|
القوة العالمية الثالثة
نضال العبود
الحوار المتمدن-العدد: 1472 - 2006 / 2 / 25 - 07:52
المحور:
المجتمع المدني
بعد أن كان العالم تتحكم فيه قوتان عالميتان عظيمتان هما الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفييتي أصبح على ما يقوله نيكانور بيرلاس Nicanor Perlas - رئيس مركز التنمية البديلة – في مقال نشره في المجلة الألمانية " "INFO3 بعنوان "المجتمع المدني – القوة الكوكبية الثالثة – انهيار مخطط منظمة التجارة العالمية في سياتل" - توجهه الآن ثلاث قوى هي : المصالح الاقتصادية الكبرى و الحكومات القوية و المجتمع المدني الكوكبي.
و فكرة المجتمع المدني ليست بالجديدة فقد تكلم عنها " ألكسيس دو توكفيل" منذ قرنين في عمله الشهير (الديمقراطية في أمريكا)، فقد اعتبر المؤلف في كتابه بأن المجتمع المدني الذي يقوم على مشاركة المواطنين بطريقة فعالة في تكوين جماعات طوعية تهدف إلى تحقيق الصالح العام هو العلامة المميزة و البارزة في التجربة الأمريكية . و لم يلبث الاهتمام بإحياء الفكرة أن عاد بعد الحرب العالمية الثانية و الذي بلغ ذروته ابتداءً من التسعينات نتيجة لازدياد الاتجاه نحو الديمقراطية و تمرد الشعوب على الحكومات الديكتاتورية و نظم الحكم الشمولي بكل ما ينطوي عليه من طغيان و فساد. حتى أن فقدان الثقة في حكومات العالم الغربي بما في ذلك أمريكا و التمرد على ابتزاز الشركات الكبرى للطبقات و الشعوب الفقيرة أعطت المجتمع المدني و مؤسساته زخماً قوياً كأداة لمواجهة غطرستها و نهمها المادي الذي لا تقيده حدود.
و المجتمع المدني يشمل – كما يرى الكثيرون – كل التنظيمات و المؤسسات المستقلة عن الدولة بما في ذلك الأحزاب السياسية و النقابات و الاتحادات العمالية و المهنية بل والنوادي الرياضية و الاجتماعية و اتحادات الطلاب و المؤسسات الثقافية و التنظيمات الدينية و الحركات الاجتماعية ، مما يدل على مدى اتساع و تنوع الأنشطة و الخدمات التي يقوم بها المجتمع المدني و الدور الذي يؤديه للارتقاء بأعضاء الجنس البشري بوجه عام ، و ذلك فضلاً عن دوره في ممارسة الضغوط على الدولة للاهتمام بتلك الأمور إلى جانب المطالبة باسم الشعوب بالمشاركة في اتخاذ القرار و تنفيذه تحقيقاً لمبادئ الديمقراطية و أصول الحكم الديمقراطي. فأنشطة المجتمع المدني أنشطة طوعية تختلف عن أنشطة الحكومات، كما أنها تختلف عن الأنشطة الاقتصادية و المالية المتعلقة بآليات السوق لأنها تبحث وراء الخير و الصالح العام و ليس وراء الربح المادي.
إن النظام الديمقراطي يساعد و يشجع مؤسسات المجتمع المدني على أداء رسالتها ، و لكن ليس من الضروري أن يؤدي وجود الديمقراطية في أي دولة إلى قيام مجتمع مدني قوي في تلك الدولة. فلقد عرفت الديمقراطية طريقها إلى اليابان منذ أكثر من نصف قرن و مع ذلك فإن إنجازات المجتمع المدني فيها تعتبر ضعيفة في بعض المجالات التي يعطيها الغرب كثيراً من اهتماماته و في مقدمتها مشكلة البيئة و وضع المرأة. و يمكن أن يعزى ذلك إلى الفروقات الثقافية بين المجتمعات التي تجعلها تهتم بهذا الجانب أو ذاك. و قوة المجتمع المدني و اتساع نشاطاته تتعلق بمدى القرب أو البعد بين الدولة من جهة و المجتمع من جهة ثانية و طبيعة العلاقات بينهما، و بمدى استجابة الدولة لمتطلبات أفرادها ، فالمشاركة الطوعية الشعبية في فرنسا أقل من المتوقع بكثير ، إذ تتضاءل فيها إسهامات المجتمع المدني مقارنةً مع ما تقدمه أجهزة الدولة من خدمات للأهالي في مختلف جوانب الحياة ، و هو وضع يختلف عن الحال في الولايات المتحدة حيث تضطلع المؤسسات الشعبية بكثير من المسئوليات في مجال الخدمات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية التي يفترض أن تقوم بها الأجهزة الرسمية.
