|
من محطة قطار فنلندا
يوري كولومبو
الحوار المتمدن-العدد: 5726 - 2017 / 12 / 13 - 23:10
المحور:
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا
ترجمة: عايدة سيف الدولة في السادس عشر من أبريل منذ مائة عام وصل لينين إلى محطة فنلندا ليعيد تشكيل إستراتيجية البلاشفة ومسار الثورة الروسية.
حين وصل فلاديمير لينين إلى بتروجراد في 16 أبريل منذ مائة عام في القطار المغلق الشهير الذي سافر من سويسرا عبر ألمانيا، بدت الأمور مستقرة سواء داخليا أو على الجبهة.
إلا أن الهدنة المؤقتة بين الحكومة الجديدة المؤقتة وجماهير الثوار تجاهلت القضية الأساسية التي برزت في ثورة فبراير، ألا وهي الحرب. وحين اتضحت الأهداف العسكرية العنيفة للحكومة المؤقتة، أثبتت مظاهرات “أيام أبريل” أن الثورة لازالت حية للغاية.
بعد فبراير، وُضِع القيصر نيكولاس الثاني رهن الاعتقال وتشكلت حكومة مؤقتة، على رأسها الأمير جورج لفوف، وهو شخصية احتفالية كانت بمثابة الصلة الأخيرة مع النظام القديم. أما الحكومة فكان يهيمن عليها الليبراليون المرعوبين من ذات الثورة التي جاءت بهم إلى السلطة.
كان وزير الخارجية هو “بافل ميليوكوف”، الزعيم التاريخي لحزب الكاديت، على حين كان “ألكسندر جوشوف” الأكتوبري ورئيس مجلس الدوما يرأس وزارة الحرب. وزارة العدل كان يرأسها الاشتراكي الثوري ألكسندر كيرينسكي، الاشتراكي الوحيد في الوزارة.
كانت المهمة الرئيسية للحكومة الجديدة هي تقديم الضمانات للحلفاء والرأسماليين الروس على أن الحرب سوف تستمر. وكما أعرب “ميليوكوف” لصحفي فرنسي: “إن الثورة الروسية كانت من اجل إزالة العقبات التي تعترض مسار الحرب من أجل النصر”.
أدى النضال الثوري في فبراير إلى إنشاء مجالس عمال منتخبة ديمقراطيا تسمى السوفييت كما في ثورة 1905، إلا أنها هذه المرة ضمت أيضا الجنود، بداية في بتروجراد ثم في كل مقاطعات الإمبراطورية.
يوم 1 مارس، نشر سوفيت بتروجراد التوجيه رقم 1، جاء فيه، “يجب تنفيذ أوامر اللجنة العسكرية في مجلس الدوما فقط في الحالات التي لا تتعارض فيها مع أوامر وقرارات مجلس مندوبي العمال والجنود”
بالإضافة إلى ذلك، جلبت الثورة حريات جديدة غير مسبوقة ووضعت حدا للمضايقات المستمرة من قبل الشرطة. عندما وصل الصحفي البريطاني “مورغان فيليبس برايس” بالقطار إلى موسكو يوم 6 أبريل، كتب ما يلي:
مشيت في الشوارع وسرعان ما لاحظت التغيير الذي حدث منذ كنت هنا آخر مرة. لم يكن هناك شرطي أو درك واحد. لقد ألقي القبض عليهم جميعا وأرسلوا إلى الجبهة في مجموعات صغيرة. كانت موسكو من دون أي شرطة وبدا أن الأمور تسير بشكل جيد جدا بدونهم.
هيمنت القوى الاشتراكية، وخاصة المناشفة، على سوفييت بتروجراد. ودفعوا بأنه يجب على الحكومة أن تبقى بحزم في أيدي البرجوازية، وأنه ينبغي على الطبقات العاملة أن تلعب دور القوى المعارضة للضغط على الحكومة المؤقتة الجديدة.
لقد كان رأيهم أن روسيا ليست جاهزة لثورة اشتراكية. وسريعا ما أصبحت هناك حالة من “ازدواج السلطة”: حكومة مؤقتة تمثل مصالح الرأسماليين وأصحاب الأراضي من جهة، في حين أن السلطة الحقيقية كانت في يد السوفيتات والطبقات العاملة.
