ بريشةٍ سوداء
-
بعض مسالك ومهالك الحبّ في التراث الادبي العربي
-
لُقَىً بخِسة في خَرِبة وطن
-
العقيدة الدينيّة من التقليد الى العقلنة
-
مرثية بعنوان -- مَلَلٌ و عِلَلٌ --
-
أخطبوط الفساد في العراق
-
زيارةٌ لها في الليلة الأربعين
-
ليتني أعيش مع أقوام الهونزا
-
الاوطان الحبيسة في كيس الفئران
المزيد.....
-
هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش
...
-
القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح
...
-
للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق
...
-
لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت
...
-
مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا
...
-
رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
-
الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد
...
-
بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق
...
-
فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
-
العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|