- الدنمرك
مسيحيو البصرة من الاقليات المعتبرة في هذه المحافظة ومن ابنائها منذ اقدم العصور. تعرضوا الى التمييز الديني والسياسي من قبل الحكام الغرباء للعراق. امتازوا بالجد والاخلاص في المعاملة والانفتاح في علاقتهم الاجتماعية. وقد ظهر منهم الكثير من المفكرين والثوريين ورجال العلم والثقافة. ما يزال يدفع احرارهم ثمن الكلمة الشريفة المقاومة للتميز العنصري والديني. المقالة مكرسة لذكرى زكي زيتو، رجل مسيحي من هذه المدينة.
قبل الحديث عن زكي زيتو لابد لي من مقدمة عن البصرة ….
ادهش ما في البصرة هو نظام شط العرب الاروائي الذي يسقي ملايين النخيل عبر ملايين من قنوات الري الطبيعية التي صنعها (علوج النبط ودهاقنة السواد) كما يسميهم تراثنا الاسلامي، علوجاً كانوا او لا فهم اهل العراق من اول منبت، فلاحين وعمال ارض طالما شيدوا حضارة مابين النهرين طيلة آلاف السنين ضمن نظام طبيعي ازلي انشأه اول حب عرفه الانسان للطبيعة وللارض عجنته الارباب السومرية في لحمة البصرة ومع ترابها منذ طوفان نوح (ع(.
ونظام الارواء الفريد هذا يعتمد على ظاهرتي المد والجزر اليوميين لشط العرب الذي لم يتوقف يوماً على مدى تاريخها القديم ليسقي غابات النخيل الهائلة على ضفتيه المرتبطة بمئات من الاقنية الفرعية التي ترتفع فيها المياه العذبة أثناء المد والآتية من هذا النهر الذي اتحدت فيه دجلة والفرات بمكان ليس ببعيد عند مدخل البصرة الشمالي في نفس المكان الذي نزل فيه سيدنا آدم الى الارض حسب الاسطورة الشعبية المتوارثة والتي تؤكدها سدرة النبق الضخمة التي مازال اهل البصرة يتكرمون بها وينذرون نذورهم لها ويسمونها شجرة سيدنا آدم. ولاشك فان منظومة الارواء هذه لم تخل من جهد وحس هندسي كبير كان ثمرة اتحاد منجزات تطور العلوم السومرية وقدرة الآلهة كأنليل اله الماء التي آمن بها عراقيو ذلك العهد وليس لنا أن نلومهم بها عليها لاننا لم نستطع ولحد اليوم ان ننجز انظمة اروائية ارقى من انظمتهم او ان نستطيع ان نستصلح اراضي زراعية اكثر منهم رغم اننا نمتلك من المنجزات التقنية والمادية اكثر ومن القيم الدينية الرفيعة ما يفوق تلك المبادئ الوثنية (الحجرية)، وكل ما فعلته انظمة الجباية التي تعاقبت على العراق منذ سقوط بابل وحتى اليوم هو التدمير المنظم لانظمة الحضارة الزراعية التي انشأها هؤلاء والتي تقوم عليها اساس الحياة في العراق.
فـ (نركال) اليوم اله الموت والطين قد حول مياه شط العرب العذبة الى مياه مالحة، واصبح الحصول على مياه الشرب الصالحة واحدة من المشاكل اليومية المستعصية لمواطني البصرة في عصر التقدم الايديولوجي، ولا تستطيع كل اقلام الادب أن تصف حزن اهل البصرة وهم يرون النخيل الباسقات قد طأطأت رؤوسها وخوت من الداخل وهي تتغذى على الملوحة، ولكن ان لـ (نركال) البدوي التكريتي الجلف أن يعي ويحس بهذا الالم والحزن العظيمين لانه لم يذق يوماً سعادة قيلولة الظهيرة تحت فيئ برحية تنشر له اجنحة سعفاتها لتظلله من حرارة آب اللهاب، ولانه شأن غزاة البدو الاجلاف المنتصرين لايعرف من الحياة بعد الغزوة البدوية سوى القشور المادية من قصور ورياش وأثاث ومرمر التي لم يكدح من اجل الحصول عليها وهي تملأ حياته بالنشوة الفارغة الكاذبة وتطفئ ظمأ عقده النفسية.
