|
غاندي وسياسات اللا عنف
مانجيه موراديان
الحوار المتمدن-العدد: 5750 - 2018 / 1 / 7 - 12:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بِقلم: مانجيه موراديان وديفد وايتهاوس
إنّ لأفكار مهاتما غاندي آثرٌ مستديم على اليسار، من حركة الحقوق المدنيّة في الستينات حتّى الحركات المناهضة لجشع الشركات والعنصريّة التي تنشأ اليوم، فالكثير يرون غاندي كتجسيدٍ لسلميّة فعّالة سياسيًا. ولكن قصة نجاح استراتيجيّة غاندي اللا عنفيّة أغلبها – واقعًا – مجرّد خرافة.
النسخة الشائعة لخرافة غاندي هي التشديد السطحي على أنّ نضالًا مبنيًا على السلميّة أجبَر البريطانيين على الخروج من الهند. وعبّر مارتن لوثر كينغ جونيور عن هذا الرأي مرّات عدّة عن طرق حركة الحقوق المدنيّة التي قادها، حيث قال: «هذه الطريقة شاعت في جيلنا عن طريق غاندي، الذي استخدمها لتحرير بلده من سيطرة الإمبراطوريّة البريطانيّة». واعتقد مارتن لوثر كينغ أنّ «حصول ظاهرة كغاندي كان أمرًا حتميًا. إن كان مصير الإنسانيّة هو التقدّم، فليس بإمكانها الهرب من غاندي. لقد عاش وفكّر وتصرّف مستلهمًا بنظرة الإنسانية المُتطوّرة تجاه عالم من سلام وتناغم. بإمكاننا تجاهل غاندي، ولكن علينا نتحمّل عواقب ذلك».
هذه النظرة لإسهامات غاندي أعطت مبدأ اللاعنف مصداقيّة في محاربة الظلم حول العالم منذ ذاك الوقت.
ولكن ثورة الهنود ضدّ الحكم البريطاني يمكن وصفها بأيّ وصف إلّا بأنّها لا عنفيّة. وأفكار غاندي التكتيكية قامت إضافةً إلى ذلك، كونها مُرشدًا للنضال، بفرض حدود خطيرة على النضال. والحركات التي بدأت تحت رعاية غاندي كثيرًا ما انتهت بتقهقر مبكّر أو شهدت تصعيدًا لمواجهات عنفية. أمّا طرد البريطانيين عام 1947 فلا يمكن اعتباره انتصارا لطرق غاندي، إذ أن استقلال الهند أتى حين كانت الحركة المناهضة للاستعمار تهمّش غاندي وفلسفته اللا عنفية سياسيًا.
ولكنّ على الرغم من ذلك، كان لغاندي مساهماتٌ مهمّة في الحركة، وأهمّها كان نجاحه في قيادة جموعٍ من الناس للنضال ضد الحكم البريطاني، وهو أمرٌ قام به بشكلٍ أفضل من أيّ قائد هنديّ آخر. ولكن، بينما كانت قيادة غاندي الشعلة لهذه النضالات، لم تكن هي سببها. فالنضالات هذه نشأت من مظالم حقيقيّة عميقة ضدّ الحكم البريطاني والجموع – بعد أن تمّ تحشيدهم – برهنوا مِرارًا استعدادهم لتبنّي تكتيكاتٍ مُحارِبة حين لا تنجح التكتيكات اللا عنفيّة.
ولكي نفهم هذه المظالم ونفهم النضالات التي ألهمتها هذه المظالم، يجب أن نعود إلى النظّر لخلفيّة الحكم الاستعماريّ البريطاني.
«يجب إدماء الهند»
كانت الهند بالنسبة للغُزاة البريطانيّين مصدرًا للأرباح وقاعدة لعمليّاتهم العسكريّة الممتدّة من إفريقيا حتّى إندونيسيا – مُستخدمين جنودًا هنديّين. ومنذ مراحل المبكّرة للاحتلال في أواخر القرن الثامن عشر، بدأ البريطانيّون بفرضِ ضرائب هدفها تمويل وجودهم في الهند وإرسال الأموال لبريطانيا. ومنذ 1765، فرضت شركة الهند الشرقيّة البريطانيّة احتكاراتٍ على الاحتياجات الشائعة – كالملح مثلًا – في الأراضي التي تتحكم بها.
هذه الاحتكارات أنتجت سخطًا وتمرّدًا في القرنين التاليين. ولكن البدعة البريطانيّة التي جلبت البؤس للملاين كانت فرض علاقات السوق – الاقتصاد المالي – على الزراعة.
أتت الخطوة الأولى تجاه إدخال العلاقات الماليّة بفرض ضرائب على كلّ الأراضي. فحين استبدل البريطانيّون الإمبراطورية المغوليّة المتهاوية، أحكموا السيطرة على نظام إيرادات الأراضي المغولي ووسّعوه بشكلٍ كبير، حيث كان هذا النظام مبنيًا على جامعي ضرائب محلّيين عرِفوا بمسمّى «زامينداريّة». قام البريطانيون بتعميم استخدام هذا النظام حيث وُجِد وسمحوا للـزاميندارية بأن يستحوذوا على عشرة بالمئة من إيرادات الأراضي. وفي أماكِن أخرى، أسّس الحكم البريطانيّ ضرائب مُباشرة.
أصبح الفلّاحون بسبب ذلك بحاجة لبيع جزءٍ من منتوجهم في السوق للحصول على أموال لدفع الضرائب، وبحلول 1860، بدأ هذا النظام بالانتشار في أرجاء الهند البريطانيّة، حيث سهّل انتشاره نظام قطارات جديد يحمل القطن ونبات النّيلة لخارج البلد، تجاه السوق البريطانيّة وأسواق أخرى.
فكان أثر ذلك على القرى أن تحوّلت الثروة القوى للطبقات التي تمتلك الأموال، من ضمنهم الزامينداريّة ومُقرِضو الأموال المرابون الذين بدأوا – مدعومين بضماناتٍ قانونيّة بريطانيّة على حقوقهم الملكيّة – بشراء كل ما هو متواجد من بقع أراضٍ شاسعة. الملكيّة [الخاصّة] هذه سمحت لهم بفرض إيجار على الفلّاحين علاوةً على الضرائب التي استخرجوها منهم.
أضحى الفلّاحون المحرومون عمّالًا زراعيّين يعملون باليومية، وهذي طبقة اجتماعيّة نشأت من عددٍ مقاربٍ للصّفر عام 1852، فوصلت لنسبة 18% من سكّان الرّيف عام 1872. وبحلول منتصف القرن العشرين، شكّلت الطبقة الكادحة الزراعيّة – أي أولئك الذين لا يملكون أراضٍ، أو ملكوا أراضي صغيرة جدًا لدرجة أنّهم يضطّرون للعمل لدى أناسٍ آخرين ليكسبوا لقمة عيشهم – نصف سكّان الريف.
إذًا، علاقات السوق نقلت الثروة لأيدي ملّاك الأراضي الهنود، وهي عمليّة أطلق عليها ماركس مسمّى «تكديس رأس المال البِدائي [أيَ: الأولّي]» حين جرت في إنكلترا. ولكن الفلّاحين الهنود المحرومين لم تكن لديهم القدرة على البحث عن وظائف صناعية كما حصل مع الفلّاحين الإنكليزيّين، فبداية إنكلترا المبكّرة في الصناعة سمحت لها بغمر السوق الهنديّة بسلعٍ مصنعيّة، وهذه البضائع المستوردة بدأت حينئذٍ بسحق الصناعات الهنديّة الحِرفيّة، من ضمنها صنع الأدوات المعدنيّة و – بالخصوص – صناعة الملابس.
