|
كيف صار الشاب ماركس ثوريا؟ -الفلسفة والثورة من كانط إلى ماركس-(1) حوار مع ستاذيس كوفيلاكيس(2)
محمد الهلالي
(Mohamed El Hilali)
الحوار المتمدن-العدد: 5727 - 2017 / 12 / 14 - 15:33
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
سؤال: قامت منشورات "لافابريك La Fabrique"، مؤخرا بإعادة نشر كتابك "الفلسفة والثورة من كانط إلى ماركس" الذي نشر لأول مرة سنة 2003، ففي أي سياق تم تأليف هذا الكتاب؟ ستاذيس كوفيلاكيس: لقد كتبت الجزء الأساسي من هذا الكتاب في أواخر التسعينيات، وعرف طبعته الأولى سنة 2003 في "المنشورات الجامعية الفرنسية" (PUF). ولقد عرفت هذه المرحلة عودة النقاش حول ماركس بناء على انطلاقة جديدة للحركات الاجتماعية في فرنسا وخارجها. ويمكنني أن أستعير عبارة مفضلة عند دانييل بنسعيد Daniel Bensaid وهي العبارة التي تقول: "بالرغم من صعوبة تحقيق الهدف، فإن هناك أثر لحدوث بعض التغييرات". لقد بدت لي اللحظة مناسبة لإطلاق تفكير نظري لا مندوحة منه إذا أردنا تجاوز مرحلة هذه الهزيمة التي ختمها انهيار الاتحاد السوفييتي وانعطاف الصين نحو الرأسمالية. يقع هذا الكتاب، من زاوية نظرية، ضمن استمرارية نقاشات المرحلة السابقة التي دُشِنت بما يُسمّى بـ"أزمة الماركسية" في نهاية السبعينيات. أما المسألة التي شغلتني فهي مسألة "النظرية السياسية عند ماركس"، والتي لازال وضعها ووجودها محلّ نقاش. يتعلق الأمر بكيفية التفكير في قضايا العلاقات ما بين النظرية والممارسة وبالسياسة الإستراتيجية الثوريتين، بالعودة إلى لحظة مؤسسة، تلك التي ترى أن مسار ماركس يتفرد في الفضاء الرحب للأنتلجنسيا المعارضة التي لها تكوين فلسفي بالأساس، في ألمانيا في مرحلة "فورمارتس"(3) Vormärz، أي في السنوات التي سبقت ثورات سنة 1848. سؤال: يبدو كتاب "الفلسفة والثورة من كانط إلى ماركس" كمُؤلف إضافي عن ماركس، هل بإمكانك أن تشرح لنا هذه الخصوصية؟ ستاذيس كوفيلاكيس: هناك أمران يميزان هذا الكتاب، الأمر الأول هو أنني أحاول أن أضع ماركس ضمن مجموعة من المفكرين من بينهم هنريش هين (1787-1856) Christian Johann Heinrich Heine، وهيس (1812-1875) Moses Hess، والشاب إنجلز Engels، وهي المجموعة التي يخيم عليها ظل شخصيتين تنتميان للفلسفة الكلاسيكية الألمانية وهما كانط وهيجل، وقد خصصت لهما فصلا في بداية الكتاب، كما عملت على توسيع دائرة المثقفين لأتمكن من تحديد ما هو متفرد عند ماركس ضمن الحركة الواسعة التي انحدر منها وهي حركة "الهيجليين الشباب". وهكذا أمكنني استأناف التفكير في جملة إنجلز التي ختم بها كراسته حول فيورباخ Ludwig Feuerbach والتي حيرتني وفتنتني دائما وهي الجملة التالية: "إن الحركة العمالية الألمانية هي وريثة الفلسفة الكلاسيكية الألمانية". ينبغي إذن أن نفهم من هذا الأمر أن هذه الفلسفة التي تبدو ظاهريا كفلسفة تأملية فقط، هي حاملة لحمولة تحريرية في ملتقى فكر الأنوار وموجة الصدمة التي فجرتها الثورة الفرنسية، حمولة تطرح بشكل مباشر مسألة الإنجاز العملي. ولقد ردّد إنجلز في هذه الجملة كلمة "ألمانيا" للتأكيد على هذه الخصوصية، على هذا "المعنى النظري الألماني" حسب تعبيره، والذي ظهر في البداية في الفلسفة، أي بعيدا عن الممارسة، وهو ما يترجمه ماركس إلى نظرية جديدة، تريد أن تكون دليلا للعمل تستعمله هذه الطبقة القادرة على قلب الأوضاع القائمة. وبتعبير آخر، يقود تحقيق الفلسفة عمليا إلى زوالها، إلى تجاوزها في الممارسة، هذا التجاوز الذي يحافظ على حقيقتها المتضمنة فيها، بجعلها فعلية وفعالة بشكل ملموس. هنا يتدخل ماركس الذي يقول أنه ينبغي التفكير في إلغاء الفلسفة