مروان عبد الرزاق
كاتب
(Marwan)
الحوار المتمدن-العدد: 1475 - 2006 / 2 / 28 - 09:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(الدرس الفلسطيني)
يطابق الخطاب الديمقراطي في العالم العربي بين الانتخابات والديمقراطية. رغم أنه من حيث المبدأ لا يمكن المطابقة بين الجزء والكل, أو بين الوسيلة والغاية . صحيح انه لا يمكن للعملية الديمقراطية أن تتم دون انتخابات حرة و نزيهة, إلا أن الانتخابات وصناديق الاقتراع ليس بالضرورة أن تفضي إلى الديمقراطية. وإلى بناء دولة ديمقراطية تمثل اللذين انتخبوها وتحافظ على حرياتهم. وتاريخ الديمقراطيات الغربية يشير إلى أن الانتخابات أفرزت في مرات عديدة, رموزا استبدادية حكمت المجتمع بالحديد والنار مثل:انتخاب نابليون بونابرت عام/1848/ في فرنسا , وهتلر وموسوليني في ألمانيا وايطاليا.
فالديمقراطية ترتكز إلى عدد من الأسس لا يمكن أن تقوم بدونها وهي:
أولاً : المصالحة الداخلية ,والاعتراف بالآخر و التداول السلمي للسلطة .
وثانياً: أن تقوم الدولة الديمقراطية على مبدأ المواطنة, وليس على مبدأ الولاء الديني أو المذهبي أو العشائري. وهذا يتطلب:
ثالثاً: أن يكون المجتمع قد أنجز الإصلاح الديني وافرز تيارات سياسية معتدلة تقبل مشاركة الآخرين ببناء دولة وطنية ديمقراطية, وليس دولة دينية تلغي التعددية.
وتحتاج العملية الديمقراطية إلى عدد من الآليات و الوسائل, ومن ضمنها الانتخابات. ولا يمكن لهذه الوسيلة أن تحل محل الأسس المذكورة. كما انه ليس بالضرورة أن تتحقق الديمقراطية بمجرد نجاح الانتخابات سواء كانت نزيهة أم مزورة, كما تجري في العديد من دول المنطقة العربية.
* * *
وفي الأشهر الثلاثة الماضية, جرت أربعة انتخابات رئاسية و برلمانية في كل من مصر و لبنان و العراق و فلسطين و هي تعبر عن ثلاث نماذج مختلفة في مقدماتها و نتائجها.
النموذج الأول:(النموذج المصري)
والذي يعبر عن الانتخابات التي تتم تحت رعاية السلطات الاستبدادية ( الملكية أو الشمولية) و بنسب مختلفة. ويكون الهدف منها إعادة تجديد السلطة, في محاولة يائسة لاكتساب شرعية استمرارها, عبر" التبرقع " بالديمقراطية التي تجعلها مساوية للانتخابات. ومن الطبيعي أن يرافق هذه الانتخابات التزوير والاعتقالات بحيث تكون النتيجة محسومة لصالح السلطة التي تريد أن تكون أبدية . وهذا أدى بالدرجة الأولى إلى عزوف المجتمع عن الانتخابات (20 % في مصر ) باعتبارها لم تعد وسيلة حقيقية لاختيار ممثلين حقيقيين للشعب. لأن هذه الانتخابات تفتقر إلى الاساس الأول للديمقراطية و هو المصالحة الوطنية بين السلطة والمجتمع, واعتراف السلطة بالمجتمع ,أو اعتراف الجميع بالجميع كمشارك في بناء الدولة الديمقراطية. في حين يسود مبدأ هوبز الشهير " حرب الجميع ضد الجميع " والذي يتلخص بحرب السلطة ضد المجتمع ومنعه من اختيار سلطته بنفسه واستمرارها بالتعامل معه كرعايا و ليس مواطنين.
