زردشت صابر
الحوار المتمدن-العدد: 1476 - 2006 / 3 / 1 - 10:51
المحور:
القضية الكردية
الدوغمائية هي اشد الامراض فتكا في عقلية وذهنية الكرد اشخاصا وحركات ومجتمعا , حتى باتت الدوغمائية احد اهم عوامل وضع الكرد الراهن لانها شلت وتشل قدرته الابداعية , فيمنع الانتاج والتطور .
لتطور الدوغمائية عند الكرد اسبابها التاريخية والجغرافية والمجتمعية التي تسبب نفس الداء في كل الشرق الاوسط , حيث ان ولادة وتطور الاديان التوحيدية في هذه البقعة ,كان عاملا رسخ سيطرة هذه العقلية , لانه كان المتلقي الاساس لهذه الذهنية , ولان المجتمعات الشرق اوسطية حققت نجاحات هائلة عبر هذه الاديان التي كانت تمثل تطورا نوعا في تاريخ الانسانية , لا بل شكلت الذهنية الاكثر تطورا في تلك الفترة فقد زادت من تمسك الناس بها , لا بل العودة اليها بشكل قوي مع كل اخفاق في اي اتجاه اخر , وهو ما يفسر تطور هذه التيارات وانتشار القدرية حتى مع كل انتكاسة للافكار والعقليات الجديدة , تحولت هذه الذهنية وترسخت كثقافة شرق اوسطية اصيلة عميقة الجذور لفت تحت عباءتها كل مكونات الحياة , ونظرا للمعاناة الطويلة والمستمرة التي حققت ولادات كثيرة وهامة تمثلت في الديانات السماوية بالاضافة الى اديان اخرى , يمكن القول ان هذه المجتمعات قد استنفذت الكثير من قواها التوليدية ,او انها قد تعودت علة تقديم ولادات مشابهة فقط , لانها لم تتمكن من الاندماج مع معطيات التطور البشري العلمية والتقنية .باتت تكررنفسها ولا تتقبل المستحدث والجديد وتعتبره كفرا او الحادا او بدعة او بعدا عن القيم الاخلاقية , ويجب هنا الاشارة الى انه كثيرا ما استخدمت الاكتشافات والتطورات العلمية لدعم استمرارية الذهنية الدوغمائية السائدة التي تنطلق اساسا من المستوى العلمي والثقافي والتقني مما زاد الطين بلة , على خلاف ما فعلته اوربا بالتخلص من هذه الذهنية وتبني العلمية عبر مراحل طويلة قدمت خلالها ضحايا كثيرة في كل الميادين , والتي توجت بثورة تنوير اصيلة شكلت اسس الحضارة الاوربية الحديثة والمعاصرة .
الزردشتية قدمت محاولة تنويرية كان من الممكن لها ان نجحت واستمرت مع المانوية التي مثلت تيارا اصلاحيا انسانيا هاما , ان تحقق تحولا جذريا في كل البنية الفكرية والعقلية , الا انها انتكست مع اعدام ماني وفشل المانوية في الانتشار والتحول الى ثقافة عامة, بضغط من الرهبان الزردشتيين انفسهم ولاسباب اخرى كثيرة لسنا بصددها ,وبذلك فشلت المحاولة التنويرية التي كانت ربما - واقول ربما - منحت قصب السبق في الاصلاح للشرق بدلا من الغرب الذي حقق تحولات واصلاحات هامة شكلت اساس عصر التنوير .
مشكلة الكرد هنا مضاعفة او تزيد عن الشعوب الاخرى على الاقل , فرغم التزامهم بهذه الذهنيات اكثر من اصحاب الاديان انفسها ربما لاسباب تتعلق بشخصية الانسان الكردي , او لسبب على علم الاجتماع المعاصر ان يحدد اسبابه العلمية بدقة في المجتمع الكردي , فقد عانى الكرد من هذه الذهنية بنسختها المشوهة اكثر من الاصيلة , تفانت في الالتزام بها على اساس انكار الذات , فولدت حالة عجيبة مشوهة من الذهنية تتسم في كل مراحلها بنوع من الانكار , امتزجت الدوغمائية بالانكار , فاذا كان العرب قد استفادوا من بعض الدوغمائيات لترسيخ هويتهم الوطنية , واذا كان البعض استفاد من تقليد الغرب والفكرالقومي في ترسيخ عقلية قومية ,الا ان الكرد تناولوا ذلك بذهنية ممسوخة اقترنت مع تنكره لهويته عبر اغلب العصور , ربما مثل نموذجا انسانيا للتعامل مع القيم في بعض الجوانب لكنه لم يحقق للمجتمع الكردي في عالم يتسم بمقومات معينة تسيطر في كل مرحلة اي شيء , فكان مقلدا سيئا جدا .