النتيجة كانت إيقاع الفلّاحين في بؤسٍ ريفي وأن توسّعت الطبقة الكادحة الريفيّة أكثر لكون الغزّالين والنسّاجين أصبحوا عاطلين عن العمل.
فمن ثمّ إذًا، أسّس الحكم البريطانيّ لتراجعٍ شديد للرفاهية الماديّة لأغلب الهنود. عانت الهند قبل الاحتلال ممّا معدّله مجاعة عامّة واحدة كل 50 عام، ولكنّ المجاعات ونقص الغذاء استحوذت على أجزاءٍ من الهند لـ20 من 49 عامًا في فترة ما بين 1860 و 1908 [وكان ذلك تحت الحكم البريطاني]. فالاحتياطات التي حفاظ عليها المزارعون سابقًا لحماية أنفسهم في فترات قلّة هطول الأمطار أصبحت الآن تُباع روتينيًا بغرض دفع الإيجارات والضرائب، حيث تُشحن وتُرسَل للخارج.
لخّص لورد روبيرت ساليسبري، وزير الخارجيّة البريطاني في الهند، أهداف الحكم البريطاني في تلك الفترة مُعلنًا أنّه «يجب إدماء الهند».بيّن كارل ماركس ذلك بالأرقام: «ما يأخذه الإنكليز من الهنود سنويًا على شكلِ إيجارات وعوائد ماليّة لسككٍ حديدية لا ينتفع منها الهندوس، ورواتب للموظّفين العسكريين والمدنيين ولحروبهم في أفغانستان وغيرها من الحروب…إلخ إلخ – ما يأخذونه منهم بدون أي مقابل، عدى عمّا يستحوذون عليه لأنفسهم داخل الهند، وذلك فقط حين نتحدّث عن قيمة السِلع التي يرسلها الهنود بلا مقابل سنويًا إلى إنكلترا، فقيمتها أكثر من الجموع الكلّي لدخل ستّين مليون عامل صناعي وزراعي في الهند! هذه علميّة إدماءٍ تجري بحماسٍ شديد!» [تشديد ماركس]
المقاومة ما قبل غاندي
لم يقبل الهنود بهذا الوضع بكلّ بساطة. إن تاريخ الـراج البريطاني (أي: الحكم البريطاني) مليء بأشكالٍ مختلفة من المقاومة، من ضمنها انتفاضاتٌ محليّة قام بها مزارعون ومجموعات «قبليّة».
ولكن حتى عام 1857، لم تقم أيّ حركة بربط المظالم المحليّة بنضالٍ في كلّ أرجاء الهند لطرد البريطانيين. فالهنود كانوا منفصلين عن بعضهم البعض بعوامل عدّة منها الطوائف والطبقات الاجتماعية والأديان واللغات والمناطق. في ذلك الوقت، كانت القوّة الوحيدة المتواجدة في كلّ أرجاء الهند التي بإمكانها مواجهة الحكم البريطاني هم الجنود – المعروفون بـالـ«سيبوي» – في الجيش. [الـ«سيبوي» هو جندي هندي يعمل تحت الحكم البريطاني]. حين انتفض السيبوي عام 1857 ضدّ الإساءات العرقيّة والدينيّة، أشعلوا وربطوا انتفاضتهم بانتفاضات المزارعين في شمال ووسط وغرب الهند.
حدثت تلك الانتفاضة على مستوىً وطنيّ تقريبًا، ولكنّها لم تكن قوميّة في وعيها. كانت مطالب الانتفاضة هي طرد البريطانيين وإعادة الحكم للأمراء المحلّيين – وهم السلطة الشرعية الوحيدة التي كان بإمكان الثوّار تصوّرها.
اشتعلت الانتفاضة في وجه القمع البريطاني. ولكونها انتفاضةً عفوية فقد افتقدت للتخطيط والتنسيق. والأكثر من ذلك هو أنّها كلّما اقتربت الحركة لتحقيق أهداف «التحكّم المحلّي»، كلمّا ضعفت أكثر وتقسّمت أكثر أمام الإرهاب البريطاني.
بالتالي، مع أن انتفاضة السيبوي كانت مناهضة للإمبريالية، فهي كانت تنظر للوراء، فالطبقات الاجتماعيّة والوعي اللاتي بإمكانهن حمل حركة وطنية في المستقبل كُنّ لا يزلن في مراحل جنينية في ذلك الوقت.
برز سياسيّون قوميّون في العقود التي تلت ذلك من طبقةٍ وسطى جديدة من محامين وموظّفين حكوميين هنود. وبالقدر التي وُجدت فيه هذه الطبقة عام 1857، فالمنتمون لها وقفوا جانبًا بعيدًا عن انتفاضة السيبوي. فقد رأوا مستقبلهم مرتبطًا بالحداثة، وبالتالي طمحوا أولًا لأن يُقبلوا كنُظراء لدى الراج البريطاني بدل أن يضعوا مصيرهم تحت أيادي الأمراء.
ولكنّ ما حرّك الطبقة الوسطى القوميّة كان أكبر من مجرّد الطموح. لقد رأوا في المقام الأوّل أن العنصريّة التي قيّدتهم مهنيًا كان لها وقعٌ أشرس على باقي الهنود: «لهؤلئك الأقل حظًا، أخذت العنصريّة أشكالًا أشدّ من ركلاتٍ ولكماتٍ و”حوادِث” إطلاق نار أثناء تأديب “الصاحب” [أيّ السيّد الأوروبي] لعامِل المروحة التابع له (punkha coolie) أو قتل أحد أبناء البلد [أثناء رحلات الصيد] …تم تسجيل ما لا يقل عن 81 “حادث” إطلاق نار في الأعوام ما بين 1880 و1900. وفرضت محاكم يسيطر عليها البيض في مثل هذه القضايا أحكامًا خفيفة جدًا لدرجة تبعث على السخرية، وأي لمحة على الجرائد الهنديّة الحالية أو الجرائد الخاصة ستكشف لنا مباشرةً أهميّة مثل هذه الأمور في نموّ الحسّ الوطني».
أصبح بإمكان الطبقة الوسطى أن ترا أيضًا الفقر الذي تسبب به الحكم البريطاني – يعاكسه الازدهار في إنكلترا، حيث درس العديد من المحامين والموظفّين الحكوميين الهنود [ورأوا هذا الازدهار]. والكثير من الطلّاب انجذبوا لأفكار «دادابهاي ناوروجي» القوميّة؛ كان يعيش في إنكلترا وهو معروف بترويج نظريّة «استنزاف الثروة» لتفسير الفقر الهندي – وهي التتمّة المناهضة للإمبرياليّة لعبارة ساليسبري: «يجب إدماء الهند».
في عام 1885، أسّس العديد من هؤلاء الطلّاب السابقين المؤتمر الوطني الهندي للدّفع بمصالح الهنود تحت الراج البريطاني.
كانت أساليب حزب المؤتمر في العقود الأولى محصورة غالبًا في رفع عرائض للحكومة خلف أبوابٍ مغلقة. حتّى مع كون بعض القوميين أصبحوا راديكاليين كفاية ليطالبوا بـ«سواراج» (حكم محلّي)، ظلّ المؤتمر الوطني ذو طابعٍ نخبوي – بِمؤتمرٍ سنوي أغلب حاضريه من المحامين والمهنيّين. ومع أن حزب المؤتمر أصبح معروفًا بخطابٍ ذو طابعٍ راديكاليّ متزايد، لم يكن لديه جذورٌ في الطبقات الأخرى – أو أي إنجازاتٍ على أرض الواقع بإمكانه عرضها. كان لدى لمؤتمر بالكاد أي حضور ما بين مؤتمراته السنويّة.