لقد أسقطت البصرة عمداً من التاريخ، ولم يتحدث التاريخ المكتوب عن اصل هذه المدينة السومري ومساهمتها في الحضارة الاكدية البابلية جنباً الى جنب اختها ميسان العمارة، بل يتحدث عن البصرة التي أسسها الصحابي عتبة بن غزوان بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب كمعسكر حربي للمسلمين، وتم تجاهل دورها الاقتصادي والتجاري كعاصمة للتمر والحبوب والتجارة البحرية وقلص هذا الدور الى الدور العسكري فقط وصارت البصرة واحدة من الامصار، واصبحت البصرة لا تُعرف الا من النقطة التي انطفأ فيها التاريخ. ولكن مؤرخي التاريخ المكتوب لم يستطيعوا ازالة شط العرب من الذاكرة الشعبية التي حفظت لنا بان الامام علي وهو في طريقه لقتال اهل الجمل قد صلى على ضفة شط العرب المطلة على العشار في مكان شيد عليه فيما بعد مقام له لايزال فقراء البصرة يتبركون بزيارته وطلب الشفاعة اليه. وليس ببعيد من هذا المكان يقف ضريح عبد الله بن علي الهادي احد احفاد الامام واحد ضحايا الاختيار السياسي في التاريخ العباسي راسخاً متشبثاً بالتاريخ بقوة رغم جهود بلدية البصرة المكثف لازالته من الطريق العام ومن ذاكرة البصرة وقد دأبت صبايا العشار بزيارته حاملات له نذور احلام المستقبل، وحفنة من امانيهن التي لايقدر لها ان ترى النور في مجتمعنا الذكوري.
والبصرة اليوم مدينة الكآبة والبؤس والتمييز الطائفي، ولم تعد ثغر العراق الباسم كما كانت قبل عقدين من الزمن لان اجلاف البدو حولوها الى بوابة (شرقية)، للغزو الليلي الغادر ضد مضارب الاخوة والجيران.
للبصرة وجوه عدة: المساجد والاضرحة الاسلامية، الكنائس المسيحية، تشكيلة اهلها المختلفة من عرب مسلمين، وسريان مسيحيين، وصابئة مندائيين، ويهود، واكراد وتركمان وداغستانيين وافغانيين وغيرهم مشكلين فسيفساء فريدة حوت كل الوان وثقافات أبناء العراق الذين وجدوا لهم في البصرة مستقراً دائماً، هذه الفسيفساء الجميلة التي تطالع كل من يدخل الى البصرة، ويتجول في انحائها فيرى مدارس تحمل اسماء عربية طلابها من غالبية المسلمون بمدرسين مسيحيين، وعندما يدلف الى زحمة اسواقها يرى تجاراً يهود، خياطين ارمن، عمال اكراد، حلاقين باكستانيين، بائعي خضار حساوية، خبازين ايرانيين، صاغة ذهب صابئة، بائعي كبة من القوش وتلكيف، ليس من بينهم من يعير غيره بصنعة الاصل والفصل. لم يكن هؤلاء قبل عام الطوفان بحاجة الى بطاقات انتماء حزبية او الى شهادات جنسية عثمانية تثبت او تنكر عراقيتهم، تحرمهم ام تمنحهم الحق بالانتماء الى بقعة الارض هذه. هذا الخليط البشري النادر المتناقض الذي يجتمع كل يوم مع مشتركات بصرية عديدة: المسجد، الكنيسة، شط العرب، العرق المسبح، والمنشور السري.
البصرة هذه المدينة المهملة في التاريخ، قدرها قدر تلك سمكة الصبور المأكولة والمذمومة كما يقول اهل البصرة، دافعة الخراج دائماً لولاتها القدامى والجدد ومانحة حاكمها الظالم القديم والجديد ايضاً زاد حروبه من زهرة الشباب. ليس لهذه المدينة من رئة تتنفس منها غير شط العرب، ولا من رافد يشفي غليلها غير هذا النهر كنفحة من جمال الطبيعة يدين اهمال الولاة الغرباء لهذه المدينة الكارهين لها والذين طالما عاقبتهم البصرة بحرها الرطوبي الشديد والذي لا يطيقه ولايعتاد عليه سوى اهل البصرة الصابرين.