النموذج الثاني: (اللبناني والعراقي)
منذ إنشاء النظام الطائفي اللبناني /1943/ في ظل الاستعمار الفرنسي, و بعد نصف قرن من الاستقلال الوطني وسيادة مبدأ الانتخاب لم تدخل لبنان نادي الدول الديمقراطية الحديثة, بالرغم من هامش الحريات الذي يوفره النموذج اللبناني. إنما أضافت لبنان إلى القاموس السياسي العربي شكلاً جديداً من " الديمقراطية " سميت " الديمقراطية التوافقية " أو " الديمقراطية الطائفية " التي تستند إلى توافق الطوائف الدينية على تقاسمها مراكز السلطة في الدولة. وتجري الانتخابات على أساس هذا التوافق/التقاسم لتشكل النظام الطائفي اللبناني.
وهذا التوافق الطائفي – كما يشير تاريخ لبنان –كان دائما مؤقتا. لأنه ناتج بالأساس عن توازن طائفي مؤقت, والذي سرعان ما يتبدل بفعل النمو غير المتوازن للطوائف, ودور العوامل الخارجية. ويؤدي هذا إلى ضرورة البحث عن توافق جديد, وهذا لا يتم إلا بعد صراعات عنيفة و دامية. وبالتالي لا يشكل التوافق أكثر من هدنة بين الحروب الأهلية الطائفية المدمرة ( توافق – حرب – توافق جديد – حرب جديدة . .وهكذا )
فالتجربة اللبنانية علمت الجميع أن الطائفية لا تطابق الوطنية.إنما الطائفية نقيض الوطنية. وان مجموع الطوائف و انتخاباتها لا تنتج وطناً متماسكاً و دولة ديمقراطية قوية. وان إضافة " الديمقراطية " إلى " الطائفية" لم ولن يؤدي إلى الديمقراطية. لأنهما يقومان على أساسين متناقضين. فالطائفية تقوم على الانغلاق والعصبوية وعدم الاعتراف بالآخر, وحتى العنصرية والفاشية كما تظهر في الحرب الطائفية من خلال القتل على أساس الهوية الطائفية. اما الديمقراطية فتقوم على الانفتاح والحرية والتعددية والاعتراف بالآخر والولاء للوطن. ولم توجد في التاريخ دولة ديمقراطية تمثل الجميع بالتساوي وبنفس الوقت طائفية,وبالعكس.
وتاريخيا لم يكن في لبنان إجماع للطوائف تجاه المسائل الوطنية بما فيه الموقف من إسرائيل. وكانت الدولة دائما ضعيفة تجاه مكوناتها (الطوائف).
وبدلاً من انتقال النظام اللبناني إلى إلغاء الطائفية السياسية كما تم الاتفاق عليه في الطائف 1989 في نهاية حرب طائفية مدمرة, ينحو النظام اللبناني نحو زيادة الاستنفار الطائفي كما ظهر في تظاهرات 8 آذار و 14 آذار/2005/ , ومازال يتصاعد حتى الآن - كما لاحظ د.احمد بيضون في محاضرة له نشرتها السفير (412006)- رغم وجود العديد من الانوية الوطنية الديمقراطية غير الطائفية. وينحو كذلك باتجاه إلغاء التعددية داخل الطوائف بحجة ضرورة الوحدة الطائفية ووحدة التمثيل الطائفي فينتفي بذلك شرط عمل النظام الطائفي بمرونة وكذلك شرط بقائه والذي هو التعددية ضمن الطائفة وانقسام الطائفة على نفسها. وأصبح الإجماع ضروري لكي يمارس الحكم أعماله وليس التوافق. إلا أن هذا الإجماع مستحيلا في النظام الطائفي. وقد ظهر ذلك جلياً في الانتخابات الأخيرة التي أفرزت حكومة ضعيفة سرعان ما انهارت منذ شروعها بأعمالها.. ومأزق النظام الطائفي الراهن يضع لبنان في المرحلة الراهنة أمام حرب طائفية جديدة لا أحد يعرف متى وكيف تبدأ؟ وتشير التجربة اللبنانية إلى أن الطائفية السياسية وما يرافقها من انتخابات برلمانية (مزورة أم نزيهة), لم تشكل مقدمة للانتقال للديمقراطية. إنما تشكل إعاقة لهذا الانتقال.