ومع وصول غاندي عام 1915، كان حزب المؤتمر يتّجه باتّجاهين. قسمٌ حافظ على أسلوب العرائض المعتاد، وقسم آخر ضاق ذرعًا بأسلوب «الشحاذة» غير المجدي، وأصبح معروفًا بـقسم «المتطرّفين» واتّجه نحو الإرهاب الفردي. ولكنّ كلًا من هذان الطريقان هما استراتيجيّات نخبوية منفصلة عن حركات المقاومة الشعبيّة.
حصل تجاوزٌ مهمّ جدًا لهذه الحالة في هذه الفترة رَبَط الحركة القوميّة الرسميّة للنضال الشعبي. في 1908، حين سُجِن «المتطرّف» بلغانغادار تيلاك التابع لحزب المؤتمر بسبب نشره لمقالة متعاطفة مع الإرهابيين البنغاليين، حيث قام عمّالٌ مومباي بإضرابٍ اعتراضًا على سجنه. استمرّ الإضراب ستّة أيام، يوم واحد لكلّ عامٍ من حُكمِ تيلاك. أثّر الإضراب على 76 من 85 من مصانع الغزل والنسيج ومعامل السكك الحديدية في مومباي.
أشار هذا الإضراب لظهور الطبقة العاملة كقوّة في السياسة. في هذا الوقت فقط، بدأ توجّه الهند تجاه إلغاء المَصنعةَ بالالتفاف، حيث ظهرت العديد من المشاريع الكبيرة المملوكة من قِبل هنود. وبحلول 1921، وصل عدد الطبقة العاملة في الصناعة والمزارع الكبيرة لـ2.7 مليون نسمة وأصبح لها تأثير كبير غير متناسب مع حجمها الصغير في هذا البلد ذو 300 مليون نسمة.
ولا يقل نموّ البورجوازيّة الهنديّة أهميّة عن ذلك، حيث أصبحت قطاعاتٌ منها شديدة القوميّة حيث كانت متضايقة من تحكّم البريطانيين بالعملات والتعريفات.
عمليًا، كان لكلّ طبقة مظاليمها ضدّ الحكم البريطاني: المزارعون من الطبقة الوسطى والمنخفضة، والعمّال، مِهنيّو الطبقة الوسطى، والبورجوازيّة، فقد كانت مسألة وقتٍ لا أكثر كي تقوم قطاعاتٌ كافية من هذا المجتمع بالاتّحاد لإسقاط الحكم البريطاني. السؤال المهم كان، أي من هذه قطاعات ستتكتّل في تحالف لقيادة البقية؟ وبأيّ أفكارٍ سيقومون بتشكيل الهند ما بعد الاستقلال.
غاندي – أكثر من أي شخصٍ آخر – سيقوم بتوحيد تحالفٍ قياديّ لقوى. ورؤيته السياسيّة وضعت أثرها في توجّهات الحركة في المنعطفات المهمّة. ولكن، في النهاية، قامت قوى أقوى من شخصيّة غاندي بتشكيل الحاصل النهائي.
توجّه غاندي نحو السياسة
وُلِد موهانداس غاندي عام 1869 في مقاطعة قوجارات الهندية، كانت عائلته من طائفة «بانيا» التجاريّة التي شكّلت – ومعها البراهِمة – جزءًا كبيرًا من الطبقة الوسطى. حين كان شابًا، ذهب غاندي لإنكلترا لدراسة القانون، ولكن انتهى به الأمر بأن ترك مِهنته وتبنّي أسلوب حياة ولباس الفلّاحين الهندوس، مُستخدمًا الرمزيات الهندوسية التقليدية ليخلق انتماءً مع القرويين.
معتقداته الدينيّة المُخلِصة لم تأتِ من تعليمٍ أرثودوكسي في الطفولة وإنما من دراساتٍ قام بها كإنسان بالغ أثناء نشاطه السياسي في جنوب إفريقيا. ومع عودته للهند من إنكلترا، واجه صعوباتٍ بدايةً في عمله كمحامٍ وقبل بعرض في عام 1893 ليعمل على قضيّة تجارية في جنوب إفريقيا. ومعها، انتهى به الأمر بأن أقام هناك – مع زياراتٍ قصيرة للهند – لأكثر من عشرين عامًا.
كانت العنصريّة في جنوب إفريقيا أشدّ مما كانت عليه في الهند، وأصبح غاندي مناصرًا وقائدًا للهنود المهاجرين إلى جنوب إفريقيا. تصاعدت النضالات لأجل حقوق الهنود خلال إقامة غاندي هناك، وكان عليه تعليم نفسه مهاراتٍ جعلت منه متميّزًا حين عاد للهند، منها مهاراتٌ عن كيفيّة تجاوز الانقسامات الطائفية والطبقية والدينية بهدف بناء قاعدة لحراكٍ شعبي دراماتيكي. كان غاندي أبعد مما يكون عن السذاجة، فقد تعلّم مهارات جمع التبرعات والمحاسبة الضرورية للإبقاء على السياسات الشعبيّة.
ومن خلال تلك العمليّة، أثّر نموّ غاندي الديني على سياساته بشكلٍ متزايد. من خلال قراءاته لكتابات ليو تولستوي – حيث تراسل معه أيضًا – وكتابات المنظّر الاجتماعي روبرت رسكن – معها قراءة ذات طابعٍ شخصي للنصوص الهندوسية – وجد غاندي فلسفةً تشخّص الظلم الحديث كأمرٍ ناتج عن المصنعة واقترح العمل السياسي اللا عنفي كعلاج.
آمن غاندي أن البحث عن الحقيقة هو هدف حياة الإنسان، وبما أنّه «من غير الممكن لأي شخص أن يكون متأكدًا من أنّه وصل للحقيقة المطلقة، فإن استخدام العنف لفرض فهم الشخص الجزئي – بالضرورة – للحقيقة أمرٌ أثيم».
بحلول عام 1907، أنشأ غاندي الاستراتيجيات الأساسيّة للمقاومة اللا عنفيّة، التي سمّها بـ«ساتياغراها». تكوّنت الاستراتيجية من تدريب بذرة من المتطوعّين الذين سيساعدون على قيادة مسيرات شعبيّة ومخالفات شعبيّة لقوانين معينة نتيجتها اعتقالاتٌ جماعية. ومع ثلاث حملات لا عنفية في السبع سنوات التي تلت، مع نصوصٍ متزايدة من مقالاتٍ ومنشورات، جعل ذلك غاندي مشهورًا في الهند حتّى قبل عودته.
أثناء إقامته في جنوب إفريقيا، كتب غاندي عن الهند في منشورٍ عام 1909 بعنوان «هند سواراج» (حكم الهند الذاتي)، واستهدف ما ظنّ أنه العدو الحقيقي، ألا وهو الحضارة الصناعية: «من الحماقة أن نعتقد أن روكفيلر هندي سيكون أفضل من روكفيلر الأمريكي [جون روكفيلر كان أحد أكبر التّجار الأمريكيين]…يتلخّص خلاص الهند في نبذ ما تعلمّته خلال الخمسين سنة الماضية أو ما قاربها. السكك الحديدية، البرقيات، المستشفيات، والمحامون والأطباء وكلّ ما شابههم عليها بنبذهم، وعلى ما يسمّى بالطبقة العليا بأن تتعلم أن تعيش بوعيٍ وتديّنٍ وبتعمّدٍ حياة المزارع البسيطة».
إلى زمن مضى كانت – بالتأكيد – غير واقعيّة، بالخصوص حين ننظر للنموّ الجديد للطبقة العاملة والبورجوازية الهنديّة، ولم تجد هذه النظرة أي تأييدٍ حقيقي لدى العناصر القياديّة للحركة الوطنيّة – المثقفون الهنود وأصحاب المصانع.