كإلغاء سياسي، لكن لا يتعلق الأمر بأية سياسة كيفما كانت، يتعلق الأمر تحديدا بترجمة المحتوى التحريري –الذي تملكته الفلسفة الكلاسيكية الألمانية- إلى سياسة، وهو الأمر الذي يحول بعمق، في نفس الآن، التصورات السياسية عن "السياسة" بل وعن "الثورة". وتكمن الخصوصية الثانية لعملي في الاهتمام بالشغف بالسياسة، وهو ما أعتبره محركا للتطور الثقافي لماركس. إنه شغف يتغذى أيضا من علاقته العميقة بهيجل، الذي يُعتبر مفكر الحداثة البرجوازية وتناقضاتها، هيجل الذي تعتبر واقعيته القاسية أكثر إفادة للثوري من أي مذهب أخلاقي أو حماس إرادوي. سؤال: تبحث عن تفسير للفكر الثوري عند ماركس، ليس باعتباره منطقا متضمنا سلفا في التاريخ، ولكن كنتيجة سياسية وفلسفية لمرحلة "فورمارتس". هل يمكن توضيح هذه الفكرة؟ ستاذيس كوفيلاكيس: كما سبق لكارل كورش Karl Korsch أن دعانا في كتابه "الماركسية والفلسفة" أحاول جاهدا أن أطبق على ماركس المنهج الذي بلوره لدراسة الوقائع الاجتماعية والتاريخية، والذي ينطلق من المبدأ القائل أن الأفكار لا تسقط من السماء. إن فهم خصوصية وتفرد ماركس يعني التخلص من التصور القائل بأن كل فكره كان متضمنا بشكل جنيني في عبقريته الفردية، وذلك لنتمكن من الإحاطة بالكيفية التي تصرف وفقها شاب راديكالي على المستوى العملي والنظري مع الأحداث غير المتوقعة التي زادت من حدة مرحلة "فورمارتس"، والتي قادت إلى ثورات سنة 1848. لم يولد ماركس ثوريا، وإنما صار ثوريا عبر انتزاع نفسه انتزاعا صعبا من الإطار الذي كان يستعمل كمرجع للمثقفين الألمان من جيله، حتى وإن كانوا من المعارضة. كان عليه أن يواجه وضعية بدأت تعرف تقلص النشاط الثقافي في الجامعة وفي الصحافة على وجه الخصوص بسبب الضربات العنيفة من الملكية البروسية التسلطية. وكان منافسو ماركس ومحاوروه من "الشباب الهيجلي" يقومون بردود أفعال إما عبر الانسحاب أو عبر القفز إلى الأمام باستعمال خطاب متطرف يخفي عجزهم التام. وكان ماركس يفضل المنفى ليشارك في الأنشطة السياسية للمهاجرين من العمال والمثقفين والذين كانوا يتمركزون بباريس وبروكسيل ولندن. لقد مكن المنفى ماركس من الاتصال المباشر بالتيارات الثورية الأوروبية الأساسية، كما وجههُ المنفى نحو الشيوعية. وكان لراديكاليته خصوصية تمثلت في الربط ما بين العمل السياسي الفعلي والتجديد النظري. وهكذا فرضت شيوعية ماركس نفسها منذ البداية كقطيعة مع المذاهب الشيوعية المعروفة آنذاك (1840) من بلانكي (1805-1881) Auguste Blanqui إلى كابي (1788-1856) Etienne Cabet وأتباع بابوف الجدد (1760-1797) Gracchus Baboeuf. سؤال: تنبع أصالة المنهجية المتبعة من المُؤَلِفين الذين قمت بتحليل مواقفهم مثل هين وهيس وكانط وفيورباخ. لماذا هذا الاختيار؟ ستاذيس كوفيلاكيس: يتطلب تحديد تفرد وتميز ماركس أن أحدد موقعه ضمن مجموعة تضمن أكبر عدد من المنافسين والمحاورين المنتمين لتيار الشباب الهيجلي. ولقد اخترت على وجه الخصوص هيس وإنجلز وفضلتهما على فيورباخ، الذي كان بعيدا عن مشاكل السياسة، لأنهما كانا على اتصال بالتيارات الاشتراكية، وفي حالة إنجلز بالتحديد فإنه كان على صلة بواقع إنجلترا الصناعي، وبحركتها العمالية القوية. ومع ذلك، فإن مسارهما يختلف بوضوح عن مسار ماركس كما تبين السنوات التي أدرسها في هذا الكتاب، لقد تبنيا معا اشتراكية إنسانية لها بعد أخلاقي قوي، اشتراكية معادية للعمل السياسي. ويعتبر "هين" حالة خاصة، فهو ينتمي لجيل سابق. لقد كان يعرف شخصيا كلا من غوته Goethe وهيجل، واختار المنفى في باريس منذ بداية ثورة يوليوز 1830، الشيء الذي مكنه من الالتقاء بماركس. وبلور "هين" قراءة سياسة للفلسفة الكلاسيكية بشكل مباشر، كما بلور قراءة بشكل موسع للثقافة الألمانية التي تبرز النواة الثورية لهذه الثقافة، وتقوم بدور حاسم في التبادل الثقافي ما بين فرنسا وألمانيا إبان هذه المرحلة. وقام بدور ريادي في ترجمة النظرية الألمانية إلى الفرنسية، أي تمكين النظرية الألمانية من لغة سياسية، هذه النظرية التي سوف تعرف مع ماركس مسارا جديدا. سؤال: ألهذا السبب تتوقف في دراستك في ما قبل المرحلة الثورية لثورة 1848؟ ستاذيس كوفيلاكيس: تتوقف دراستي عن ماركس بالفعل عند لحظة بداية منفاه في باريس، والتي هي في نفس الوقت لحظة لقائه بـ"هين". لقد تحول ماركس في هذه اللحظة من لحظات مساره إلى ثوري، ورأى في البروليتاريا الفاعل في ثورة ألمانية من نوع جديد، "ثورة راديكالية" تتجاوز الأفق الفرنسي لسنوات 1789-1793، لكونها تعيد النظر في مجموع البناء الاجتماعي. ينبغي التركيز على المفارقة العميقة لهذا الموقف، لأن ألمانيا –كما ردّد ذلك ماركس بقوة بعد آخرين- هي بلد متخلف سياسيا واقتصاديا، لكنها لم تكن متخلفة نظريا. وما رآه ماركس مبكرا هو استحالة نجاح ثورة "بورجوازية" في ألمانيا لأن ظهور البروليتاريا في مسرح الأحداث يعتبر كافيا لدفع البرجوازية على التواطؤ مع الطبقات المسيطرة القديمة. كان مصير ألمانيا رهينا بهذا التمزق ما بين هذه الوضعيات المتباينة والتي تحدث في نفس الزمن. وانطلاقا من "عدم تطابق الأزمنة"، حسب تعبير مفضل لدانييل بنسعيد، تظهر إمكانية غير متوقعة وهي "الثورة الراديكالية". 14 فبراير 2017
هوامش: 1) المرجع: www.revolutionpermanente.fr/Philosophie-et-revolution-de-Kant-a-Marx-Entrtien-avec-Stathis-Kouvelakis 2) ستاذيس كوفيلاكيس أستاذ الفلسفة بلندن منذ سنة 2002، يكتب في عدة مجلات يسارية (منها Actuel Marx, Contretemps)، ناضل في صفوف اليسار الراديكالي والمعادي للرأسمالية في اليونان وفرنسا (الحزب الشيوعي اليوناني، الحزب الشيوعي الفرنسي، العصبة الشيوعية الثورية الفرنسية، الحزب الجديد المعادي للراسمالية بفرنسا، حركة سيريزا في اليونان، الوحدة الشعبية في اليونان). 3) مرحلة فورمارتس Vormärz هي مرحلة ما قبل مارس، وهي المرحلة الممتدة من مؤتمر فيينا سنة 1815 وحتى ربيع الشعوب سنة 1848 الذي تعم إجهاضه.
#محمد_الهلالي (هاشتاغ)
Mohamed_El_Hilali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
راني زعفان - من ستيفان هيسيل إلى أنيس تينا
-
جيل دولوز يجيب عن سلسلة من الأسئلة حاوره آرنو فيللاني(1) Arn
...
-
من هم الطلبة القاعديون المغاربة(1)؟
-
اليَسارُ العَالمِيُ بيْنَ فشَل الأمَمِياتِ والبَحْثِ عنِ الم
...
-
مَارْكس وَصِراعَاتُ الْورَثةِ
-
السياسة الدينية في المغرب بين التدبير والإصلاح
-
ذنوب الحب
-
المناهج في الفلسفة
-
حَنَّ آنُ التَّولُهِ
-
صلي من أجلي
-
عزف على أوتارك
-
هل هناك لغة فلسفية؟
-
هل توجد نساء فيلسوفات؟ (عناصر أولية)
-
-الثورة الديمقراطية- أو كتابة تاريخ الوعي المغربي المعاصر
-
التمثيل اليساري الديمقراطي الثوري للشعب
-
الكائن الإخواني - الجزء الثالث والأخير
-
الكائن الإخواني - الجزء الثاني
-
الكائن الإخواني الجزء الأول
-
الكائن الإخواني
-
إصلاح التعليم أو الجحيم (المؤسسة التعليمية خط أحمر)
المزيد.....
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
-
حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
-
تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا
...
-
تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال
...
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|