يوم 23 مارس، دخلت الولايات المتحدة الحرب. وفي نفس اليوم، دفنت بتروجراد ضحايا ثورة فبراير، وتوجه ثمانمائة ألف شخص إلى “حديقة مارس” في أكبر عمل تعبوي ذلك العام.
تحولت الجنازة إلى ترنيمة من التضامن الدولي وصرخة من أجل السلام؛ في كتابه المرجعي “تاريخ الثورة الروسية” كتب ليون تروتسكي أن “التظاهر المشترك بين الجنود الروس مع أسرى الحرب النمساويين الألمان كان مشهدا مليئا بالأمل، مما جعل من الممكن الاعتقاد بأن الثورة، على الرغم من كل شيء، كانت تحمل في داخلها أساسات عالم أفضل”..
ضمن “تسيريتيلي” وقادة السوفييت المناشفة الدعم الخارجي للحكومة المؤقتة، واعتقدوا أن الحرب ينبغي أن تستمر، وإن كان من منطلق “دفاعي ودون إلحاق”. حاول هذا الموقف الوسيط أن يتحايل على عزم الحكومة مواصلة الحرب وكأن شيئا لم يحدث، وكذلك على توقعات الجنود والعمال لسلام منفصل.
يوم 14 مارس، أصدر سوفييت بتروجراد بيانا يدعو فيه “شعوب أوروبا إلى الحديث والفعل المشترك الحازم من أجل تعزيز السلام”. إلا أن النداء الموجه إلى العمال الألمان والنمساويين الذي أعلن أن “روسيا الديمقراطية لا يمكن أن تهدد الحرية والحضارة”، و”سوف ندافع بحزم عن حريتنا ضد أي نوع من التعديات الرجعية”، استُقبل من قبل الكثيرين باعتباره مؤيد للحرب.
وقد علق “تروتسكي” على ذلك بأن “ورقة “ميليوكوف” كانت محقة تماماحين أعلنت أن” البيان بلور بالأساس أيديولوجية مشتركة لنا ولجميع حلفائنا، على الرغم من أنه بدأ بالإشارة المعتادة للسلام”.
قبل ثورة فبراير، كان يبدو أن الحرب تقترب من نهايتها، حيث رفض الجنود القتال، وهرب مئات الآلاف، وتآخوا مع الجنود الألمان.
في موسم أعياد الميلاد عام 1914، شمل هذا الإخاء الرقص وتبادل الكونياك والسجائر بين الجنود الألمان والروس، واستمر ذلك لسنوات دون أن يترتب عليه تمرد مفتوح على الضباط. يستشهد المؤرخ “مارك فيرو” برسالة تتحدث عن الضباط كتبها جندي روسي إلى زوجته:
الحرب؟ إنهم يجلسون هناك بينما نحن في الوحل، ويحصلون على 500 أو 600 روبل على حين نحصل نحن على 75 فقط.. كانوا مهووسين بالظلم. وبعد ذلك، وعلى الرغم من أن الجنود هم من يتحملون الجزء الأصعب من الحرب، إلا أن الأمر مختلف بالنسبة لهم؛ فهم مغطون بالميداليات والأنواط والمكافآت، وهم أبعد ما يكونوا عن ساحة المعركة.
في البداية حاول الجنرالات حجب أنباء تمرد القوات على الجبهة في بتروجراد، إلا أن القوات الألمانية أبلغت الجنود الروس بأنباء ثورة فبراير، مما زاد من تآكل ثقة الجنود في ضباطهم. ومن المفارقات أن وضعت الثورة حدا لحالات الفرار من الجبهة. توقع الجنود نهاية وشيكة للحرب، ولم يرغبوا في تقويض قدرة الحكومة الجديدة على التفاوض بشأن السلام.
أظهرت التقارير القادمة من الجبهة أن المزاج كان ميال “لدعم الجبهة، دون مشاركة في الهجوم”. مع مرور الأسابيع، قال قائد الجيش الخامس، “لقد انخفضت الروح القتالية.. السياسة، التي انتشرت بين كافة طبقات الجيش، جعلت الكتلة العسكرية كلها تريد شيئا واحدا هو إنهاء الحرب والعودة إلى الديار”. وخلال الأسبوع الأول من أبريل، فر ثمانية آلاف جندي من الجبهتين الشمالية والغربية.
