|
الإيمان الهش... على سبيل النقد لأحد روافد الإلحاد (1)
حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)
الحوار المتمدن-العدد: 5723 - 2017 / 12 / 10 - 18:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ربما لا يلقى ما سيرد في الأسطر التالية القبول لدى الكثيرين من القراء الأفاضل؛ فهو يناقش الإلحاد في أحد روافده نقدًا من خلال إطلالة تحليلية سريعة. ولكن في النهاية هي رؤية للإلحاد وليس من الضروري أن تكون كل الرؤى للإلحاد ذات طابع استحساني؛ فهناك قطاع عريض في العالم العربي لا يزال يرفض الإلحاد ولأسباب موضوعية. ومن هذا القطاع تنبع تلك الرؤية.
مقدمة أحدثت ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث سياسية تفوق الحصر الكثير من الحراك في الواقع المصري على كافة المستويات؛ فأبرزت الثورةُ الكثيرَ من الإيجابيات، وسلطت الضوء على العديد من السلبيات. ليس من شأن هذه السطور أن تناقش ما جرى في ثورة يناير وما تلاها ولا أن تناقش فكرة ما إذا كانت ثورة من الأساس أم لا، ولكن هذه الفقرة التقديمية كانت ضرورية؛ لأن الثورة كما أبرزت الإيجابيات والسلبيات؛ فقد أفرزت أيضًا العديد من الأمور الإيجابية والسلبية. ومن بين أهم الأمور السلبية التي أفرزتها ثورة يناير يأتي الإلحاد. أدت الثورة وما تلاها من اضطراب سياسي شديد وانقسام اجتماعي عميق إلى شيوع حالة من عدم اليقين؛ عدم اليقين مما هو قادم، والتشكك في الثوابت والأساسيات. تسببت الثورة في زعزعة الكثير من القيم التي لطالما احتلت مركزًا متقدمًا في سلم أولويات المصريين. كذلك فقد أدت التحولات والتبدلات في المواقف السياسية للكثير من الرموز السياسية والاجتماعية في فترة ما قبل الثورة إلى شيوع حالة من التشكك إزاء ما يمكن أن تأتي به الأيام في ظل التحولات الحادة التي راح يمر بها المشهد المصري بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والفكرية وغير ذلك من الأبعاد ما بدا منها مهمًا أو هامشيًّا. ولم يكن اليقين الديني بمنأى عن هذه الضربات؛ فقد نال منها الكثير، وما ساهم في زيادة حدة هذه الضربات ما حدث من تصدر لحركات الإسلام السياسي المشهد في مصر، وما بدر منها على المستويين الفردي والجماعي من أخطاء فادحة إلى جانب الحملة التي تعرض لها التيار الإسلامي ككل بعد حراك 30 يونيو، وهي الحملة التي تسببت بشكل أو بآخر، بالإضافة إلى ممارسات أنصار التيار الإسلامي أنفسهم، في المساس لا بصورة الإسلام السياسي فحسب، ولكن بالإسلام كدين. كل هذا أدى إلى أن بدأ تيار الإلحاد في السريان ببطء في بعض الروافد داخل المجتمع المصري. لا يزال التيار بسيطًا، وليس من المحتمل أن يتفاقم حتى يفيض على ضفاف روافده. لا تكمن المشكلة في تيار الإلحاد، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أحد روافده، وهو الرافد الذي يمكن أن يطلق عليه مسمى "الإيمان الهش"، وهو الرافد الذي بدأ في التنامي لدرجة يمكن أن يصبح معها تيارًا في ذاته منفصلًا عن الإلحاد الصريح، وإن كان أشد منه خطورةً لما له من تداعيات سلبية على الممارسة المجتمعية في مصر. في الأسطر التالية سوف أحاول إلقاء الضوء على ماهية هذا "الإيمان الهش"، والعوامل التي أدت إلى تواجده في مجتمع يُصَنَّفُ خارجيًّا على أنه محافظ، ويُصَنَّفُ داخليًّا على أنه "متدين بالطبع" لا بالتطبع، بالإضافة إلى تداعيات هذه "الهشاشة الإيمانية" على الممارسة المجتمعية في البلاد، مع التأكيد على أن الهدف ليس تقديم حلول، ولكن مجرد إلقاء الضوء على حقيقة مجتمعية باتت واضحة لكل متأمل مهتم. ولكنني ألفت النظر إلى أن هذه أفكار مرتبة في نسق متجانس تأسست على وقائع ملموسة، ولكنها في النهاية لا ترقى إلى مستوى الدراسة الموضوعية، ولكنها تعلو قليلًا عن مستوى الانطباعات الذاتية. ****** ما الإيمان الهش؟! الإيمان الهش ليس إلحادًا، ولكنه إيمان بما هو قائم لعدم وجود البديل؛ إيمانٌ إلى حين أو إيمانُ الاضطرار، إن جاز التعبير. هو ليس إلحادًا؛ لأنه في نهاية الأمر إيمان، ولكنه هش وقابل للكسر عند أول ارتطام بصخرة فكرية لا يستطيع العقل تفتيتتها أو تجاوزها أو حتى الالتفاف حولها. هو إيمان أقرب إلى اللاأدرية المنتشرة في المجتمعات الغربية، والتي لا يستطيع متبنوها أن يجزموا بما إذا كان الله تعالى موجودًا أم لا، ولكنه إيمان لم يتردد في القبول بفكرة وجود الله تعالى مع التشكك في كمال الذات الإلهية تعالى الله عما تصف ألسنتهم. ينبع هذا الإيمان من عدم نضوج فكرة الصفات الإلهية في العقل هش الإيمان بخاصة صفتي العدل والرحمة. نرى حولنا الكثير من المظالم التي يتعرض لها بنو الإنسان من كل جنس وفي كل مكان؛ فتثور الأسئلة في العقل هش الإيمان من قبيل "كيف يترك الإله الرحيم هؤلاء البشر يتعذبون؟ كيف يصمت عن كل هذه المظالم؟!" تعالى الله عما يصفون. فإذا جاء الرد بأن هذا من قضاء الله تعالى وقدر، تردد سؤال جديد: "وما ذنب هؤلاء كي يتعذبوا ويعانوا؟!"، وعندما يكون الرد بأن هذا الابتلاء الذي تعرضوا له هو جزء من رزقهم المقسم بين الدنيا والآخرة، يتردد العقل هش الإيمان في قبول الفكرة؛ لعدة أسباب على رأسها عدم اليقين بأن الحياة الدنيا مجرد ممر إلى الآخرة، وأن الصبر على الابتلاء في الدنيا له جزاء في الآخرة، ويقول إن فكرة الثواب الأخروي جزاء الصبر الدنيوي هذه "مجرد مسكنات" لتبرير المظالم والسكوت عليها لعدم القدرة على دفعها. وعندما يأتي الأمر إلى السؤال: "هل تشك في الآخرة؟!" تكون الإجابة بالنفي القطعي والتأكيد على أنه مؤمن بالآخرة وبأن الله تعالى موجود وله حكمة في كل ذلك، ولكن... مع التشديد في الوقت نفسه على عدم القدرة على القبول بفكرة أن الله تعالى يبتلي الإنسان بمظالم في الحياة الدنيا على أن يكافئه بالجنة في الآخرة جزاء صبره. هو إذن ليس إلحادًا ينكر وجود الإله، بل هو إيمان، ولكنه إيمان هش؛ إيمان بالله تعالى ولكن دون اقتناع ببعض من صفاته ووعوده الأخروية جل وعلا مع انتظار البديل المقنع، إن جاء. وإن لم يأتِ، فليبق الحال على ما هو عليه؛ أي أنه إيمان إلى حين، أو إلحاد قيد الانتظار. الغريب في هذا العقل هش الإيمان هو أنه لم يبذل في حل المشكلة قدرًا من الجهد يوازي ما بذله في توصيفها والبرهنة على وجودها علمًا بأنه هو أول المتضررين من وجود تلك المشكلة، وبالتالي يتعين عليه أخلاقيًّا وموضوعيًّا أن يبحث لها عن حل، أو على الأقل يساعد من يبحث عن حل للمشكلة باذلًا القدر نفسه من الجهد الذي بذله لتأطير المشكلة؛ فالحكمة الدارجة تقول إن على المرء أن يكون جزءً من الحل بدلًا من الاكتفاء بأن يكون جزءً من المشكلة. لكن العقل هش الإيمان يضرب بهذه المقولة عرض الحائط، ويصر على تكريس المشكلة وإظهارا بل تضخيمها دون السعي إلى إيجاد حل لها، أو على الأقل مساعدة من يسعى لإيجاد حل. إذن، السبب المباشر في هذه الهشاشة الإيمانية هو عدم وضوح مفهوم الصفات الإلهية والكمال الإلهي في العقول، وعدم تجذر فكرة الله الخالق الحكيم العليم في النفوس. وفي ظل تشوش الأفكار وسطحيتها، تنشأ تربة خصبة ينمو فيها التشكك وعدم اليقين؛ ما يقودنا في النهاية إلى الموضوع الذي تناقشه هذه السطور، وهو الإيمان الهش. وهنا يثور تساؤل مشروع: لماذا هشَّ الإيمان؟! للإجابة محاور كثيرة نلقي الضوء عليها في المرة القادمة بإذن الله.
#حسين_محمود_التلاوي (هاشتاغ)
Hussein_Mahmoud_Talawy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شفيق يترشح للرئاسة... مرشح ل-الفلول- في انتخابات الدم
-
عندما مات النهار...
-
وضربوهم وهم يصلون... في بئر العبد
-
طبق من ورق العنب
-
أمطار...
-
جمهورية العبيد
-
عبد الحليم... صوت مصر إذ يخفت وسط صخب الانفتاح...
-
مصر... هل تسير على الخطى الروسية؟!
-
الكاتب الذي طار في الهواء...
-
حنان الصناديدي في -آنست نورًا-... في فن البوح
-
دولة الأقوياء... هل أصاب لينين؟!
-
الدرب المضيء... هل لا يزال مضيئَا؟!
-
تجليات خماسية
-
الانسحاق... بين توصيف لينين... ومسكنات الرأسمالية... وبراد م
...
-
طليعة لينين... لماذا لم تأت إلى ميدان التحرير؟!
-
خماسية
-
ما انتبه إليه ماو... واستغله الفلول... ولم يفهمه -الثائرون-.
...
-
حلب، السويس، ستالينجراد... كفاح المدن... وصمود الإنسان
-
في التناقض... والحالة المصرية...
-
ما انتبه إليه لينين... ولم يره المصريون...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|