الكرد كغيره من شعوب الشرق الاوسط مع بعض الاضافات الناجمة عن وقوعه تحت سيطرة وتسلط الشعوب والانظمة طيلة تاريخ ممتد لالاف السنوات , لم يحقق اية حملة تنويرية ناجحة تمكنه من الاستناد الى العلم وتبني ذهنية علمية تخلصه من الدوغمائيات وتمكنه من رؤية كل الوان الطيف , والتخلص من تعقيدات الثنائيات الفظة بين الخير والشر , الحلال والحرام , حتى عندما حاول تبني الماركسية وقع في نفس الخطيئة لانه استند في فهمها لكل الامور بالذهنية القديمة , ناهيك عن ان تعرضه كشعب ومجتمع لحملات الابادة والانكار والمجازر والتسلط والضغط والارهاب التي كانت تريد ان تمنع عنه اسباب الحياة , منعت عنه حتى الامكانيات المتوفرة القليلة التي اتيحت للشعوب الاخرى في المنطقة , فلم يتعرف الى العلم ةالمعرفة العلمية ولم يتمكن من تطوير نفسه علميا وثقافيا , ولم يتمكن من الاحتكاك والتواصل مع مستجدات الحضارة الانسانية , ولهذا عاش ركودا وخمولا في الذهن طوال عصور طويلة رسخت فيه استمرار الدوغمائية الممسوخة الانكارية .
لهذا فان الكرد هم احوج الشعوب الى حركة تنويرية واكثر المتعطشين لها لانهم اكثر المستفيدين , لكن الرغبة شيء والامكانية شيء اخر وسيان بين هذا وذاك , فهم فقدوا وافتقدوا الى الكثير من وسائل واسباب ومقومات تحقيق حملة كهذه .
الحركات القومية - البدائية او كما يحلو للبعض ان يسميها بالقومجية - الكردية , لم تحقق في اطروحاتها كعقلية اي تطور جاد , بل استمرت في التقليد وفي المعاناة من الدوغمائية كحركات سياسية , لانها لم تحمل اي جديد يكشف عن افق مختلف ويحقق نوعا من التنوير كحركة تطال المجتمع برمته , ولهذا لم تتمكن من احداث التغيير فاستمرت العقلية في السيطرة , لكن يجب ان نحسب للحركة الابوجية بعض النجاح في هذا الاطار , من حيث تحطيمها للاطر السابقة , والتجديد ومحاولة الدمج بين التاريخ والعصر وحتى تبني العلمية نهجا للتفكير وعدم اقتصار التاثيرات على بنية الحركة السياسية المنظمة فقط بل احداث تحولات اجتماعية في بنية المجتمع ربما ابرزها على صعيد المراة وتحطيم القوالب الجاهزة الجامدة , ورفض التحول الى مجرد نسخة ناكرة لذاتها , اقول هذا كله واؤكد ان النجاح في ذلك كان نسبيا بالمقارنة مع كل الحركات الاخرى في تاريخ الكرد , بما فيها مرحلة احمدي خاني , والحركة الابوجية نفسها اكدت في مراحل سابقة انها لم تحقق حملتها هذه التنويرية لانها نفسها لم تكن قد تخلصت من تاثيرات الدوغمائية الشرق الاوسطية والكردية , ليس هذا فحسب بل عانت من تاثيرات الدوغمائية في الحركة الاشتراكية والثورية العالمية التي كانت متاثرة الى حد كبير بالمادية الفظة فلسفيا , وانعكست كدوغمائية في المجال الايديولوجي , سواء في طرحها للقضية القومية او العنف او الثورة بشكل عام , وبهذا يمكن القول ان الكرد وحركتهم السياسية بما فيها القوى العشائرية في كردستان الجنوبية او شمال العراق , لا تزال الدوغمائية بطرازها الكردي الخاص , اي بالزي الكردي , مسيطرة وتتحكم فيهم .
في ظل المعطيات الحديثة من عصر العولمة وتطور التقانة , وزيادة فرص التعلم وامكانيات التواصل والاندماج مع العالم , ومع تطور الوضع السياسي للشعب الكردي عبر ما تحقق من حراك سياسي , وما افرزته الاوضاع الدولية الراهنة , بات الان بمقدور الكرد اكثر من اي وقت مضى تحقيق اصلاح في مسيرتهم الذهنية الخاطئة , ليس على مستوى الحركات السياسية بل على مستوى الشعب والمجتمع ككل , بالبدء بحركة تنويرية شاملة اصيلة , بعيدا عن التقليد ومجرد الترجمة , بل بطرح الصيغة المعاصرة للحياة والفكر التي تشكل الطرح المضاد , للحضارة الاوربية الراهنة المتميزة في الكثير من جوانبها , والمفتقرة الى جوانب هامة متمثلة في ضعف الاصالة والالتزام بالمنظومة القيمية والانانية والفصل بين العلم والاخلاق , التي تشكل الطرح الراهن الموجود , للوصول عبر الدمج والصراع البناء بين هذا الثنائي الى التركيبة الجديدة التي سيتم بناءها وفق البرايغمائيات الجديدة المختلفة جوهريا عن برايغمائيات العصر الحديث , فتكون النسخة الكردية من التنوير هي الاحدث والاصلح .
هل بامكان الكرد ان يحققوا ذلك ؟ ! نظريا لاشيء يستطيع الوقوف والتصدي لارادة الشعوب وقواها الابداعية , لكن الامر لن يكون بهذه السهولة ابدا , الا انه ما من طريق اخر لنسكن في هذا العالم الراهن بكرامتنا سواه , تلك هي قناعات نظرية لا بد ان تترجم عمليا بممارسة دؤوبة منظمة وشاملة , بارادة حرة وعزم لا يلين , واعتقد ان الكرد قادرون على ذلك ان اعطوا لانفسهم قدر ما اعطوه للاخرين , ان التزموا بقضاياهم قدر ما التزموا بقضايا الاخرين , وذلك بحد ذاته جزء من مشكلة يعاني منها الكرد بتاثير الذهنية الدوغمائية نفسها .
#زردشت_صابر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