أدت عودة لينين ونشره “موضوعات أبريل” إلى تحول أساسي في السياسات البلشفية، حيث دعا إلى “عدم دعم” الحكومة البرجوازية والحكومة المؤقتة الإمبريالية.
كانت المواقف البلشفية، بموجب توجيهات “ستالين” و”كامينيف”، معتدلة واستمرت في دعم موقف “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين” لتحقيق ثورة برجوازية كما طرحها لينين في عام 1905.
في مقال نشر في جريدة الحزب، برافدا، كتب “كامينيف” أن “موضوعات أبريل” تمثل “الرأي الشخصي” للينين، وأن “رؤية لينين العامة تبدو غير مقبولة لنا، حيث أنها تنطلق من فرضية انتهاء الثورة البرجوازية، وتتوقع تحول هذه الثورة الفوري إلى ثورة اشتراكية “.
في مؤتمر البلاشفة في مارس 1917، أيد ستالين أيضا إمكانية الوحدة مع المناشفة الأمميين “على غرار زيمروالد-كينتال“. ولكن حتى في عام 1915، كان لينين متشككا في المصطلحات المناهضة للحرب بين الأغلبية في زيمروالد، التي فتحت الباب لدعم الحرب، واصفا إياهم “بكاوسكيين بلهاء”.
حين عاد لينين في أبريل، حث اليسار في زيمروالد على كسر أغلبية زيمروالد تماما، بما في ذلك المناشفة، الذين كان ستالين والعديد من البلاشفة الآخرين يريدون الوحدة معهم.
انتصر تصميم لينين في الحزب. وأمكن للبلاشفة أن يعتمدوا على 000 79 عضو، كان 000 15 منهم في بتروجراد. ورغم كونهم أقلية صغيرة، خاصة في سوفييت بتروجراد، إلا أنهم كانوا على درجة كافية من القوة سمحت بأن يكون لهم دور هام في الأحداث.
لم تكن الحكومة ولا قادة المناشفة في قيادة السوفييت يرغبون في الأزمة السياسية الجديدة التي ظهرت في النصف الثاني من أبريل. فقد كان “ميليوكوف” والرأسماليون الروس قد أكدوا للحلفاء على دور روسيا في الصراع، وتطلعوا إلى الاستيلاء على جزر الدردنيل التابعة للإمبراطورية العثمانية.
ومع ذلك، أدرك “ميليوكوف” أنه بدون اتفاق مع السوفيتات، ما كانت القوات لتوافق أو تحارب من أجل تحقيق خطط الحكومة.
على الجانب الآخر، أصر “تسيريتيلي” على ضرورة أن تعلن الحكومة أن الحرب بالنسبة لروسيا هي حرب دفاعية فقط. هُزمت مقاومة “ميليوكوف” و”غوشكوف”، وفي 27 مارس أُعلن أن:
الشعب الروسي لا يسعى إلى تعزيز قوته الخارجية على حساب شعوب أخرى، وليس من بين أهدافه استرقاق وإهانة أحد.. لكن الشعب الروسي لن يسمح بأن يخرج وطنه الأم من الحرب العالمية مهانا أو مقوضا في موارده الحيوية.
لم يرض الحلفاء عن الإعلان الدفاعي الصادر يوم 27 مارس، ورأوا فيه تنازلا للسوفيتات. واشتكى السفير الفرنسي “موريس باليولوغو” من “تردد وعدم حسم” البيان.
لكن رهان “ميليوكوف” على استخدام الحرب ضد الثورة أخذ في الاعتبار واقع موازين القوى بين الحكومة المؤقتة والسوفيتات. وأراد، خطوة بخطوة، أن يعزز من تأثير الأولى.
بعد ذلك بأيام قليلة، عُقد اجتماع جديد بين ممثلي الحكومة وممثلي السوفيتات. كانت روسيا بحاجة ماسة إلى قرض من الحلفاء لمواصلة الحرب؛ وكانت مذكرة تفاهم جديدة من الحكومة قادرة على تحقيق هذا الهدف. يوم 18 أبريل أرسل “ميليوكوف” مذكرة جديدة إلى حكومات الحلفاء أكد فيها على الرغبة في “مواصلة الحرب بالاتفاق الكامل مع الحلفاء والتمسك بالالتزامات تجاههم”.
