الأستبداد : هو السيطرة على مقدرات الآخرين المادية , وتدمير لقيمهم المعنوية والأنسانية , والغاء لشخصياتهم المستقلة والمتميزة , وتقزيمهم ومسخهم , ليتم تحويلهم الى عبيد لدى المستبد , من دون وجه حق . وذلك بفعل القوة المادية القاهرة , والمعنوية المضَّلِلة . التي تلغي القوانين وتجعل من ارادة المتسلطين قانوناً يُعمل به .
يسود الأستبداد في حال توفر احد العاملين التاليين او كلاهما معاً :
1 – العامل الداخلي . الذي يمتاز بتخلف البنى السياسية و الأجتماعية والثقافية والحقوقية , الذي يتجلى بسيادة علاقات ( ما قبل الدولة الوطنية ) بين الناس – عشائرية وطائفية و... - , وقابلية الناس للخضوع لارادة ولي الأمر , بسبب استمرار سيادة ثقافة طاعة أولي الأمر , وغياب مفهوم الحق المرتبط بالواجب , والحرية المرتبطة بالأختيار ,وسيادة مفاهيم خطأ , تقتضي اللجوء الى القوى الخارج الطبيعة لدعوتها الى رفع المظالم عن الناس عندما تشتد مظالم أ ولي الأمر , بدلاً من الفهم الصحيح لما قيل " أعقل وتوكل " أو الفهم الصحيح لمدلول الآية الكريمة ( لا يغير الله ما بقومٍ حتى يغيروا ما بانفسهم ) , أي , الأعتماد على الله تعالى , من خلال القيام بالعمل , والعمل هنا هو , فعل مقاومة الأستبداد .
تشكل تلك البنى بمجموعها , اساس استعداد الناس لتقبل واقع الأستبداد , واتخاذ موقف سلبي من مقاومته . وبمقابل ذلك , هناك المستبد , الذي هو غالباً فرداً او مجموعة , تعاني من أزمات نفسية واجتماعية , تولد عندها شعور بالتفاهة والنبذ الأجتماعي . هذا الشعور الذي يلهث صاحبه لالغاءه عن طريق التحكم بحياة الآخرين , وتقرير مصائرهم , واخضاعهم لارادته , ذلك الأخضاع الضروري للمستبد لاعادة التوازن الى نفسيته المحطمة , المليئة بمشاعر التفاهة , والنبذ الأجتماعي .
يشبه احد رجال القانون , المدافعين عن حقوق الأنسان , نشأة الديكتاتور المستبد , بنشأة ذلك الجدي الصغير الذي تُذ بح امه في مرحلة الرضاعة , فبسبب خوفه الشديد من ان يجوع , يلجأ الى الرضاعة بشراهة من كل عنزات القطيع , فيأخذ أكثر من حاجته الى الطعام , ويكبر أكثر من اقرانه بكثير , ويستمر على هذا المنوال , الى ان يمتلك جسماً كبيراً أكبر من أي فرد في القطيع و يصبح تيساً زعيماً على الجميع , ويبقى في حالة الخوف من الجوع . يملك كل شيء , ويحرم الآخرين من كل شيء , ولا يشبع .
2 – العامل الخارجي . عندما يفرض مستبد خارجي نفسه على أمة , كنتيجة لأنتصار عسكري , ويعين حكامها , ويربط نموها ونظامها به , قاطعاً بذلك سلم التطور الطبيعي عليها , فارضاً عليها حركة معينة باتجاه محدد , غالباً هي انعكاس لحركته . كما حصل لأوروبا الشرقية بعد احتلالها من قبل الأتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية , وكما حصل قبل ذلك للجمهوريات التي عُرفت فيما بعد بجمهوريات الأتحاد السوفييتي بعد احتلالها من قبل روسيا .