وما دام الحديث يدور عن البصرة فلابد ان نتوقف قليلاً عند احدى شخصياتها المعروفة وهو "زكي زيتو" .. رجل مسيحي من اهل البصرة قلباً وقالباً، نشأ نشأة عصامية منذ نعومة اظافره، معتمداً على نفسه في بناء حياته، وقد ساعده ذكائه المفرط وكفاءآته العملية على تحقيق نجاحات في عالم التجارة. فاصبح تاجراً كبيراً بالكد والحلال. ورغم ثرائه الكبير فلم يكن زكي زيتو مترفعاً او متكبراً على بقية خلق الله، بل كان انسانا متواضعاً، دمث الخلق رقيق العاطفة، يعرفه جيداً كل من عمل معه بانه رجل جاد ونزيه وكريم. ولا اظن احداً من اهل البصرة لا يعرف زكي زيتو، فمحله الكبير لبيع الادوات الكهربائية والثلاجات يقع في قلب العشار في بداية سوق حنا الشيخ الصغير، في مكان لايمكن تجنبه سواء في الدخول او الخروج من هذا السوق الكبير. وككل اثرياء البصرة فقد كان زكي زيتو يسكن منطقة 14 تموز التي تشابه منطقة المنصور البغدادية، وقد منحه القدر زوجة رائعة هي مثال الام الرؤوم والخلق القويم، وقد نشأت في منطقة العشار في اسرة مسيحية محترمة متوسطة الحال. ولم يعن لهما التفاوت الملحوظ بين عمريهما شيئاً البتة، حيث كانا اسعد زوجين على الارض.
لقد كانت جورجيت اماً عطوفاً وامرأة خلوقاً، شقراء على غاية من الجمال، أهلها جمالها لأن تفوز بمسابقة ملكة جمال العراق لعام 1957. لقد اجتاز الزوجان – مثلهما مثل الاف الازواج الآخرين في البصرة – اجمل مراحل حياتهما بدون ان ينغص عليهما أي منغص حتى عام الطاعون … حيث بدأت السماء والارض تكتسيان بلون رمادي لم يعهده اهل العراق من قبل ..
شرذمة صغيرة من الاشقياء قامت بسرقة قصر الدولة الجمهوري والاذاعة على غفلة من الزمن، واستحلت البلد والناس نيام بعد حر يوم من ايام تموز اللاهب..
بعدها بدأت سيارات مجهولة بدون ارقام تطوف البلد الآمن ليلاً، وتدعي حماية المواطنين في البصرة، بلد الامان والسلام من مجرمين موهومين مطلوبين للعدالة. مسلحون يحملون سحنات كريهة غريبة لم يعهدها اهل البصرة من قبل، يتحركون في وضح النهار بمسدسات ضخمة تلوح من وراء اقفيتهم.
واصبح الحديث عن جرائم بشعة ارتكبت على كل لسان، وشعرت البصرة واهلها بان عهد السلام والوئام يشرف على الغروب … فبدأ الخوف الغريزي المزروع في عمق الانسان يترك أثراً واضحاً في نفسية اهل البصرة بمن فيهم زكي زيتو … سيما وان الراديو العراقي بدأ يتحدث بلغة جديدة لم يألفها الناس من قبل … كان الجهاز الكريه يعلن حربه على جميع القيم التي آمن بها العراقيون، ويعتبرها باطلة ما لم تكن تتلائم وايديولوجية الطاعون، حيث بدأت اذاعة الطاعون تتوعد اهل السواد وعلوج النبط بالجراد الاصفر الآتي من مناطق اعالي دجلة ليثأر من "الغرباء" "والعملاء" ومن كل من لم يرتدي سحنة هذه المنطقة.
كان الحرامية القادمين من شمال دجلة منهمكين على عجل باعداد قائمة الاعداء والاصدقاء التي لم تستثني احداً من اهل البصرة: شيعة شيوعية شعوبية شروكية عملاء لايران، آشوريين، آثوريين مسيحيين عملاء للانكليز، يهود عملاء لأسرائيل، هنود، باكستانيين، بلوش، ارمن، اكراد فيلية، عرب من ربيعة وغيرهم … للطرد وللتسفير … والقائمة تطول … واصبح اهل البصرة منذ ذلك الحين بحاجة الى اوراق ثبوتية عثمانية، والى بطاقات انتماء الى حزب الوالي تحرمهم او تمنحهم حق الانتماء الى ارض الاجداد …
كان زكي زيتو يصغي بقلق الى مفردات اللغة الاذاعة الجديدة كل الجدة على اخلاقييات اهل البصرة وقيمهم، ويرقب أثناء جلوسه في محله الكبير تلك الوجوه الجديدة الكريهة التي تمرق من امام زجاج محله الكبير وترمق احيانا محتويات متجره بنظرات مطولة تخلو من ذلك الفضول الغريزي للشراء شم فيها زكي روح الذئب المتعطش للدم والمختفي وراء السحنة الآدمية. لم ينتب الخوف زكي زيتو في حياته كما انتابه الآن، لا لانه قد ارتكب اثما في حياته، بل من ذلك الاحساس الغريب بالخطر الداهم على حياته وعلى زوجته واطفاله والمستقبل الموحش الذي ينتظرهم.