وادعت المذكرة أيضا أن الثورة إنما عززت الإرادة الشعبية لحسم الحرب بالانتصار. وفي جلسة مسائية خاصة يوم 19 مارس، ناقشت اللجنة التنفيذية للسوفيتات المذكرة، وقال عضو اللجنة “فلاديمير ستانكيفيتش” “بدون أدنى شك كان هناك إجماع على أن ذلك لم يكن على الإطلاق ما توقعته اللجنة”.
وأضافت صحيفة “رابوتشايا غازيتا”، وهي إحدى صحف المناشفة، أن مذكرة “ميليوكوف” مثلت “استهزاءا بالديمقراطية”. ومع ذلك، فإن الصحيفة البارزة للنخبة الليبرالية “نوفو فريمييا” حاولت الدفاع عنها، وذكرت أنه من غير الممكن إلغاء المعاهدات القائمة .
إذا فعلت روسيا ذلك، “سيكون لحلفائنا أيضا أن يتصرفوا بحرية: إذا لم تكن هناك معاهدة، فلا يوجد من يجب أن يلتزم بها.. ونعتقد ان جميع المواطنين الروس، باستثناء البلاشفة، سوف يدركون صحة الأطروحة الأساسية لمذكرة الأمس”.
تسببت المذكرة في انفجار تلقائي للسخط الشعبي. نشرت “رابوتشايا غازيتا”:
تفاعلت بتروجراد بحساسية وعصبية. في كل مكان، في اجتماعات الشوارع، في الترام، كانت تدور مناقشات ساخنة ومنفعلة عن الحرب. القبعات والمناديل تنحاز للسلام؛ في حين انحازت قبعات الديربي للحرب. وفي أحياء الطبقة العاملة وفي الثكنات، كان الموقف من المذكرة يعلن عن نفسه في شكل رفض لسياسات الإلحاق.
يتذكر “سوخانوف” جيدا، وهو منشفي وربما أفضل مراسل للثورة الروسية:
كان حشدا هائلا من العمال، بعضهم مسلح، يتحرك نحو نيفسكي من ناحية فيبورغ. كان معهم أيضا الكثير من الجنود. كان المتظاهرون يسيرون تحت شعارات: “تسقط الحكومة المؤقتة!” “يسقط ميليوكوف!” كانت الإثارة هائلة عموما في مناطق الطبقة العاملة والمصانع والثكنات. العديد من المصانع كانت خالية من العمال وكانت الاجتماعات المحلية تُعقد في كل مكان.
ليلة 20 أبريل طلب قادة السوفييت المناشفة من الحكومة إرسال مذكرة جديدة تصحح مذكرة “مليوكوف” بطريقة سلمية. لكنهم في النهاية قبلوا موقف “كيرنسكي” الاشتراكي الثوري بأنه يكفي تقديم “تفسير” للمذكرة.
وعلى الرغم من ذلك، اندلعت يوم 21 أبريل موجة جديدة من المظاهرات، هذه المرة بتوجيه وتنظيم البلاشفة. كانت هذه هي المرة الأولى منذ بداية الثورة التي كان فيها حزب لينين على رأس وليس في ذيل الحركة. وفي الوقت نفسه، نظم الكاديت تجمعا مسلحا لأنصار الحكومة عند نيفسكي بروسبكت. ونشرت رابوتشايا برافدا، عدد 22 أبريل:
يوم أمس في شوارع بتروجراد كان الجو أكثر توترا مما كان عليه يوم 20 أبريل. في أحياء [الطبقة العاملة] وقعت سلسلة كاملة من الإضرابات.. وكانت الشعارات على اللافتات متنوعة للغاية، ولكن رغم كل شيء، كانت هناك سمة مشتركة: في المركز، في نيفسكي، سادوفايا وأماكن أخرى كانت أغلب الشعارات تدعم الحكومة المؤقتة؛ أما في الضواحي، كان الأمر عكس ذلك.. تكررت الاشتباكات بين المتظاهرين من مختلف الجماعات.. وكانت هناك شائعات عن إطلاق النار “.
إحدى النساء اللاتي شاركن في المظاهرات كتبت فيما بعد:
.. تحركت نساء هذه المصانع مع المتظاهرين في اتجاه نيفيسكي على جانب الأرقام الفردية. أما الحشد الآخر فتحرك بشكل مواز على جانب الأرقام الزوجية: نساء أنيقات، وضباط وتجار ومحامون، الخ. وكانت شعاراتهم: “تعيش الحكومة المؤقتة”، يعيش “ميليوكوف”، “أقبضوا على لينين”.