كانت نظرته طوباوية بالخصوص فكرة أنّ «من يسمَّون بالطبقة العليا» سيقومون من تلقاء أنفسهم بالتنازل عن منزلتهم الغنيّة ليعيشوا كالفلّاحين، فقد كان الأمر في الواقع على العكس تمامًا، فالرغبة المتزايدة لدى الطبقة الغنيّة الهندية بإبعاد البريطانيين لم يكن سببها إلّا رغبتهم بأن يصبحوا «روكفيلر الهندي» الجديد.
مع أنّ نظرة غاندي المناهضة للتصنيع لم تلق قبولًا واسعًا عند الطبقات المدينية المتزايدة في الهند، فقد ضربت وترًا حساسًا عند الفئات الشعبية الهنديّة الكبيرة – بالخصوص الفلّاحين الفقراء والنسّاجين والغزّالين العاطلين عن العمل – التي سحقها ارتباطها بنظام التصنيع البريطاني.
طبّق غاندي الجزء المناهض للحداثة من فِكره من خلال العمّال الاجتماعيين في القرى حيث نظّموا مجموعات مساعدة ذاتية ضمن فقراء الريف. مع أنّ هذا «العمل البنّاء» لم يكن له تأثير حقيقي في مكافحة الفقر، فقد أدّى لخلق تأييد شعبيّ لحزب المؤتمر – وصنع قاعدة شعبية أطلق من خلالها حملاته المستقبلية.
على الرغم من الغرابة الواضحة في فلسفة غاندي، فقد بدى أنّ استراتيجية العمل الشعبي اللا عنفي وفّرت طريقًا للأمام لحركة المقاومة على كلٍ من الصعيدين النخبوي والشعبي. فحين وصل غاندي للهند عام 1915، كان المحاربون من حزب المؤتمر يقومون بأعمالٍ إرهابية فرديّة لم تقم بأي تغيير حقيقي، والفئات الشعبية قامت بانتفاضاتٍ محليّة قُمِعت بوحشية – حيث تبعها الخضوع اليومي للظُلم. ما قدّمته أفكار غاندي هو بديلٌ لهذين الخيارين غير المرضيين.
كان لجاذبيّة استراتيجية غاندي جانبان. فقد لقت قبولًا لدى القرويين لأنها طريقة جمعيّة للمقاومة ولمحاولة الترفّع عن العنف وبرهنة كرامة قضيّتهم. ولقت قبولًا عند التجّار الأغنياء وملّاك الأراضي والمزارعين من أصحاب الأراضي الصغيرة الذين دعموا استراتيجية غاندي لأنها وفّرت لهم أملًا بالتّخلص من البريطانيين من دون أن يكون لذلك تهديد بتدمير ممتلكاتهم أو تعريض مكانتهم الاقتصادية والاجتماعية للخطر. طرح غاندي طريقته النضالية للقيادات الأكثر محافظةً في حزب المؤتمر كطريقة لسحب القيادة من الجزء المحارب من الحزب نفسه، حيث قال لهم: «إنّ الجيل الناشئ لن ترضيه العرائض…ساتياغراها [اللا عُنف] هي الطريقة الوحيدة – حسب رؤيتي – لإنهاء الإرهاب.»
الهند تجِد قائدًا شعبيًا
عاد غاندي للهند وانضمّ للمؤتمر الوطني الهندي خلال الحرب العالمية الأولى. أتت الحرب بأزمة اقتصادية وسياسية للبريطانيين، مما أتاح المجال لرؤساء الحياكة الهنود للاستحواذ على حصّة أكبر من السوق المحليّة، فقد سئم جزءٌ متناميٍ منهم من تحكّم البريطانيين بالسوق، وأضحى الكثير منهم داعمين متحمّسين للحركة الوطنيّة.
وقد جذبهم بالخصوص وعد غاندي بإسقاطٍ لا عنفي للحكم البريطاني. وبسبب جاذبية غاندي، بدأ المؤتمر الوطني بتلقّي تمويلٍ من كثير من أكبر التجّار، منهم عائلة سارابهاي، وهم زعماء تجارة الأنسجة في قوجارات وبيرلاس وثاني أكبر مجموعة تجارية في الهند. وأصبحوا من مستشاري غاندي الدائمين طوال حياته السياسية.
وبالنسبة للناس العاديين في الهند، فقد أيقظت الحرب آمالًا جديدة؛ قاتل الجنود الهنود لأجل البريطانيين في حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وعادوا لبلادهم راغبين بأن يُعاملوا بمساواة، كما وصف إقبال أحمد الوضع: «في أرض المعركة، بدأ [الجنود] يلاحظون يومًا بعد يوم أنّهم مساوون [للبريطانيين]، ولكنّهم كانوا أيضًا يواجهون تمييزًا عرقيًا، ولذلك فقد عادوا من الحرب العالمية الأولى مشتاطين غضبًا، إذ قام هم أقرباءهم بإعطاء دفعة الحركة الوطنيّة.
وكان للثورة الروسية لعام 1917 أثرٌ راديكاليّ على المظلومين في أرجاء العالم، ولم تستثنى من ذلك الهند، حيث كتب أحد المؤرّخين: «في سنين ما بعد الحرب [العالمية الأولى]، ما كان يتبيّن بتكرار هو مزيجٌ من المظالم المتضاعفة ومزاجٍ جديد من القوة أو الأمل، وهذه هي الوصفة التاريخية لاحتماليّة نشوء حالةٍ ثوريّة.» شهدت أعقاب الثورة الروسية تنامي الطابع المحارب (militancy) لدى العمّال والفلّاحين ممّا أدى لفجرِ نضالاتٍ كبيرة. حاول غاندي لعب دور الوسيط وتصرّف كـكابِح على الحركة.
في عام 1918، نشأ خلافٌ في مصنع الأنسجة في أحمد آباد حين حاول المالك إنهاء نظام العلاوات الذي أدخله في فترة وباء مدمّر. كان صاحب المصنع واقعًا أحد مموّلي غاندي وكانت أخته طالبة غاندويّة أنشأت مدارس ليليّة لعمّال المصنع. تدخّل غاندي ليقنع العمّال بأن يخفّضوا مطالبهم من رفع الرواتب بنسبة خمسين بالمئة لخمسة وثلاثين بالمئة وحرّم الاعتصام المحارِب داعيًا لإضراب عن الطعام. [يُقصد بالاعتصام المحارب هو سدّ مدخل المصنع لمنع كاسري الإضرابات من دخول المصنع وكسر الإضراب]
روّج غاندي لفلسفة عمّالية تدعو للتحكيم السلميّ للخلافات وجادل بأنّ الرؤساء هم «أوصياء» على العمّال. رسالة التواطؤ الطبقي (class collaboration) هذه المتستّرة بلغة اللا عنف أصبحت منهج غاندي المستمرّ مع تصاعد النضال الطبقي. وموقفه من الإضرابات كان واضحًا: «في الهند نحن لا نريد أيّ إضراباتٍ سياسيّة…يجب أن نحكم السيطرة على كلّ العناصر الفوضويّة والمزعجة…نحن لا نطمح لتدمير رأس المال أو الرأسماليين، وإنمّا نطمح لتنظيم العلاقات ما بين رأس المال والعمّال. نحن نريد أن نسخّر رأس المال لصالحنا، وسيكون من الحماقة أن نشجّع الإضرابات المتعاطفة [مع هذا الفكر]».
كان ذلك موقفًا غير ملائم، إذ أنّ قوّة الإضراب – في المعامل وعلى السكك الحديدية – بإمكانها أن تعطّل البريطانيين اقتصاديًا في الهند – وتسمح للعمّال بأن يقدّموا بديلًا ملموسًا للاستغلال الذي ترأّسه البريطانيون.