للحفاظ على الأستبداد واستمراريته , لابد من الحفاظ على الظروف التي انجبته وتعميقها .-- وهنا تتضح الاساءة الكبرى التي ارتكبتها الأنظمة العربية بحق بلدانها وشعوبها , حيث عملت بكل طاقاتها , للحفاظ على كل البنى المتخلفة التي تدعم سيطرتها , لا بل عملت بجد للحيلولة دون نمو اي برعم جديد سيساعد على العبور من تلك المستنقعات التي نحيا بها . -- وقد تم ذلك عن طريق:
- 1 - العمل على تفتيت ما تبقى من علاقات اجتماعية ايجابية قائمة بين الناس , كالعلاقات الأسريّة , وعلاقات التآلف والتعاضد والتعاون التي تميز بها الريف العربي . وتضييق , قاد الى انهيار أغلب مؤسسات المجتمع المدني , كالنقابات المستقلة , والجمعيات الأهلية او الحرفية , والنوادي الثقافية والأجتماعية والرياضية المستقلة عن منظمات السلطات . واحلال بدل تلك العلاقات , العلاقات المصلحية الأنتهازية المؤدية الى تعميق النوازع الفردية على حساب الجماعة . ولا يوجد أبلغ من ذلك التعبير المتداول الذي يقول ( عسكري دبر راسك ) هذه المؤسسة العسكرية تحديدا , التي من الصعب لها ان تستقيم امورها وتعمل بنجاح , ان لم يسود شعور عند افرادها ", رفيقي اولاً ", كما لا دلالة على حرص الأنظمة على تعميق المشاعر الفردية عند الناس أوضح من دلالة حقد الأجهزة حامية العروش , على كل من يساهم في عمل جماعي مناهض للأستبداد , حيث امتلأت زنازين وقبور العالم العربي بأصحاب المواقف الشجاعة والرؤية الواضحة والرافضة للظلم .
-
-
- 2- ألغاء الثقافة من المجتمع عن طريق المنع , والمراقبة , وتصعيب ظروف الأنتاج الثقافي المحلي , والقضاء على امكانية النقل والترجمة , ووضع كل منتج لثقافة مخالفة لهيمنة الأستبداد في خانة " اعداء الوطن والثورة " مع ما تحمل تلك التهمة من معنى هدر لدم المنتج .
-
- 3 - ألغاء القوانين , بقانون واحد وهو قانون الطوارئ , وافساد الجهاز القضائي العادي , وبناء القضاء السلطوي الأستثنائي , وتسييس نقابة المحامين لصالح النظام الحاكم , ونشر ثقافة " خذ حقك بقوة ذراعك " حيث تستمد الذراع قوتها من حجم الفيه الذي تطعمه .
4 – بناء مؤسسات السلطة السياسية المفرغة من مضمونها , والتي تعمل بكل شيء الا بالسياسة .
ان استمرار سيادة الأستبداد لوقت طويل نسبياً , في اي مجتمع من المجتمعات , يؤدي بفيروسته الى التمكن من القضاء على كل الجهاز المناعي للمجتمع , ويهيئه لموت محتم لأتفه الأسباب . هذا الجهاز المناعي , الذي يتألف من وحدة وطنية , او بالأحرى انصهار الجميع في بوتقة الوطن الواحد , محصنين بعلاقات اجتماعية سليمة تجمع المواطنين فيما بينهم , والمواطنين مع حكامهم الذين لا يجب ان يكونوا الا مكلفين من قبل المجتمع لادارة الأمور العامة . ومن بنيان ثقافي شامخ , يحدد هوية الأمة , وقانون عادل وعصري يسود على الجميع وعلى الحاكم قبل المحكوم .
ومؤسسات دولة وسلطة تعمل بالسياسة بمفهوم عصري وليس بالسمسرة السياسية والأقتصادية .
ان النتائج المدمرة لمناعة المجتمعات العربية التي انتجتها فيروسات الأستبداد , لم يعد ممكناً الوقوف بوجهها على الطريقة التي يمارسها النظام المستبد في العراقي , بالتبجح الأعلامي الفارغ من جهة , وارسال الرسائل السرية الى قطاع الطرق الدوليين , التي تدعوهم للمجيء واستلام النفط مقابل الحفاظ على كرسي الحكم , من جهة أخرى . كما لا تتم على طريقة الصحوة الخطابية للنظام السوري في مؤتمر دول عدم الأنحياز , والتي تقر بان ممارسة القوة والعنف والغاء الآخر لاتجلب السلام حتى لصانعهم , وان ممارسة القوة والعنف لا يمكن ان ُتنشئ الا العنف والتطرف حتى من الطرف المغلوب , كما كلمة سورية بمؤتمر القمة العربية التي ترفض المسعى الأمريكي لتغيير الأنظمة في المنطقة , وتربط التغيير بارادة الجماهير العربية , وهذا رفض محق وسليم . بينما واقع تلك الشعوب المعترف بحقها في تغيير انظمتها , واقع عجز الأستعمار القديم والحديث عن ايصالها الى ما وصلت اليه . بل تكون باطلاق الطاقات الهائلة المقموعة والكامنة للشعب العربي , عن طريق رفع سيف الأستبداد و مشاركة الشعب بتقرير مستقبله وتحديد مساره المستقبلي , وبغير ذلك السبيل فالطوفان قادم , ولم يعد للأموال العربية المهّربة الى الخارج اي دور في حماية اصحابها لأنها تحت يد اللصوص الدوليون المعاصرون .
فريد حداد 332003