|
رواية الجريمة والعقاب، وتهيئة الوعي الاجتماعي الروسي للثورة
بشير بن شيخة
الحوار المتمدن-العدد: 5751 - 2018 / 1 / 8 - 00:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
................................... مع الأدب الروسي العظيم( 2) ..... بالرغم من أن الروائي والفيلسوف الكبير دوستويفيسكي كان ضد الأفكار المادية المتوحشة، وكان من دعاة الإيمان في أبعاده الروحية الصافية وتطلعاته الإنسانية الخيرية الراقية، وذلك بحسب ما يلاحظ في رواياته المختلفة، لكنّه رغم ذلك كله فهو يعد منورا وليس محافظا رجعيا، ولا يتوانى كما الأديب الفرنسي الكبير فولتير في السخرية من الكهنة والقساوسة ومن الاعتقادات الشعبية الساذجة، تلك التي تتنافى وأبسط مبادئ التفكير السليم والحس الفطري الصادق، من ذلك من نستشفه من متنه الروائي المتعدد، وخاصة من الحوارات التي تجري على ألسن شخصياته المتنوعة، مثل الحوار الذي سوف أعرضه عليكم الآن.. وهو حوار سيجري بين أحد شخصياته الروائية وكاهن الإقليم الذي تسكنه هذه الشخصية، إنه ذاك الكاهن الذي جلب إلى عين المكان لأجل شهود جلسة اعتراف، أو إدارة قدّاس احتضار لسيّد محتضر على وشك الموت، ولم يكن هذا السيد سوى مدمن الخمر المغلوب على أمره المعروف باسم "مارميلادوف"، وهو شخصية محورية في الرواية، شخصية تعيسة الحظ سقيمة النفس، معلولة الفكر صورت بهذا الشكل لتعكس بطريقة فنية رائعة ما كانت عليه صفات معظم أفراد المجتمع الروسي من الطبقة الكادحة في منتصف القرن التاسع عشر. أما المرأة " كاترينا إفانوفنا" فهي زوجة هذا المحتضر، وهي امرأة مطلقة سابقة، نحيفة جدا، تعيسة جدا بهذا الزوج المسكين، إضافة لكونها معلولة الصحة على الدوام، لكونها كانت مريضة بالسل لعدة أشهر، دون أن يمكنها ما كانت فيه من فقر وعوز هي وأولادها من تناول أي حبّة دواء تخفف عنها السعال الحاد والأليم، إضافة لذلك فهي قد ابتليت بزوج سكير ومسرف جدا، إلى حد تركه لوظيفته وتسكعه بين سوق العلف وخمارة الحي، تلك الخمارة التي تصير مرة على مرة مأواه لأيام وليالي. تلك هي زوجته كاترينا متخرجة من الثانوية العامة في الإقليم، إضافة لمرضها الشديد هي أم لثلاثة أطفال من زوج سابق، وبنت رابعة هي ابنة هذا الزوج المتقاعد مدمن الخمر بشكل كبير جدا، والذي قام جراء هذا الإدمان بعمل حقير وغير شريف وذلك أنه قام بإرغام ابنته التي لم تتجاوز 16سنة على العمل كداعرة في الإقليم، مع غيرها من الفتيات المحرومات المرغمات، أرغمها على تقديم خدمات جسدها الغض إلى برجوازيي البلدة الوضيعين، مقابل نزر قليل من الدراهم، سينفقها حالا هذا المعتوه على إدمانه المتزايد.. كان الحوار بينها وبين الكاهن قد جرى في اللحظة التي كان فيها زوجها يحتضر والدم يكسو كامل جسمه، نتيجة حادث مرور(مع عربة خيل) تعرض له أثناء قطعه للطريق العام مخمورا. وبعد أن انتهت جلسة الاعتراف كما في التقاليد المسيحية، قام الكاهن يواسي المسكينة ببعض الكلمات المنمّقة الفخمة، فأجابته بلهجة خشنة وغاضبة قائلة: وهؤلاء – مشيرة إلى أبنائها الثلاثة - أين سأضعهم الآن؟ وكانت تقصد أن مالكة البيت، تلك الألمانية القاسية معها، والتي سوف لن تتوانى في طردهم جميعا من الغد، لأنها لا تقدر على دفع ثمن الإيجار بعد موت زوجها، هذا البيت البائس الذي لم يكن سوى رواق يفضي إلى غرف أخرى محجوزة لأشخاص غرباء، كثيرا ما ظلوا يتطفلون على حياتها وقبل قليل فقط ظلوا يقهقهون عندما رأوا زوجها مضجر جسمه بالدماء. إضافة إلى ذلك هي لا تملك أي مدخرات مالية، ولن تجد ما ستطعم به أولادها الثلاثة من الآن فصاعدا.. لكن الكاهن تجاهل إشارتها ورد قائلا: الله رحيم ..أمِّلي في عون الله يا امرأة. فأجابته بغضب: هو رحيم ولا شك ، لكنه ليس رحيم بنا نحن.. قال الكاهن وهو يهز رأسه: قولك هذا، فيه إثم كبير يا سيدتي، إثم كبير.. فصرخت كاترين إفانوفنا في وجهه ومشيرة إلى المحتضر:: وهذا أليس إثما؟ وكانت تشير إلى نكد العيش الذي ألحقه بها هذا الزوج السكير، الذي نهب كل موارد العائلة على الشراب، ثم مات فجأة في حادث سير نتيجة ترهله في الطريق العام وهو ثمل، فداسته الخيول في طريقها، وهي مع هذه الفاجعة المؤلمة لا تملك حتى مصاريف دفنه وتكاليف وليمة العزاء وما هو قادم أسوء.. وبعد أيام طردت "كاترينا افانوفنا" فعلا من "الغرفة الرواق" المستأجرة وأصبحت هي وأبناءها متسولين متشردين في الشارع، ولم يلبحث الحال حتى تدهورت وضعيتها الصحية والنفسية حتى صارت تسير في الشارع وتردد في شكل هذياني، أنها سوف تذهب إلى الحكومة لتطالب بحقها في السكن والطعام لأبنائها، لكن لا أحد كان يكترث لحالها. حتى إذا ما دخلت مرة مقر لأحد حكام مقاطعتها، تمت السخرية منها، ثم طردت خارجا شرّ طردة، حتى أن أحد الحراس قام برميها بالأحذية هي وأبنائها الثلاثة، وما زالت كذلك حتى جُنّت، وبعدها ماتت بمرض السل، بينما سيق أبناءها إلى مركز الأيتام على نفقة أحد المحسنين الذي أشفق لحالهم.. من خلال هذا الحوار الصريح وغيره من الحوارات، ومن خلال هذه المشاهد الروائية المؤثرة جدا، والتي سيقت عمدا لأجل كشف الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع الروسي في منتصف القرن التاسع عشر، نكتشف أن " تيودور دوستويفيسكي" كان ذكيا جدا، وكان ثوريا أيضا في كتاباته على كل أشكال التفكير القديم، لأنه كان من خلال رواياته كلها يهيئ شعبه لكي يتأمل مصيره المادي التعيس بنفسه، وأن لا يقبل العزاء الديني الساذج، وأن يدع كل مقولات الرحمة والعناية الإلهية وراء ظهره، وكل تلك الأفكار الغيبية التي رافقت مرحلة الإقطاع وسيطرة الملاك الكبار، وأن يسارع إلى البحث في أسباب التفاوت الطبقي والحيف الاجتماعي والاقتصادي، وأن يهيئ ذهنه للمرحلة القادمة ، مرحلة الثورة على الأوضاع الاجتماعية والسياسية المزرية، عن طريق الوعي المتصاعد بحقوقه المادية والاجتماعية، وأن لا يتواكل على القوى الغيبية ومقولات الكهنة، لأنها لن تنفعه عندما تخنقه الأزمات وتشتد به الكروب. وليس غريبا أن من يقرأ روايات دوستويفيسكي كلها، سترتسم في ذهنه صورة بانورامية عن المجتمع الروسي إبان تلك الحقبة، يلاحظ فيها مدينة مليئة بالغبار والمتشردين ومجموعة من السكارى يتشاجرون ونساء داعرات يطللن من القباب الموحشة، وأطفال صغار يتامى يغنون ويعزفون في الشوارع والخمارات لكسب المال القليل. بينما لو نقرأ رواية مدام بوفاري للروائي الكبير غوستاف فلوبير وهي رواية أنتجت في نفس الفترة وقامت بتصوير المجتمع الفرنسي الباريسي في نفس الزمن، لا نلحظ أيا من هذه الصور الفظيعة والموحشة. فقد كانت تلك الصور والمشاهد التعيسة مقصودة من الروائي دوستويفيسكي حتى يتأمل الشعب وضعه هذا عن بصيرة ويقين، وحتى يهيئ وعيه للثورة على الأوضاع المتعفنة، خاصة وقد كان المجتمع الروسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يمر بمرحلة تحول اقتصادي عنيفة وخطيرة، فمن الإقطاع التقليدي واقتصاد الكفاف إلى البرجوازية الوضيعة، تلك التي نهبت الثروة وموارد الدولة، واحتكرت كل فرص الربح و التجارة السهلة، كل ذلك في ظل امبراطورية قيصرية متهالكة وعاجزة، وفاقدة كليا السيطرة على مواردها، ولا تملك أي رعاية اجتماعية أو صحية، أو حتى توجه اقتصادي واضح للمستقبل.. فما أحوج مجتمعاتنا اليوم إلى أديب كبير مثل "تيودور دوستوفيسكي"، حتى يرفع نسبة الوعي عند الشعب، ويهيئه إلى التوحد معا ضد الظلم والحيف الاجتماعي والمطالبة المستميتة بكامل حقوقه المادية والمعنوية، والخروج النهائي من الخدر الروحي والعناية الإلهية، وكل المقولات التي لا تزيد إلا في تغريب الشعب عن واقعه ومزيدا من غفلته عن وجوده الحقيقي، الذي ما هو إلا الوجود الطبقي..
#بشير_بن_شيخة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية أنا كارنينا، رواية الجمال والعشق المجنون.
-
في الإلحاد والإيمان/ حفريات في الوعي البشري.
-
المسيحية، النشأة والتطور / الاختلاف في التأريخ لحياة عيسى ود
...
-
ما بين التصور الإيماني للتاريخ ، وتصور المعرفة العلمية من فو
...
المزيد.....
-
مستوطنون متطرفون يقتحمون المسجد الأقصى المبارك
-
التردد الجديد لقناة طيور الجنة على النايل سات.. لا تفوتوا أج
...
-
“سلى طفلك طول اليوم”.. تردد قناة طيور الجنة على الأقمار الصن
...
-
الحزب المسيحي الديمقراطي -مطالب- بـ-جدار حماية لحقوق الإنسان
...
-
الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس وسط العنف الطائفي في جنوب ا
...
-
الضربات الجوية الأمريكية في بونتلاند الصومالية قضت على -قادة
...
-
سوريا.. وفد من وزارة الدفاع يبحث مع الزعيم الروحي لطائفة الم
...
-
كيفية استقبال قناة طيور الجنة على النايل سات وعرب سات 2025
-
طريقة تثبيت تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2025 TOYOUR BAB
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال اقتحم المسجد الأقصى المبارك 21
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|