هذه الإمكانيات تفجّرت في عام 1919، حيث تزامنَ غضبٌ شعبي ضدّ قانونٍ قمعيّ بريطاني – قانون رولات [قانون الجرائم الفوضويّة والثورية] – غرضه تمديد القيود التي وُضِعت على الحقوق المدنيّة وقت الحرب، مع موجة إضرابات من عمّال مصانع النسيج.
كانت استجابة غاندي لقانون رولات بأن أطلق حملة ساتياغراها لكي يوجّه غضب الناس لتوجّه لا عنفيّ، فدعا لمظاهراتٍ على مستوىً وطني، ولكنّه دعا لأن تقام المظاهرات يوم الأحد لكيّ لا يشجّع ذلك على تعطيل العمل.
قام غاندي بجهودٍ خاصّة ليشمل التجمّعات المسلمة في الحملة، وفي مقاطعة آمريتسار على سبيل المثال، كانت هنالك مسيرات سلمية كبيرة من قِبل المسلمين والهندوس، مما أشعر المسؤولين البريطانيين بالتهديد من التحطيم للتقسيمات التي عملوا جاهدين للحفاظ عليها، فمشاهدة المسلمين والهندوس وهم يشربون من نفس الكؤوس في العلن أرعبتهم بشدّة.
لجأ البريطانيون للهمجيّة والوحشيّة المطلقة لقمع الحركة. كانت المجزرة المعروفة بمسمّى «مجزرة جاليانـوالا باغ» هجمةً على قرويّين عزّل في منطقة، لا لتفرقة الحشد وإنما لخلق «تأثيرٍ أخلاقي» على حدّ تعبير جنيرال ديير [الذي أمر بتنفيذ المجزرة]. قُتِل 400 شخص على الأقل، وتبعت المجزرة موجة من القمع، من ضمنها اعتقالات عشوائية وتعذيب وجلدٌ علنيّ.
في مدينة لاهور، تصعّدت مظاهراتٌ للهنود والمسلمين لاشتباكاتٍ مع الشرطة مع انتشار الأخبار حول ما حصل في أمريتسار. أضرب عمّال المصانع والسكك الحديدية، وسحب البريطانيون قوّاتهم من المدينة. قامت مسيرة شعبيّة بانتخاب «لجنة شعبيّة» أدارت المدينة لأربعة أيام. حاول أعضاء اللجنة المنتمون للطبقة الوسطى بإنهاء هذه الحالة من غير نجاح، إلى أن هاجم البريطانيون وفرضوا قانون طوارئ.
اندلعت مسيراتٌ حاشدة وإضراباتٌ في عدّة مدنٍ أخرى، وبدأت الطبقة الوسطى بالخوف من السِمة المُحاربِة للعمّال والفلّاحين. عبّر غاندي عن هذا الخوف عن طريق إدانة العنف من الجانبين، مع أنّ العنفين لم يكونا متساويين أبدًا. أدّت إضرابات رولات لمقتل أربعة بيض ومقتل ألف ومئتيّ هندي على الأقل وإصابة ثلاثة آلاف وستمائة هنديّ آخرين.
قال غاندي بأنّه ارتكب «خطأً فادحًا» بدعوته لعصيانٍ مدنيّ شعبي بدون وجود تحكّمٍ تنظيمي وإيديولوجي على الحركة.
ولكنّ الحركة الشعبية التي تلتها، حركة عدم التعاون لعاميّ 1921 و1922، أطلقت أيضًا قوىً أكبر من أن يسيطر عليها غاندي، وألغى غاندي الحملة حين استجابت حشودٌ في تشاوري-تشاورا للعنف الشرطة وإطلاقها النار بأن قتلوا 22 شرطيّ. ولم يعترض حزب المؤتمر لاحقًا حين شُنِق 19 هندي لقيامهم بعمل الانتقام هذا.
إنّ حقيقة تمكّن غاندي من إطلاق حركة في كلّ أرجاء الهند – ومن ثمّ إلغاءها بعد أصبحت ذا طابعٍ محارِب بمستوىً لا يستسيغه – يبرهن مقدار الأهميّة التي وصل لها غاندي بالنسبة للحركة الوطنية. ويفضح ذلك أيضًا عن انعدام وجود قيادةٍ ثوريّة بديلة في وضع كان من المحتمل أن يكون ثوريًا ما بين 1919 و1922.
وكان واضحًا بحلول عشرينات القرن العشرين أنّ غاندي جلب عنصرين للنضال المناهض للإمبريالية كانا مفقودين منذ انتفاضة السيبوي. مهاراته السياسية، وشخصيّته الكاريزمية التي جذبت قاعدة شعبيّة لأولى النضالات التي حدثت في كل أرجاء الهند من 1857، والنضالات هذه نفسها ربطت مظالمَ شعبيّة ضدّ بعض جوانب الحكم البريطاني بالهدف النهائي ألا وهو إنهاء الحكم البريطاني، فلم يتمكّن لا منهج «الشحاذة» ولا منهج الإرهاب في حزب المؤتمر من القيام بهذه الأمور، وجعل نجاح غاندي منه القائد البارز الذي لا غنى عنه في حزب المؤتمر.
في أثناء مسيرة هذه النضالات، أعاد غاندي تشكيل حزب المؤتمر من منظمّة موظفّين حكوميين ومحامين قوميّين تنشط بشكلٍ متقطّع لحزبٍ شعبيّ حقيقي. مع أنّه عُرِف لدى جموع الفلّاحين بالـ«مهاتما» («الروح العظيمة» أو الرجل المقدّس)، كان غاندي منظّمًا سياسيًا داهية ومُقاتلًا عن قرب. في عام 1920، أصرّ غاندي على إعادة تنظيم حزب المؤتمر بتسلسل هرمي مكوّن من لجنات تبدأ من مستوى القريّة حتّى مستوى المنطقة، وإعادة عمل اللّجان الإقليمية على أسس لغويّة، وصنع جمعيّة عمل مكوّنة من 15 عضو كجهاز تنظيمي مستمرّ يشرف على عمل المنظّمة كليًا.
قيادة النضال وتقييده
على الرغم من مهارات غاندي وتأثير شخصيّته القويّ، فقد كان يُشعِل قوىً أكبر من أن يتحكّم بها. بالإمكان رؤية نسقٍ مبسّط لذلك مرّةً أخرى في حركة العصيان المدني في أوائل ثلاثينات القرن العشرين، حيث انطلقت بدأً بالحملة الشهيرة لكسر احتكار الملح من قِبل البريطانيين.
تصعّدت الحملة السلميّة بسرعة، إذ قادت مسيرات شعبيّة تجاه السالح لكسر احتكار الملح من قِبل البريطانيين لاعتقالات جماعية، وأشعلت أخبار اعتقال غاندي إضرابًا من قِبل عمّال الأنسجة في ماهاراشترا، وقام المُضرِبون بالهجوم على مخافر شرطة ومحاكم القانونية ومبانٍ رسمية الأخرى. وفي الإقليم المركزي، تصعّدت حملةٌ سلميّة لخرق القيود المفروضة على استخدام الغابات لهجماتٍ على الشرطة وقامت حشود بقطع الأشجار بشكل غير قانوني، وفي أرجاء البلاد، قام الفلّاحون الذين رفضوا دفع ضرائب على أراضيهم بالمقاومة الجسدية لمحاولات الشرطة مصادرةَ ممتلكاتهم.