في صباح يوم كئيب من ايام شهر تشرين الاول بعد عام من حلول الطاعون، عاد زكي الى المحل متأخرا بعض الشيء، كما هي العادة وقت الضحى، حيث كان يترك الى صانع المحل "جبار" مهمة التفتيح والاغلاق. وما ان خطى زكي زيتو اول خطوة الى المحل حتى بادره جبار ممتقع الوجه ليقول له بان هناك من ينتظره في مكتبه .. من يكون هذا يا ترى؟ … وما ان دلف الى مكتبه حتى طالعه وجه لشاب صغير السن بعينين وقحتين قالتا لزكي بدون مقدمات انه ملزم بمراجعة السيد مدير الامن "لحوار شخصي" .. وهكذا فعل. وعند وصوله الى دائرة الامن الكريهة القريبة من محلة الساعي ادخل الى مدير الامن فوراً الذي استقبله ببشاشة كاذبة وبأبتسامة صفراء، قائلاً بلهجة منافقة ان "الثورة" تملك اعترافات من شركاء له بشبكة تجسسية لحساب جهة أجنبية، ولكنه طمأنه على هذه الاعترافات هي للوقيعة به ليس الا … ويكفي مبلغ عشرة الاف دينار لاسكات الافواه الثرثارة وانهاء القضية الى الابد. كان وقع هذه التهمة على زكي كالصاعقة لكنه تمالك جأشه بسرعة ولم تبد عليه بوادر الهلع لانه برئ اولا، وثانيا لأن زكي كان يستند الى ثقله الاجتماعي ووزنه في الاوساط البصرية وعلاقاته الوثيقة بدوائر المحافظة فوجد من المناسب ان يتحدث بقوة ووثوق دفاعاً عن نفسه، فتغير وجه "السيد" مدير الامن، وبدأ يتحدث مع زكي بلهجة التهديد والوعيد وانذره بان عائلته هي الاخرى سوف لن تنج من العقاب ان لم يخضع للابتزاز…
كان زكي بعد خروجه من مديرية الامن يعتقد بان في مقدوره بان يستخدم نفوذه مع المحافظ او احد نائبيه، اذ ان تهمة بائسة كهذه لا يصدقها حتى المجانين، ولكن ذلك كان محض اوهام، لان مصير زكي زيتو قد حسم مقدماً، ووضع اسمه في قائمة "اعداء الثورة" الى جانب شخصيات بصرية كبيرة رفضت هي الاخرى ان تستجيب للابتزاز …
ايام بعد ذلك اختفى زكي، وفوجئ الناس المعتادين على المرور من قبالة محل زكي زيتو الضخم بان المحل قد أغلق بالشمع الاحمر … لقد كانت الاذاعة الجمهورية تقرع طبول الحرب على الجواسيس والعملاء الذين اخترعهم خيال الجلاد من العدم، وتلوث سمعة المئات من اشرف ابناء الشعب العراقي بتهمة العمالة للاجنبي …
سيق زكي زيتو الى قصر النهاية في بغداد الذي تحول الى مصنع غير رسمي للعذاب يشرف عليه الاوباش القادمون من شمال بغداد، حيث قضى نحبه في احدى زنزانات التعذيب على يد تلاميذ ناظم كزار.
وطلعت علينا الاذاعة الرسمية بسيناريو سخيف ومتهافت عن القضاء على شبكة للتجسس كان زكي زيتو احد اعضائها الى جانب يوسف زلخة التاجر اليهودي البصري الثري، والحاج عبد الحسين جيتا اكبر مصدر للتمور في البصرة، تاجر شيعي معروف جداً، وعبد الهادي البجاري المحامي الملكي المعروف. وكانت جريمتهم التي اعترفوا بها تحت ضغط "عدالة" الطاغية الصغير كزار هي تزويد اسرائيل بمعلومات عن الجيش العراقي، ليس حباً باسرائيل بل بالثمن الذي يحصلون عليه لقاء هذه المعلومات، والثمن المعلن هنا هو خمسون ديناراً للتقرير الواحد !