مهام المجتمع المدني
تختلف مهام المجتمع المدني في الدول التي حققت ديمقراطيتها عن باقي الدول ، ففي البلدان الديمقراطية يلعب المجتمع المدني دوراً كبيراً في سد الفجوة التي تتركها الدولة بدون معالجة ، و الرأي السائد في هذه الدول أن تعضيد المجتمع المدني و العمل على تقويته و تفعيل أنشطته هي أفضل وسيلة للارتقاء بالأداء الحكومي نفسه، فقد حققت تلك المنظمات نجاحاً عجزت عن تحقيقه الأجهزة الحكومية في بعض المجالات، و لذا فإن أنشطة المجتمع المدني تتكامل و لا تتعارض مع وظيفة الدولة من حيث العمل على المحافظة على الأمن الاجتماعي و التنمية السياسية و التقدم الثقافي و الازدهار الاقتصادي و احترام آدمية المواطنين. إلا أن مشاعر الامتعاض بدأت تتصاعد في أوساط الحكومات الغربية و خاصة أن نشاطات منظمات المجتمع المدني بدأت تتعارض مع مصالح الفاسدين فيها. ففي الولايات المتحدة الأمريكية ذات التاريخ الطويل في مؤازرة مؤسسات المجتمع المدني و تشجيع المشاركة الشعبية على كل المستويات كعلامة مميزة للديمقراطية الأمريكية و المجتمع الأمريكي المفتوح، بدأت تتغير مواقف حكوماتها إزاء كثير من الأحداث السياسية و الاجتماعية التي كانت أموراً عادية فيما سبق و يؤخذ عليها ملاحقتها المستمرة لأصحاب الفكر المتحرر أو المناوئ للسياسة الأمريكية الرسمية، و حجب الكثير من المعلومات التي تعتقد أنها في غير صالح كبار المسئولين و أصحاب القرار. و توضّح ذلك أكثر في خفض تمويل الدولة للجمعيات الأهلية منعاً من ممارسة أنشطتها في المجالات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و العلمية.
أما في المجتمعات التي لم تحقق ديمقراطيتها و منها المنطقة العربية بالطبع حيث الأنظمة الشمولية ذات الحكم الديكتاتوري مختلفة الأشكال و الألوان، فإن مهام المجتمع المدني تتجلى في العمل من أجل الديمقراطية و المساواة و احترام حقوق الإنسان ، فهذه الأنظمة ما زالت تحكم قبضتها على شعوبها من خلال قوانين الطوارئ و الأحكام العرفية و الاعتقالات التعسفية متذرعة بحجج واهية غرضها المحافظة على سلطتها التي تمنحها امتيازات استثنائية في نهب الشعوب والإبقاء عليها متخلفة ، و إعاقة تنميتها السياسية و الاقتصادية و الثقافية . فهي لا تألو جهداً في تخوين أعضاء المجتمع المدني و التشكيك بوطنيتهم لاصقةً بهم تهمة العمالة للخارج. و نتيجة للضغوط التي تمارسها المنظمات الدولية فإن هذه الدول تسهى إلى تلميع صورتها بالسماح لبعض منظمات المجتمع المدني في ممارسة نشاطاتها لكن بقيود صارمة و خطوط حمراء كثيرة ليس من السهل القفز فوقها. لذلك تأتي نشاطات المجتمع المدني فيها هزيلة و سطحية و لا تصل إلى عمق أزمات المجتمع، لا سيما أن هذه الأنظمة الديكتاتورية تحاول باستمرار اختراق المجتمع المدني و زرع شقة الخلاف بين أفراده لسحب ثقة المجتمع منه. و لا يمكن أن ننكر أن قوة منظمات المجتمع المدني في الدول المتخلفة بازدياد بسبب التطور الهائل في وسائل الاتصال و تكنولوجيا المعلومات و الدعم الدولي المتعاظم.
لقد تجاوزت منظمات المجتمع المدني حدودها الجغرافية الوطنية لتندمج بالمنظمات الأخرى خارج الحدود لتؤلف بذلك مجتمعاً مدنياً كوكبياً، تميز بمستوى عالٍ من التنسيق و توحيد المواقف معتمدةً على شبكات الانترنيت، و كان لذلك أثره في تجميع الصفوف بحيث شارك في مسيرات الاحتجاج الجماعي ضد منظمة التجارة العالمية أثناء مؤتمر "سياتل" خمسون ألف ناشط من مختلف دول العالم، و كان يقف وراءهم بغير شك ملايين من الناشطين الآخرين الذين لم يتمكنوا من الذهاب بأنفسهم إلى مقر انعقاد المؤتمر. فقد استطاعت تلك القوة الجبارة فرض ذاتها على المجتمع الدولي و الحصول على الاعتراف بوجودها و فاعليتها كقوة مؤثرة في الأحداث العالمية فضلاً عن المكاسب التي حققتها للجماعات التي تتكلم باسمها و تدافع عن حقوقها، كما أنها نجحت في أن تهدم الحواجز التي كانت تقف سداً منيعاً أمام مشاركة ملايين البشر في اتخاذ القرار المؤثر في حياتهم، و كان هذا كله بشيراً بانتهاء العهد الذي كانت تتم فيه المناقشات و المفاوضات حول المعاهدات و الاتفاقيات الدولية خلف الأبواب المغلقة، و أن المشاركة الشعبية من خلال مؤسسات المجتمع المدني أصبحت حقيقة واقعة لا مفر من التسليم بوجودها و الاعتراف بقدرتها و تأثيرها.
#نضال_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البحث العلمي بين الشعار والتطبيق
-
هل المرأة حقاً هي شرف الرجل؟
-
حماس تلج المجتمع الدولي من البوابة الروسية
-
مديرية حقول الفساد
-
الشفافية في مواجهة الفساد
-
تهميش حملة شهادات الدراسات العليا و تداعي القطاع العام في سو
...
-
إصلاح العلاقة بين الدولة و المجتمع
المزيد.....
-
الحرب بيومها الـ413: قتلى وجرحى في غزة وتل أبيب تبحث خطةً لت
...
-
الجامعة العربية ترحب بمذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت
-
اعتقال حارس أمن السفارة الأميركية بالنرويج بتهمة التجسس
-
الأونروا: النظام المدني في غزة دمر تماما
-
عاصفة انتقادات إسرائيلية أمريكية للجنائية الدولية بعد مذكرتي
...
-
غوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
سلامي: قرار المحكمة الجنائية اعتبار قادة الاحتلال مجرمي حرب
...
-
أزمة المياه تعمق معاناة النازحين بمدينة خان يونس
-
جوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا بشكل رسمي
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|