|
تصدير الديمقراطية: كيف للسفن أن تمخر بحر الظلمات؟
صبحي حديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1472 - 2006 / 2 / 25 - 10:58
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لا يلوح، البتة، أنّ رياح الإنتخابات الرئاسية أو التشريعية التي شهدتها إيران ومصر وفلسطين والعراق مؤخراً، تجري كما تشتهي أو كانت تشتهي السفن الأمريكية التي تمخر عباب المحيط الاطلسي حاملة بضاعة الديمقراطية، أو "الدمقرطة" لمَن يستهويه الإشتقاق الشاقّ، إلى بلدان الشرق الأوسط... الجديد، كما أسماه الرئيس الأمريكي جورج بوش، نسخاً عن تنظيرات أصدقائه رهط "المحافظين الجدد" خارج الإدارة وداخلها. ذلك لا يعني، البتة أيضاً، أنّ تلك الإنتخابات لم تكن ديمقراطية جداً في فلسطين، وديمقراطية متقدّمة في إيران، ومقبولة ـ ملتبسة في العراق، وخطوة إلى الأمام في مصر، رغم ما يُقال وينبغي أن يُقال عن ظروف صندوق الإقتراع في كلّ بلد. لماذا، إذاً، تجري الرياح بما لا تشتهي سفن السادة والسيدات جورج بوش، كوندوليزا رايس، ديك شيني، إرفنغ كريستول، ريشارد بيرل، بول ولفوفيتز، دوغلاس فيث، ودافيد ورمستر؟ ولماذا تبدو وزيرة الخارجية الأمريكية وكأنها تجوب المنطقة لا لكي تحثّ الشعوب على مزيد من الإقبال على الديمقراطية، بل لكي تحارب أو تحاصر أو تطوّق أو حتى تنعي كلّ تطوّر إنتخابي ديمقراطي شهدته المنطقة في الأشهر الأخيرة؟ ثمة إجابات عديدة على هذا السؤال المدرسي، بينها إجابة مدرسية بدورها، مبسطة للغاية وصائبة تماماً: ليس لائقاً بالديمقراطية التي يبشّر بها هؤلاء أن تحمل إلى سدّة السلطة، حتى في انتخابات نزيهة وعبر صندوق الإقتراع بوصفه أيقونة الديمقراطية المعاصرة، أمثال محمود أحمدي نجاد في إيران واسماعيل هنية في فلسطين من جهة أولى؛ أو أن تسفر عن فوز مفاجىء للإخوان المسلمين في مصر، وأغلبية غير مفاجئة للشيعة في العراق، من جهة ثانية! هذا المزاج ذاته هو الذي الذي يدفع تحرير الأسبوعية الأمريكية Weekly Standard، لسان حال المحافظين الجدد، إلى استفتاء القرّاء في مسألة فوز "حماس"، ولكن على النحو التالي المدهش التالي: "حماس حققت انتصاراً كبيراً في الإنتخابات البرلمانية الفلسطينية. حين يسيطر الإرهابيون على مقاليد الحكم بشكل ديمقراطي، هل تعتقد: ـ أنهم يمكن أن يعتدلوا في أهدافهم وبلاغتهم، ـ لن يعتدلوا، ولكن يجب أن يُحاسبوا، ـ سوف يستخدمون أدوات الحكم لتعزيز الإرهاب، ـ لن يطول الوقت حتى ينجلي الأمر". وبالطبع، ليست نتيجة التصويت مفاجئة، خصوصاً وأنّ "حماس" صُنّفت على الفور في خانة الإرهاب: 5% للإحتمال الأوّل، 10% للإحتمال الثاني، 65% للإحتمال الثالث، و20% للإحتمال الرابع! ولكن ثمة إجابة أخرى، غير مدرسية هذه المرّة، على سؤال الرياح التي تجري بما لا تشتهي سفن البيت الأبيض حاملة بضاعة الديمقراطية على الشرق الأوسط: أنّ معظم دعاة هذه الديمقراطية، المتحمسين لها إلى درجة المطالبة بفرضها بقوّة السلاح وعن طريق الغزو العسكري، يؤمنون في الآن