مع تركيز غاندي على معاناة المزارعين، فإن موقفه تجاه مطالبِهم الطبقيّة لم يختلف عن موقفه تجاه نضالات العمّال، فحين اندلعت انتفاضة «موبلاه» في مالابار عام 1921، كان ردّ المؤتمر الوطني بأن عاداها صراحةً، فقد ضربت بعض إضرابات المزارعين مزارِع شايٍ مملوكة من قبل بعض أعضاء الحزب، وقام أعضاء الحزب هؤلاء بكلّ ما في استطاعتهم لإيقاف الانتفاضة. ألقى غاندي خطابًا أعلن فيه أنّ الهدف هو «أنّ نجعل الزامينداريّة أصدقائنا». حيث أعرب عن أنّه «[يـ]ـستنكر كلّ المحاولات لخلق خلافٍ ما بين ملّاك الأراضي والمستأجرين و[يـ]نصح كلّ المستأجرين بأن يعانوا عِوضًا عن أن يقاتلوا، فهم يجب عليهم أن يوحّدوا جهودهم [مع ملّاك الأراضي] لمواجهة أكثر الزامينداريّة قوّةً، ألا وهي الحكومة».
"التعلقة" هي تقسيم إداري في الهند، يرأسها "تعلقدار" “التعلقة” هي تقسيم إداري في الهند، يرأسها “تعلقدار”
ولم يتكتف بذلك فحسب، بل طمأن ملّاك الأراضي قائلًا: «لن أشارك أنا في حرمان الطبقات المالِكة للأراضي من ممتلكاتهم الخاصّة بدون قضيّة عادلة. إنّ هدفي هو الوصول لقلوبكم وأغيّر نظرتكم حتى تقوموا [من تلقاء أنفسكم] بتأمين ممتلكاتكم الخاصّة من أجل مستأجريها وتوظّفوها في المقام الأول من أجل رفاهيتهم. ولو كانت هنالك فرَضًا أيّ محاولة لحرمانكم ظُلمًا من أراضيكم، فستجدونني أقاتل إلى جانبكم».
أحسّ المزارعون – الذين كانوا يزدادون راديكاليّة – بأنّ غاندي خانهم، وفي أحد القرى، رفض بعض الناس الذين أهالوا عليه باقات الورد – سابقًا – بأن يقدّموا له الطعام.
كان غاندي دائمًا يحاول التوفيق ما بين الانقسامات الطبقيّة. وإخلاصه للّا عنف كان أحد الطرق لإحكام السيطرة على النضال، فإن رفْضَ تأييد الاستخدام الانتقائي للعنف الجسدي استبعدَ عمليًا الإضرابات كأحد أساليب النضال، حيث أشار أحد ملّاك المصانع في بومباي متحدّثًا عن الإضرابات في 1929 أن «الاعتصامات السلميّة أمرٌ غير حقيقيّ»، وذلك لأنّ غرض الاعتصام عند مدخل المصنع هو منع كاسري الاعتصامات من دخول المصانع.
وعلّى الرغم من جهود غاندي، فلم يكن من الممكن التخفيف من الانقسامات الطبقيّة، وتجاوزت حملات غاندي – باستمرار – الحدود التي حاوَل فرضها، وذلك لأنّه كان – بغرض بناء قاعدة شعبيّة – يقوم متعمّدًا باستثمار مظالم الناس الحقيقية، وكثيرًا ما كان لهذه المظالم جانبٌ طبقيّ.
وحين قوبِل من قام غاندي بتحشيدهم بالقمع، شعروا أنه من المبرّر لهم استخدام أيّ طريقة ضروريّة للحصول على ما شعروا أنّهم يستحقّونه. وقادت حملات العصيان المدني – علاوة على ذلك – مشاركيها للوصول للاستنتاج الطبيعي حول [وجوب] مقاومة كلّ القوانين الظالمة، مثل القوانين التي تدافع عن حقّ أصحاب الأراضي بفرض إيجارات ساحقة.
غاندي الذي وعد في 1930 أن «[يـ]ـحارب حتى النهاية» للحكم الهندي الذاتي، أنهى حركة العصيان المدني الهائلة لعامي 1930 و1931 بعد أن حصل على تنازلاتٍ رمزيّة، لا أكثر – مخيبًا حتى آمال المتعاونين القريبين منه كـ جواهرلال نهرو، الذي صرّح يومًا بكلمات تي. إس. إيليوت: «هكذا ينتهي العالم/ليس بـدويّ وإنما بأنين».
وبعدها، في مايو عام 1933، حين أوقف غاندي حركة العصيان المدني الثانيّة التي بدأها في العام الذي سبقه، اتحدّ رفاقه من الحزب غضبًا، حيث قال نهرو: «بعد كلّ هذه التضحيات والمساعي الشجاعة، هل كان على حركتنا أن تتضاءل تدريجيًا لتصبح شيئًا تافه؟ أحسست بالغضب منه [أي، غاندي] بسبب منهجه الديني الوجداني تجاه مسألةٍ سياسيّة وإشاراته المتكررة لله بالنسبة لهذه المسألة».
نَقَد سوبهاس تشاندرا بوز، أحد المحاربين من حزب المؤتمر، تراجع غاندي نقدًا لاذعًا: «وضعُـنا اليوم مماثلٍ لوضعِ جيشٍ استسلم فجأةً للعدو في وسط حملةٍ طويلة، والاستسلام هذا لم يكن بسبب مطالبة الأمّة بِه، ولم يكن بسبب ثورةٍ قام بها الجيش الوطني ضدّ قادته حيث رفض القتال…إنما كان هذا الاستسلام إمّا لأن القائد الأعلى للقوّات كان منهكًا بسبب صيامٍ متكرّر أو لأن عقله وأحكامه شوّشت عليهما قضايا شخصيّة يستحيل على أيّ شخصٍ غيره فهمها».
النضال الطبقي مقابل الصراع الطائفي
رفض غاندي تبنّي المطالب الطبقية لاعتباراتٍ أخلاقيّة، وداعِمو حزبِه البورجوازيين لم يكونوا راغبين حتمًا بدعم نضالٍ طبقي. ونتيجة ذلك كانت أن حزب المؤتمر الوطني – وهو القوّة الرئيسيّة للتحرّر الوطني الهندي – فوّت فرصة إقامة روابط مصالح طبقيّة ما بين المزارعين والعمّال الهندوس والمسلمين. فرابطةٌ كهذه كانت ستتصدّى لثاني أقوى نزعة سياسيّة في الهند بعد القوميّة، إلا وهي السياسات الطائفية.
الطائفيّة – وهي السياسات التي طرحت الدّين كالمقسّم الرئيسي للهند – قادت الهندوس والمسلمين للهجوم على بعضهم البعض في أعمال شغب دمويّة. كانت الطائفيّة تنتشر في الفترات التي انحسرت فيها الموجة القوميّة، كما حصل في عشرينات القرن العشرين، حين لم يتم توجيه مظالم الناس لحملات شعبيّة. إذًا، فالصراع الطائفي ليس مبنيًا على آمالٍ متزايدة، وإنما ينمو بسبب آمالٍ خائبة – ويوجِّه المرارات التي يعاني منها الناس تجاه أكباشِ فداء. معّ أنّ أعداءهم المعلن عنهم هم أولئك المنتمون لدينٍ آخر، ولكن المنظّمات التعصّب الديني (communal organizations) تعمل واقعًا على إخضاع الهنود من الطبقات والطوائف السفلى (lower caste) لأعضاء النُخبة من دينهم نفسه. كما تجادل أحد الدراسات:
تـنـبع الهندوتفا المنظّمة [وهي أيديولوجية يمينيّة تسعى لهيمنة النهج الهندوسي] مباشرةً منذ بدايتها كردّة فعلٍ من الطوائف العليا لجهود المجموعات الهندوسيّة المسحوقة على تأكيد ذاتها…
منذ ولادة جماعة «راشتريا سوايامسيفاك سانغ» [«منظّمة التطوّع الوطني» وهي منظّمة فاشستيّة هندوسيّة نشأت عام 1925]، حتّى يومنا هذا تكوّنت أغلبيتها الساحقة من طوائف «البراهِمة» و«البانيا» من الطبقة الوسطى، جمعهم الخوف المهووس الموجّه تجاه الفئات الاجتماعيّة الأخرى: المسلمون هم أكثرها وضوحًا، ولكنّه موجّه أيضًا تجاه الهندوس من الطوائف السفلى.