ويعاد تشكيل النظام ذاته تقريباً في العراق وهو لا يختلف من حيث الجوهر عن الذي جرى تشكيله في لبنان تحت الاحتلال الفرنسي. ويتم تسويق الانتخابات التي شكلتها اللوائح الطائفية ومارافقها من تزوير وقتل واعتقالات, كأنها نصر كبير للديمقراطية!. في حين أنها لم تؤدي إلى الديمقراطية. إنما أدت إلى " شرعنة " استبداد جديد أخطر من القديم, وهو النظام الطائفي الذي يلائم الاحتلال والرموز الطائفية التي أبرزها بتفكيكه و تدميره للعراق, وأعاد بذلك العراق إلى الوراء بدلا من التقدم خطوة واحدة إلى الأمام. فالتخلص من الاستبداد ليس بالضرورة أن يؤدي للديمقراطية, إذا لم تتوفر الأسس الضرورية لذلك. وتظهر اللعبة الاستعمارية الجديدة هذه المرة كمهزلة باسم الحرية والديمقراطية.
فأية حرية وديمقراطية هذه التي يرافقها القتل الطائفي اليومي, ومافيات نهب الثروات العراقية, واستباحة الاحتلال والقوات الطائفية الموالية له, لمناطق كاملة وتدميرها وقتل وتشريد أهلها واعتقالات بعشرات الآلاف. ولجان الاجتثاث ليس للبعث فقط, إنما لكل من يعارض الاحتلال.
النموذج الثالث: (الفلسطيني)
شكلت الانتخابات الفلسطينية صدمة قوية ليس للأنظمة العربية الاستبدادية فقط , انما للعقل السياسي العربي عموما, بالإضافة إلى أمريكا والغرب الأوروبي, وذلك لسببين:
الأول: لان حماس منظمة إسلامية شعارها " الإسلام هو الحل ". وهي مقاومة وطنية تمارس الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي.
و الثاني : قبول فتح بنتائج الانتخابات و عدم تزويرها, واستعدادها للتداول السلمي للسلطة رغم سيطرتها التاريخية(لأربعه عقود) على منظمة التحرير الفلسطينية. وهذا القبول ناتج ليس من " ديمقراطية " فتح. إنما من ضعف فتح وفسادها, مقابل قوة حماس على الأرض واتجاهها المقاوم, والتي كانت فتح تستند إليه أيضا خلال تفاوضها مع إسرائيل.
المهم ان الشعب الفلسطيني اختار " حماس " بحرية. وهذه هي المقدمة الأولى للديمقراطية, وتوفر الأساس الأول للديمقراطية: وهو التداول السلمي للسلطة والاعتراف بالتعددية و بالآخر كمشارك في بناء العملية الديمقراطية, رغم خصوصية هذه الديمقراطية بأنها تبنى في ظل الاحتلال. وهذا يؤهل الشعب الفلسطيني لان يدخل عتبة البناء الديمقراطي الفعلي للمجتمع والسياسة. وتجاوز هذه العتبة نحو البناء يستلزم المتابعة من اجل توفير الأسس الأخرى للديمقراطية وأهمها: بناء الدولة الديمقراطية على أساس مبدأ المواطنة وليس أسلمة الدولة وقوانينها. لان هذه الأسلمة وإقامة دولة إسلامية ستدخل البلاد في نفق استبدادي جديد. مما يعني ضرورة العمل على الإصلاح الديني. وهو الأساس الثالث والهام في بناء الديمقراطية. وبدون بناء هذه الاسس يصبح الحديث عن الديمقراطية ضرب من الوهم. وهذا البناء سيحتاج إلى قناعة من الجميع, وإلى زمن قد يكون طويلا ستتخلله بالتأكيد العديد من النجاحات والانتكاسات.
وتشكل هذه الانتخابات الدرس العملي الأول في الديمقراطية ليس للفلسطينيين فقط إنما لكل الديمقراطيين في المنطقة العربية. لان الديمقراطية بالأساس ليست وصفة جاهزة يمكن تطبيقها على الجميع. إنما هي تجربة عملية يقوم بها ويبنيها المجتمع وفق ظروفه وثقافته وتاريخه.