ذاته بضرورة غسل تلك الديمقراطية ثقافياً (أي على صعيد التراثات والأديان والعقائد)، بما يكفل تطهيرها من سلسلة "أدران تاريخية" خلقت نزوعات العداء للولايات المتحدة وإسرائيل والغرب عموماً. في عبارة أوضح: إذا توجّب أن تبلغ بلدان الشرق الاوسط مستوى في الديمقراطية متقدّماً ومقبولاً ومعترفاً به في الغرب، فإنّ على صندوق الإقتراع أن لا يمثّل قناعات المقترعين الفعلية، بل تلك التي تتناسب مع القناعات التي يقبل بها "العالم الحرّ" و"المجتمع الدولي"، تحديداً وحصراً! وهكذا فإنهم، من جديد وعلى منوال القديم، يريدوننا أن نعيش مرحلة الـ «ما بعد» في كلّ شيء، على طول الخطّ: ما بعد الحداثة، ما بعد المجتمع الصناعي، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الإيديولوجيا، ما بعد الشيوعية، ما بعد التاريخ، ما بعد السياسة، ما بعد صدّام حسين، ما بعد الرسوم الكاريكاتوريةن ما بعد انتصار "حماس"... الحال تبدو أقرب إلى عالم أحادي تماثل وتشابه وتعاقب على ذاته ومن أجل ذاته، حتى بات من المحال ــ وربما من المحرج ــ الحديث عمّا هو سابق لهذا الراهن وذاك اللاحق، عن الـ «ما قبل» أياً كانت الظواهر التي سبقته. كأنّ كل شيء حدث لتوّه، كما يستغرب الباحث الأمريكي دافيد غريس في كتابه المثير «دراما الهوية الغربية»: العالم يخلع أرديته واحدة تلو الأخرى، من العقلانية والرومانتيكية والثورية، إلى تلك الرجعية والوثنية والمحافظة، مروراً بالليبرالية والرأسمالية والإشتراكية والشيوعية. ولكن، أليس من المشروع التساؤل عمّا إذا كانت هذه الديمقراطية الأمريكية المستجلبة، أو أية ديمقراطية مفروضة قسراً بفعل الشرط العسكري أو السياسي أو الإقتصادي أو الثقافي الخارجي، هي بدورها حاضنة شروخات مجتمعية مستندة إلى انحيازات إثنية ومذهبية وطائفية وعشائرية كفيلة بإنتاج وإعادة إنتاج ما شهدناه في العراق قبل يومين، من تفجير مرقدَي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، ومقتل عشرات المواطنين في اضطرابات ومواجهات طائفية صريحة، وتصفية 11 إماماً وخطيباً سنّياً من أهالي البصرة كانوا معتقلين في سجون وزارة الداخلية، وتفجير أو استهداف عشرات المساجد السنية، واندلاع أعمال العنف في مدن بغداد والبصرة وسامراء والناصرية وبعقوبة والكوت وكركوك وصلاح الدين؟ ألا تبدو هذه المشاهد وكأنها استعادة/ طبق الأصل لكلّ أحقاب الـ «ما قبل» في الحكايات الكبرى للحضارة الغربية، من اليونان القديم، إلى روما القديمة، إلى رحلة كريستوفر كولومبوس، إلى عصر الأنوار والحداثة؟ وحين تقترن هذه المشاهد بما يشبه إصرار الغرب على استحالة المطابقة بين ديمقراطية صندوق الإقتراع وحرّية اليقين الشخصي، كما في مثال معاقبة الشعب الفلسطيني لأنه اختار منح الأغلبية البرلمانية إلى فريق سياسي لا يحظى برضا الغرب، ألسنا نشهد اهتزازاً عميقاً في الرؤية الراسخة التي اعتنقها وبشّر بها الغرب معظم القرن الماضي، أو قبله بعقود كذلك؟ ألم تنهض تلك الرؤية على ثلاثة أقانيم جوهرية: الرأسمالية واقتصاد السوق، وحقوق الإنسان كما تقترن وجوباً بالشكل الليبرالي (الغربي ـ الأمريكي) من الديمقراطية العلمانية، وإطار الأمّة ـ الدولة كصيغة هوية معتمدة في العلاقات الدولية؟ وهذه الأقانيم بالذات، الم تكن تكتسي بهيئة مختلفة تماماً حين يتعلق الأمر بمجتمعات وثقافات العالم غير الغربي، أو هي كانت تأخذ أكثر من صيغة توتّر وتناقض مع أية مجموعة من القيم غير الغربية، الأمر الذي ظلّ يفتح باب الإجتهاد حول تصارع حضاري ـ ديني على طريقة صمويل هنتنغتون، أو توتّر هيلليني ـ آسيوي على طريقة برنارد لويس، أو ولادة «الأيديولوجية التالية» على طريقة غراهام فوللر كما بشّر بها في كتابه الشهير «مصيدة الديمقراطية: أخطار العالم ما بعد الحرب الباردة»؟ ألم تنجلِ الأقانيم ذاتها عن هيئة مختلفة حتى في قلب أوروبا، على مبعدة أمتار قليلة من قواعد الحلف الأطلسي، في البلقان الدامي دون سواه؟ ألا تعيد رسوم صحيفة "يولاند بوستن" الدانمركية تذكير البشر بنظرية صدام الحضارات، وكأنّ صاحبها لم يعدّلها أو يراجعها أو يهذّب طبيعتها المانوية، أو كأنّ بعض الدوائر في الغرب تحنّ إلى البرهنة على صحّتها، تماماً كما تتلهف بعض الدوائر في الشرق إلى جعلها وقوداً يساهم في إضرام المزيد من اللهيب؟ فوللر لا يغفل الإشارة إلى التهديد الذي تتعرض له الثقافات الوطنية بفعل التعميم القسري للقِيَم الغربية، بوسائط تبادل لا قِبَل لتلك المجتمعات بمقاومتها، مثل ذلك التصدير الأخطبوطي الجبّار للسلعة الثقافية (الكتاب والفيلم والأغنية ونوع الطعام واللباس والدواء)، وصناعة الرمز الثقافي الأعلى الأشبه بالأسطورة في ذلك كله (بحيث تتحوّل شطيرة الـ «بيغ ماك» إلى رمز للجبروت الأمريكي السياسي والإقتصادي والعسكري، ليس في بلدان مثل الهند وماليزيا ومصر فحسب، بل حتى في بلد مثل فرنسا أيضاً). ونتذكّر في هذا الصدد أنّ صدام الحضارات، كما شخّصه هنتنغتون في البدء، لا يدور بين يسوع ومحمد وكونفوشيوس، بل حول التبادل غير المتكافىء للقوّة والثروة والنفوذ، وتهميش الأطراف لصالح المركز (الغربي بالضرورة) وتحويل الثقافة إلى وسيط للتعبير عن الأزمة بدل أن تكون سبباً فيها. وإذا كان المسلمون لا يعرفون سبيلاً إلى ردّ التهمة القائلة بأنّ الإسلام، بوصفه ديناً وعلاقة بين العابد والمعبود، هو بالضرورة المطلقة حاضنة خصبة لتوليد صنوف وأفانين الإرهاب (وهنا مغزى الرسم الكاريكاتوري العنصري والغبيّ والجاهل في آن، الذي يحوّل عمامة الرسول العربي إلى قنبلة)، فكيف إذا جاءهم مَنْ يقول: ليت البلية تنتهي هنا... المشكلة ليست في الحاضنة بوصفها عقيدة تشجّع على الأصولية والعنف، بل في الإسلام ذاته بوصفه ثقافة للدنيا قبل أن يكون ديناً للآخرة؟ هذه، بالضبط، هي غاية البعض من استعادة اطروحة صدام الحضارات البالية إياها، أي التأكيد بأنّ الإسلام ثقافة مرشحة أكثر من سواها لتدشين الجولات القادمة من الأزمات والحروب والتحالفات في العلاقات الدولية للقرن القادم، بل ومصادرة حقّ المواطن الغربي في التعبير، وربما إحياء الفاشية والنازية هنا وهناك في العالم كما يحذّرنا دانييل بايبس! لماذا الإسلام؟ وما الذي يميّزه عن سواه من الحضارات الستّ الأخرى (الصينية، اليابانية، الهندية، الغربية، الأمريكية اللاتينية، والأفريقية) التي ستتصادم وستتصارع في القرن القادم، حسب نبوءة هنتنغتون؟ باختصار، يجيبنا دعاة إحياء نظرية صدام الحضارات على خلفية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول العربي، لأنّ "الإسلام حضارة مختلفة عن سواها، وأهلها على قناعة تامة بتفوّق ثقافتهم على سواها"، ولأنّ المسلمين "مهووسون بفكرة تدنّي قوّة أبناء هذه الحضارة عن سواهم». سواها... سواهم... وسوانا... نحن (أبناء الغرب) بطبيعة الحال! إذا كانت هذه هي الحال في حكاية الرسوم الكاريكاتورية، فماذا يمكن أن يقول الدعاة أنفسهم عن فوز "حماس" في الإنتخابات التشريعية الفلسطينية، مع ما يحمله هذا الحدث من دلالات إضافية ثقيلة لأنه لا يخصّ العرب والمسلمين وحدهم، بل يمسّ أمن الدولة العبرية بوصفها إسبارطة الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة كما يرسم حدودها المحافظون الجدد؟ برباره ليرنر، في مقالة نشرتها أسبوعية National Review الأمريكية اليمينية ويختصرها العنوان تماما: "لن تتحقق الديمقراطية الفسطينية في أيّ يوم"، أعربت عن استغرابها من أنّ البعض ينتظر في أيّ يوم أيّ سلوك ديمقراطي من الشعب الفلسطيني، إذا كانت نسبة المؤيدين للعمليات الإنتحارية تزيد على الـ 80%. ولكي نتأكد من أنّ الكاتبة، وليس مقالتها وحدها، خرقاء حمقاء بلهاء، أنبأتنا ليرنر أنّ الفلسطينيين شعب بلا تاريخ أساساً، فكيف يمكن لأية ديمقراطية أن تولد في صفوفهم، أو أن تُصدّر إليهم؟ بالفعل... إذا كان هذا هو طراز الرياح المتوفّر، فكيف يمكن لأية سفينة محمّلة بأطايب الديمقراطية الأمريكية أن تجري، وتمخر عباب المحيط الأطلسي... بحر الظلمات؟
#صبحي_حديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثروة ثروت عكاشة
-
الوزارة السورية الجديدة: رجال لا في العير ولا في النفير
-
عن ملوك أمريكا
-
لقاء البيانوني خدّام: طيران فوق عشّ الوقواق؟
-
الدانمرك أم النظام العربي؟
-
ما خلا فلسطين، ديمقراطيات -بلاد بوش- على قدم وساق
-
فتّشْ عن الشعر
-
العراق: فواتير ديمقراطية ال -بزنس- المضرّجة بالدولار
-
ذاكرة -ربيع دمشق-: ما تزال البنية عصيّة على الإصلاح
-
غوانتانامو في العام الخامس: وصمة عار أم عدالة أمريكية الطراز
...
-
برابرة عيد الأضحى
-
غياب شارون: مفاعيل مشهد عابر للحدود والأقاليم
-
سورية في 2006: القادم أعظم... هذه السنة أيضاً
-
ديمقراطية أمريكا المعاصرة: أين جورج أورويل من جورج بوش
-
النابغة والجولان
-
دمشق بعد ميليس 2 واغتيال تويني: خمس رسائل انتحار
-
بلد سيزير وقانون ساركوزي
-
اتفاقية سلام سورية إسرائيلية: المأزق عميق والمخرج عالق
-
بيريس الأخير: هل تبقى سوى التلاشي في الهواء الطلق؟
-
الصفيح والخيش
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|