تصاعد التوتر في الأحياء العمالية. أحد عمال المصانع وصف اجتماع ما بعد الظهيرة كالتالي:
كان المزاج متذبذبا.. تم الاتفاق على انتظار قرار السوفييت. ولكن قبل أن يصل ذلك القرار عاد بعض العمال من المركز بأنباء عن اشتباكات جديدة، وتقطيع اللافتات وعمليات اعتقال.. وفجأة تبدل المزاج. “ماذا؟” إنهم يطاردونا في الشوارع، ويقطعون لافتاتنا.. هل سنبقى متفرجين على ذلك بهدوء عن بعد؟ فلنتحرك نحو نيفيسكي!”
في هذا الوضع المتوتر، قرر الجنرال “كورنيلوف” – بدعم من “ميليوكوف” – نشر المدفعية خارج قصر ماريانسكي واستدعاء دعم المدارس العسكرية. كان الهدف هو ربط أقسام الجيش بالتجمع المسلح المؤيد للحكومة الذي انعقد على بعد مئات الأمتار من مظاهرة العمال التي يقودها البلاشفة. في محاولة لإخفاء الطبيعة المضادة للثورة الواضحة في تلك المبادرة، يكتب “ميليوكوف” في مذكراته:
يوم 21 أبريل، أُبلغ الجنرال “كورنيلوف”، القائد العام لمنطقة بتروجراد، بمظاهرات العمال المسلحين في الضواحي، وأمر بتحريك عدة وحدات حماية إلى ساحة القصر. وقد قوبل ذلك بمقاومة من قبل اللجنة التنفيذية للسوفيتات التي أبلغت الموظفين عبر الهاتف ان حشد القوات قد يعقد الوضع. وبعد مفاوضات مع مندوبي اللجنة.. ألغى القائد العام أوامره مع توجيه الجنود بالبقاء في الثكنات. بعد ذلك، صدر منشور عن اللجنة التنفيذية، تم لصقه في الشوارع، جاء فيه: “إلى الجنود الرفاق، لا تخرجوا بالسلاح في هذه الأيام المضطربة دون دعوة من اللجنة التنفيذية”.
حقيقة الأمر، أن اللجنة التنفيذية للسوفيتات – وقد أدركت أن الطابع المناهض للثورة لقرار “كورنيلوف” قد يمثل تهديدا لها أيضا – أعطت الأوامر للقوات بعدم مغادرة ثكناتهم. هكذا وجد “كورنيلوف” نفسه معزولا وبدون أي خيارات أخرى سوى الانسحاب.
كان قادة السوفيتات في مأزق، لذلك سارعت اللجنة التنفيذية بإعلان التوصل الى حل مع الحكومة وطالبت العمال بالعودة إلى ديارهم. علقت “رابوتشايا برافدا” بسخرية أن:
عندما نشرت اللجنة التنفيذية توجيهاتها للجنود بعدم النزول إلى الشوارع وهم مسلحون، بدأ المرء يلحظ مشاهد غريبة، حيث حاول الجنود إقناع رفاقهم بالامتناع عن المشاركة في المظاهرات، مهما كان طابعها. وكثيرا ما ناشد الجنود المدنيين أن يلتزموا الهدوء.
كان “كورنيلوف” قد أكد “لميليوكوف” أن لديه “قوات كافية” لسحق المتمردين، إلا أن هذه القوات لم تظهر أبدا. وكتب تروتسكي: “سوف يصل ضيق الأفق هذا إلى ذروته في شهر أغسطس، عندما ينشر المتآمر “كورنيلوف” ضد بتروجراد جيشا غير موجود”. وبحلول ليلة 21 أبريل، وعلى الرغم من سماع بعض الطلقات، كانت الأزمة السياسية قد انتهت.
في ضوء توازن القوى في أبريل 1917، لم يكن البلاشفة راغبين أيضا في معركة مفتوحة تدفع نحو الحرب الأهلية. ورغم أن حزب لينين لعب لأول مرة دورا هاما في الأحداث، إلا أنه لم يكن مستعدا بعد لقيادة الحركة نحو ثورة جديدة.