و تأتي أهمية هذا الدرس من:
أولا: إنها سابقة أولى في المنطقة العربية. والتي بدأت تؤرق كل الأنظمة العربية الاستبدادية التي تعتبر نفسها أبدية. ليس لأن حماس إسلامية فقط, إنما لأنها مقاومة للمشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة. في الوقت الذي تجد فيه هذه الأنظمة نفسها في خدمة هذه المشاريع.
وثانيا: إنها اختبار حقيقي لأفكارنا الديمقراطية وكيفية تحققها على الأرض. والتي أظهرت عقم هذه الأفكار عند بعض (العلمانيين جدا) الذين تعلموا الديمقراطية بالقراءة والتأمل, ولا يعملون إلا على" حراسة أفكارهم " بتعبير د.علي حرب. والذين يرون في نجاح حماس خطوة للوراء بحجة أنها إسلامية, مخالفين بذلك حتى قناعاتهم حول بديهيات الديمقراطية وهي الانتخابات الحرة والنزيهة. لأنهم يريدون صناديق اقتراع وفق رغباتهم.
وكذلك زيف ديمقراطية ( الليبراليين الجدد " كمال غبريال"- نموذجا-) الذين يرفضون حماس بحجة أنها إرهابية وتقتل الأبرياء الإسرائيليين! ويسوقون للديمقراطية " الطائفية " المترافقة مع القتل والتزوير التي ترسخها أمريكا في العراق نموذجا, و كقاعدة للاحتلال وديمومته, ولحرب طائفية مستمرة ومدمرة.
وثالثا: لأنها ستدفع الفكر الديني باتجاه الإصلاح الذي سيفرز تيارات سياسية معتدلة تؤمن بمشاركة الآخر في إقامة دولة وطنية ديمقراطية علمانية تمثل الجميع وتصون حريات الجميع. وهذا الإصلاح ضروري ليس لأصحاب الفكر الديني فقط إنما لكل الاتجاهات الأخرى(القومية واليسارية والليبرالية) التي تسعى لبناء الديمقراطية, والتي ستجد نفسها أيضا أمام ضرورة إصلاح إيديولوجي جذري تنتقل بموجبه لتشكل تيارات سياسية ديمقراطية.
ورابعا: أظهرت أن الشعب يقول لا لأمريكا والاحتلال عندما تكون الانتخابات نزيهة, ويكون حرا في تصويته. وليس الدعوة إلى بقائه كما هو في العراق.
وخامسا: انه درس خاص للنظام السوري وهو الوحيد في المنطقة الذي مازال محافظا على النظام الشمولي والحزب الواحد القائد. ويرفض أية انتخابات حرة أو مزورة. وبالوقت ذاته يجد نفسه حليفا لحماس, وفي موقع معارض للسياسة الأمريكية التي تسعى إلى تغييره. فشعار المقاومة الذي ترفعه السلطة لن يجدي نفعا, ولم يعد يقنع أحدا, إذا لم يقترن بتغيير ديمقراطي فعلي, يعطي للمقاومة بعدا فعليا وليس شكليا. ويؤسس لشرعية السلطة التي تستطيع أن تصمد في وجه الضغوط الأمريكية والأوروبية. وإلا فالانهيار قادم لا محالة. وسيحمل المستقبل ليس " نموذج " حماس. انما " بن لادن " والطوائف والدمار.
والمستقبل هو الذي سيجيب على قدرة " حماس" على حمل التركة الثقيلة في الداخل والخارج, وفك الحصار الأمريكي والأوروبي والعربي الذي بدأ منذ إعلان فوزها. وتاسيس مشروع وطني ديمقراطي مقاوم للاحتلال يشكل بديلاً حقيقياً لاتفاقيات "أوسلو" في ظل الهزيمة العربية الشاملة أمام أمريكا.
#مروان_عبد_الرزاق (هاشتاغ)
Marwan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