وكانت التقارير هذه تبث من جهاز لاسلكي قد "عثر" عليه في الكنيسة الكبيرة القريبة من شط العرب بمحاذاة بيت المحافظ!
من يصدق تهمة ساذجة ومتهالكة كهذه؟ هل يعقل ان يقوم اثرى اثرياء البصرة وهم يملكون الالاف المؤلفة ببيع ضمائرهم بهذا الثمن الرخيص والبخس، ويعرضون انفسهم للخطر؟ كلا بالطبع، لم يصدق احداً هذه الحيل الدنيئة "لمحكمة الثورة" رغم انها انطلت على العديد من السذج والانانيين الذين حضروا الى العرس الدموي الذي اقامته سلطة شمال دجلة للمحكومين في ساحة ام البروم العامة في فجر يوم كالح مرعب للتفرج ببرودة دم قاتلة على "العملاء" المعلقة اعناقهم، ولم تكن هذه سوى البداية … لأن محرقة الموت بدأت تشتعل وسوف يساقون اليها كالنعاج.
هل كان ذلك من محض الصدف ان يتم اختيار هؤلاء الناس في حلقة واحدة؟ كلا! لقد اتضحت الصورة والمخطط الآن … لقد انتقى الجلاد ضحاياه بدقة وبحس سياسي وطائفي يهدف القاء الرعب في نفوس الناس، والقضاء على ممثلي مراكز النفوذ التقليدية لثلاث من أهم الطوائف الدينية المؤثرة في هذه المدينة، وهم الشيعة والمسيحيين واليهود .. واعطاء درس للجمهور بأن لا سلطة اخرى اعلى واقوى من سلطة شمال بغداد، وان الشيعة واليهود، والآشوريين المسيحيين .. من الآن فصاعداً هم أعداء الثورة، وهم المستهدفون … واذا كانوا كذلك فمن سيبقى في البصرة اذن ؟
وللاسف الشديد انطلت الحيلة ايضاً حتى على جهابذة احزاب المعارضة السياسية التي لم تنبس ببنت شفة ازاء هذه الهمجية المنقطعة النظير، ولم تنتقد هذه الطرق الوحشية في التعامل مع الابرياء بل وقفت مع الجلاد ضد "العملاء" بدون ان يسائلوا انفسهم هل هناك من ضمانة بالا سوف يساقوا هم انفسهم غداً الى نفس المصير؟ لقد حدث هذا بالضبط .. لقد دفعوا ثمن لا اباليتهم وسكوتهم تجاه ضحايا الجريمة الاولى، فكانوا هم الضحية التالية التي قدمت على طبق للجلاد ليرتوي منها واحداً بعد آخر. لقد كان من الاحرى بهؤلاء ان يساعدوا جيرانهم في اطفاء الحريق حتى لا تصل النار على الاقل الى بيوتهم، لكنهم بقوا ساكتين يتفرجون عليها وهي تلتهم بيت اخوانهم، ظناً منهم بان النار سوف لن تصلهم … وعندما مسهم الضر، ووصل نصل السفاح الى رقابهم ارتفعت عقيرتهم بالصياح، وتذكروا عندها مأساة زكي زيتو ويوسف زلخة قبلهم .. ولكن ... بعد خراب البصرة، وكيف سكتوا عنها سكوتاً مخجلاً، بل وحتى اطروها وشمتوا بالشهداء … وحتى يكون لحديثنا هذا من نهاية نقول بقت جورجيت الثكلى، المفجوعة بزوجها الحبيب الذي لم يعد الجلادون جثته اليها، اتقى من تقولات وتشويهات حزب الوالي، وكان يكفيها ان ينظر اليها الناس بتعاطف مع محنتها وقد منعت من اقامة القداس على روح الشهيد استهتاراً وانتقاماً من زكي زيتو الذي ابى ان يخضع للابتزاز. بقت جورجيت سنيناً طويلة كسيرة الجناح لكنها شامخة لا تبارح الثياب السوداء تحديا للاوباش، ووفاء منها للشهيد، مخلصة لذكراه، تنتظر يوم الثأر من قتلته لتنزع عنها اثواب الحداد. وقد جاء هذا اليوم في شهر آذار من 1991 حيث ثأرت البصرة في انتفاضتها من صغار قتلة زكي زيتو، ولكن رأس الافعى بقي سليماً … في انتظار ان يتهشم قريباً لتعود الفرحة لجورجيت وليزول عنها حزنها وحزن البصرة. ●