لم تُكوِّن «العُصبة الإسلاميّة» – التي أنشأها مسلمون من الطبقة الوسطى عام 1906 – تنظيمًا على شاكلة تنظيمات مجرمي الشوارع كما فعلت منظّمة التطوّع الوطني الهندوسيّة. ومع كون سياسات العصبة الإسلاميّة رجعية، فقد عبّرت عن اهتمامٍ بالحالة الضعيفة للفلّاحين والعمّال المسلمين، وفي نفس الوقت كانت تكبحهم عن النضالات الطبقيّة والوطنيّة – وهي نضالاتٌ تتضمّن لا محالة إنشاء تحالفاتٍ مع الهندوس.
كان الحزب الشيوعيّ الهندي – الذي أُسِس عام 1925 – علاجًا فعّالًا للانقسامات الطائفيّة في الأماكن التي انتشر فيها، فعن طريق بناء وحدةٍ مبنيّة على الطبقة، كان للحزب الشيوعي الهندي النجاح الأكبر في تنظيم نقابات مثل نقابة «غيرني كامغار»، وهي أقوى نقابة في بومباي. وفي عام 1929، كان لدى الحزب الشيوعي الهندي 42 لجنة عمّالية في معامل النسيج وقام بقيادة إضرابٍ ناجح على نطاق القطاع بأكمله هدفه رفع الأجور. وكان الشيوعيّون يكسبون نفوذًا في أوساط عمّال السكك الحديدة وعمّال الزّيت أيضًا.
ولسوء الحظ، تراجعت الحركة العمّالية والحزب الشيوعي بحلول عام 1930 وذلك بسبب القمع الوحشي من قِبل البريطانيين والتقلّبات في استراتيجيّة الحزب الشيوعي مما عمِل على إضعاف البديل العمّالي المنظّم الوحيد للطائفيّة والوطنيّة البورجوازيّة. في عام 1928، تبنّى الحزب الشيوعي سياسة ستالين المتمثّلة في مهاجمة قيادات حزب المؤتمر ذوي الميول اليساريّة نسبيًا. ونتيجة ذلك كانت أن أبعد الحزب الشيوعي نفسه – ومعه، بشكلٍ مأساوي، أغلبيّة العمّال – من الموجة التالية من النضال الوطني، ألا وهي حملة العصيان المدني لعامي 1930 و1931. وأدّى دعم الحزب الشيوعي فيما بعد لروسيا الستالينيّة في الحرب العالميّة الثانية – ويتبعه بطبيعة الحال دعم المجهود الحربي البريطاني – أبعدهم أيضًا من الحركة الاستقلالية الهنديّة لعام 1942.
على الرغم من التقلّبات الغريبة في سياسات الحزب الشيوعي الهندي، فإن موقفه المؤيّد للوحدة الطبقيّة ظلّ هو الثقل المقابل الوحيد للانقسامات الطائفيّة في الريف – حيث أن «فشل قيادات حزب المؤتمر في اعتناق الراديكاليّة الزراعية حتى في أوضاع الكساد [العظيم] دفعت حركات الفلّاحين المسلمين لاعتناق موجاتٍ انفصاليّة بشكلٍ متزايد».
الاستقلال والتقسيم وحمّام الدمّ الطائفي
كان هنالك مزيجٌ من العوامل التي دفعت البريطانيين للقبول – أخيرًا – بأنّهم لا يمكن لهم أن يحكموا الهند بعد الآن، وبعض هذه العوامل نشطت خارج الهند. كان من ضمنها الضغط العام لإنهاء الاستعمار – الذي أتى عن طريق كلٍ من حركات التحرر الوطني والولايات المتحدّة التي طالبت بريطانيا بأن تفتح أسواقها للتغلغل الأمريكي بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية، وكان ذلك مقابِل الدعم العسكري عن طريق إعارة وتأجير الأسلحة الذي وفّرته الولايات المتحدة لبريطانيا.
كان من الواضح أنّ الإمبراطورية تتهاوى، فقد برهن اجتياحُ القوى اليابانية المستعمراتِ البريطانية في آسيا بدون أي مصاعب تُذكر للهنود أنّ العملاق البريطاني بالإمكان هزيمته. وداخل الهند، أطلق غاندي الحركة الاستقلالية الهندية عام 1942، إذ أصبحت هذه أكبر انتفاضة منذ عام 1957.
ولكن بعد الحرب، حين كانت بريطانيا تفاوض شروط ترك الحكم مع حزب المؤتمر والعصبة الإسلاميّة، استمرّت الانتفاضة بدون رعاية حزب المؤتمر، وفي عام 1946، قام قرابة مليونيّ عامِل – أي أكثر من نصف الطبقة العاملة الهنديّة – بإضراب، مما دفع حتّى جواهرلال نهرو – يسار حزب المؤتمر – لإدانتهم، إذ كان سيصبح رئيس الوزراء الهندي الأول ولم يرغب بأن يرث قوّةً عامِلة غير منضبطة.
دعا الحزب الشيوعي لإضرابٍ عام في كالكوتا وبومباي، وشهد ذاك الإضراب طلّابًا وعمّال من هندوس ومسلمين يحاربون الشرطة في الشوارع متّحدين
وما كان أعظم من ذلك هو تمرّد البحريّة الملكيّة الهنديّة لعام 1946 الذي بُني أيضًا على وحدة ما بين الهندوس والمسلمين. أشعل هذا التمرّد إضراباتٍ متعاطفة في بومباي من قِبل 300 ألف شخص – وأدانها كلٌ من غاندي وحزب المؤتمر.
وفي نفس الوقت، مع ترك حزب المؤتمر مجال الحراك الشعبيّ، أفسحت طفرات النضال المتّحدة المجال لعنفٍ طائفيّ بشع – مستوحىً من كلٍ من اليمين الهندوسي وحملة العصبة الإسلاميّة الراغبة بـ باكستان منفصلة. عمومًا، كانت السياسات الشعبية ما بعد الحرب العالمية الثانية خليطًا ما بين إراقة الدماء لأسباب طائفية ونقيض ذلك، أي: ثورة طبقيّة متّحدة.
في النهاية، وافق المؤتمر الوطني على انفصال باكستان لأنه لم يكن مستعدًا لدعم أي بديلٍ حقيقي – ألا وهو نضالٌ طبقي مبنيّ على أسُسٍ ذا طابع يساري متصاعد. وبهذه الطريقة، تكفّل عمليًا هذا الرفض لبلورة النضال حول الخطوط الطبقيّة بسفك دماءٍ لأسباب طائفيّة. تتوّق البريطانيّون بدورهم لحصول حزب المؤتمر على السلطة لإدراكهم بأن إنهاء موجة الإضرابات التمرّدات سيكون أسهل على حكومةٍ هنديّة.
وصفَ «سومت ساركر» تداعيات الصفقة النهائيّة بين البريطانيين وحزب المؤتمر والعصبة الإسلامية قائلًا: «بالنسبة لعددٍ كبير من المسلمين في الهند والهندوس في باكستان، كان معنى “الحرية-مع-التقسيم” أن يختاروا خيارًا قاسيًا ما بين خطر العنف المفاجئ وحصر التوظيف والفرص الوظيفيّة، أو نزعٍ إجباريّ لجذورٍ عتيقة ينضمّوا بِه لجموع اللاجئين».