كانت السوفييتات لا تزال في طور التماسك وتحت سيطرة المناشفة. وكان رأي لينين أن ثورة جديدة لا تزال سابقة لأوانها، وأن شعار “الإطاحة بالحكومة” الذي أيده بعض البلاشفة كان خاطئا:
هل ينبغي الإطاحة بالحكومة المؤقتة فورا؟.. كي يصبح العمال الواعين طبقيا قوة، يجب أن يفوزوا بالأغلبية .. نحن لسنا بلانكيسيين.. نحن ماركسيون، نحن نقف مع النضال الطبقي البروليتاري ضد سموم البرجوازية الصغيرة.
هدأت الأزمة، لكن شيءا لم يبق على ما كان عليه. وبات واضحا أنه لا يمكن لأي قرار حكومي أن يمر دون موافقة السوفييتات. تحولت إستراتيجية الكاديت والطبقة الرأسمالية بعد ذلك إلى إشراك الاشتراكيين مباشرة في الحكومة. وكان الشرط الرئيسي لإشراك الأحزاب الاشتراكية في مجلس الوزراء هو عزل “غوشكوف” و”ميليوكوف”.
بعد استقالتهما، قدمت الحكومة المؤقتة اقتراحا إلى سوفييت بتروجراد لتشكيل حكومة ائتلافية. وتم التوصل إلى اتفاق يوم 22 أبريل، حيث انضم ست وزراء اشتراكيين إلى الحكومة (اثنان من المناشفة واثنان من الاشتراكيين الديمقراطيين واثنان من الشعبويين). ولم يرفض منصب الوزير سوى “نيكولاي تشخيدزه” رئيس اللجنة التنفيذية للسوفيتات.
كذلك رفض البلاشفة المشاركة، وعوضا عن ذلك استعدوا للمعارك الثورية الوشيكة. في العديد من الجوانب، عززت “أيام أبريل” من ضرورة التنظيم الذاتي للعمال وقواهم المسلحة. على سبيل المثال، قرر مصنع الأحذية “سكورخود” تشكيل قوة الحرس الأحمر من ألف فرد وطلبوا من السوفيتات إمدادهم بخمسمائة بندقية وخمسمائة مسدس.
يوم 23 أبريل، في اجتماع لمندوبي المصنع حول تنظيم الحرس الأحمر، قال أحد المتحدثين: “لقد وضعت السوفييتات الكثير من الثقة في الكاديت. السوفييتات لا تخرج إلى الشوارع. الكاديت فعلوا ذلك. وعلى الرغم من السوفييتات، خرج العمال إلى الشارع وأنقذوا الوضع “.
لقد شدت أيام أبريل من عزم وتصميم عمال وجنود بتروجراد. وكان كاديت “ميليوكوف” الخاسرين على المدى القصير. وظل المناشفة والاشتراكيون الثوريون يسيطرون على سوفييت بتروجراد، لكن ثقتهم في أنفسهم كانت اهتزت. وفي الشهور التالية، زادت حدة الحرب وتعمقت الأزمة الثورية.
#يوري_كولومبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
الإنسان يصنع مصيره: الثورة الروسية بعيون جرامشي
/ أنطونيو جرامشي
-
هل ما زَالت الماركسية صالحة بعد انهيار -الاتحاد السُّوفْيَات
...
/ عبد الرحمان النوضة
-
بابلو ميراندا* : ثورة أكتوبر والحزب الثوري للبروليتاريا
/ مرتضى العبيدي
-
الحركة العمالية العالمية في ظل الذكرى المئوية لثورة أكتوبر
/ عبد السلام أديب
-
سلطان غالييف: الوجه الإسلامي للثورة الشيوعية
/ سفيان البالي
-
اشتراكية دون وفرة: سيناريو أناركي للثورة البلشفية
/ سامح سعيد عبود
-
أساليب صراع الإنتلجنسيا البرجوازية ضد العمال- (الجزء الأول)
/ علاء سند بريك هنيدي
-
شروط الأزمة الثّوريّة في روسيا والتّصدّي للتّيّارات الانتهاز
...
/ ابراهيم العثماني
-
نساء روسيا ١٩١٧ في أعين المؤرّخين ال
...
/ وسام سعادة
-
النساء في الثورة الروسية عن العمل والحرية والحب
/ سنثيا كريشاتي
المزيد.....
|