احتفل الملايين في عام 1947 باستقلالٍ كسبوه عن طريق عقودٍ من النضال، ولكنّ ذلك العام شهد «هولوكوست» من عنفٍ وتطهير عرقيّ رافقا تقسيم [الهند وباكستان]. أُجبِر سبعة عشر مليون شخص على الهجرة وقُتِل مليون شخص. تناثرت مئات آلاف الجثث على شوارع مدنٍ مثل «كـالكوتا» و«دلهي». ورويَ عن عربات قطارات مليئة بالأموات ولا شيء سوى الأموات.
ارتحل غاندي – وكان في ذلك الوقت في أواخر سبعيناته – شخصيًا للمناطق التي اشتعل فيها العنف الطائفي وبذل قصارى جهده ليقنع الناس بالتوقّف، إذ مشى حافيًا في أرجاء الأحياء الفقيرة التي مزّقتها أعمال الشغب مُهدّدًا بأن «[يـ]ـصوم حتّى الموت». تمكّنت سلطته الأخلاقية من إيقاف العنف بعض الأحيان، ولكن حين رحل غاندي عن تلك الأحياء، كلّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي دفعت الناس لأن ينظروا للمجموعات الدينيّة الأخرى كأعدائهم الرئيسيين ظلّت موجودة.
اشمأزّ غاندي من الانتهازيّة التي رآها في حزب المؤتمر، وحتّى موته ظلّ غاندي متمسّكًا بمبدأ مناهضة الطائفيّة. حين نشبت أعمال الشغب في بنجاب، قال غاندي لأحد قيادات العصبة الإسلاميّة: «أريد أن أحارب [أعمال الشغب] ولو كلّفني ذلك حياتي. لن أسمح بأن يزحف المسلمون هوانًا في شوارع الهند، يجب أن يمشوا على أرضها منتصبي القامة».
مات غاندي بسبب إعلائه للمساواة مع المسلمين، حيث اغتيل عام 1948 من قِبل هندوسي فاشستي. تمّ تدريب ناثورام غودسي – قاتِل غاندي – كمُنظِّم في منظّمة التطوع الوطني في الثلاثينيات. ومن المشين أن نشير أنّه قبل يومين أثناء كتابتنا لهذه المقالة، قام الرئيس [الأمريكي السابق] كلينتون (الذي قتلَ عن طريق إصراره على فرض عقوبات على العراق أكثر من نصف مليون طفل) بتخصيص تمثالٍ لغاندي في واشنطن العاصمة – حيث أيّده في ذلك رئيس وزراء الهند، أتال بيهاري فاجبايي، المنتمي لمنظّمة التطوّع الوطني.
القوّة الأخلاقية والقوى الطبقيّة
مبدأ اللا عنف التابع لغاندي كان قوّة أخلاقيّة دفعت حركاتٍ شعبيّة إلى الأمام في مراحلها الأولى، ولكنّها كبحت النضالات هذه أيضًا في اللحظات المهمّة. ونتيجة لذلك، تمكّنت الفئات الغنيّة في مراكز المدن وفي الريف من فصلِ النضال من أجل الاستقلال السياسي عن النضال لأجل التغيير الاجتماعي الراديكالي – وبذا أُحطبت أهداف العدالة الاجتماعية التي سعى لها غاندي نفسه. رحل البريطانيّون، ولكنّ البيروقراطية والشرطة التي أنشأوها ظلّت تلعب نفس دورها السابق بدون تغيّرٍ ملحوظ – وظلّت تقمع انتفاضات العمّال والفلّاحين. لقد كانت إرادة غاندي قويّة، ولكنّ القوى الطبقية أثبتت أنّها أقوى.
لم يؤيّد غاندي أبدًا القوّة الطبقيّة – ألا وهم العمّال – التي كان من الممكن أن تساعده في نضاله الأخير لتوحيد الهندوس والمسلمين، فالنضال الطبقي كان من الممكن أن يحقّق ما حاول غاندي تحقيقه بسعيه الأخلاقي البحت.
لم يكن على الحركة أن تفسَد كما حصل. فقد وُجدِت أوضاع احتمل أن تكون ثوريّة في فترات 1919-1922 و1946-1947، ولكن لم يتشكّل حزب شعبي بأهدافٍ ثوريّة ليقود الحركات نحو النصر.
وفي حركة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت نفس القوى التي أسقطت القيصر الروسي عام 1917 في مركز الانتفاضة – ألا وهم طبقة العاملة الصناعية، ومعهم الفلّاحون والعمّال العسكريّون. وفي وضع الهند، قام الحزب الشعبي الوحيد في البلد بإنقاذ بريطانيا من أن يتم إسقاطها بأن استحوذوا على السلطة «سلميًا» واحتكروها في أوساطهم – وكان ذلك على حساب ترك الانتفاضة الطبقيّة تحترق بنيران الطائفيّة.
كان بالإمكان تشكيل تحالفات مختلفة للقوى الطبقيّة، وذلك بحكم أن أغلب الطبقات عارضت الحكم البريطاني. وكان من الممكن لحركة الاستقلال أن تنتج نتيجة مختلفة لو تمكّن عمّال المصانع والطبقة الكادحة الزراعية من تكوين حزبٍ اشتراكيّ ثوري – وجذبوا الطبقة الوسطى والمزارعين من أصحاب الأراضي الصغير خلف قيادتهم للنضال الطبقي. عِوضًا عن ذلك، قام حزب غاندي بقلب هذه العلاقات، إذ كانت البورجوازية في القيادة مع الطبقات الوسطى من القرى والمدن.
كانت حياة غاندي أطول تجربة في العمل السياسي اللا عنفي في التاريخ، ونتيجة التجربة واضحة جدًا: لا يمكن هدم بناءٍ طبقيّ استغلالي بدون استخدام العنف أثناء هذه العمليّة. لم يحصل أبدًا أن خضعت المُلكيّة الخاصة – محّصنةً بعنف الدولة – لضغطٍ سلميّ من قِبل الطبقة المُستغلـَّة. بعبارة أخرى، لم تنزل الطبقة المستغلـِّة من على مسرح التاريخ دون أن تُركل.
ولكنّ القوّة الأخلاقيّة – واقعًا – ضروريّة لترابط حتى الحركات الاشتراكيّة. في بعض الجوانب، يجب على أساليبنا حقًا أن تبشّر بمجتمعٍ أكثر إنسانيّة من المجتمع الحالي. هذه الأمثلة الثلاثة، ألا وهي القصف البِساطي (carpet bombing) الموجّه على الأهداف المدنيّة، رشّ ألاف الأسلحة المضادّة للأفراد على مزارع الأرز، أو التسبب بمجاعة عن طريق حصارٍ على سكّان بلدٍ بأكمله كانت تكتيكاتٍ امتازت بها الحروب البورجوازية. حقًا، هذه التكتيكات هي أحد الأسباب التي تدفعنا لإسقاط النظام البورجوازي. وبالمقابل عكسيًا، يصعب أن نتصور استخدامها كخيارات تكتيكية في حركة تهدف لتحرير عامّة الناس.
ولكنّ القوة الأخلاقية لن تتمكّن من تربح في نضالٍ ضدّ طبقةٍ مصالِحُها معادية بطبيعتها لمصالحنا. يجب أن يكون العُنف جزءًا من ترسانة الحراك. وفي مجتمعٍ مبني على عداءٍ طبقيٍّ عنيف، لا يمكن لهدفنا السياسي أن يكون كهدف غاندي: ألا وهو استرضاء المجتمع بأكمله. يجب علينا عوضًا عن ذلك أن نتعلّم كيف نرسم خطوط المعركة الصحيحة.
المصدر: إنترناشنال سوشالست رڤيو
#مانجيه_موراديان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|