علي مقلد
الحوار المتمدن-العدد: 5709 - 2017 / 11 / 25 - 00:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ربما كان أبو جعفر المنصور ، لم يلتقط أنفاسه بعد ، وهو يشرب أنخاب النصر ، بعدما قضى على حليفه السابق أبو جعفر المنصور ، كما قضى على ثورة سنباذ الذي ثار على مقتل الخراساني ، فقد أعلن قائد الجيش المنتصر جمهور بن مرّار العجلي ، الإنشقاق على أبي جعفر ، بسبب الخلاف على تقسيم الغنائم التي غنمها الجيش العباسي من قتال أبي مسلم وأنصاره من بعده ، فجمهور العجلي يرى أن تلك الغنائم هي حق له ولجنوده الذين خاضوا الحرب ، وليس للحليفة فيها نصيب ، لكن الخليفة ، كان يرى أن كل الغنائم له .. من هنا حدث الشقاق ، وبدأت حرب جديدة حيث أرسل المنصور جيشاً بقيادة محمد بن الأشعث الخزاعي، وأيده بجيش أخر يقوده عمر بن حفص المهلبي، والتقت الجموع بين الري، وأصفهان، وكانت الغلبة لجيش الخليفة، فانسحب جمهور، واعتصم بأذربيجان، لكن جنوده الذين تبقوا معه ، أردوا أن يفدوا أنفسهم من ملاحقة ومواصلة القتال ، فقتلوا قائدهم المتمرد ، وقالوا إنما قنلناه درأ للفتنة ، وذلك (عام 138 هـ)، وأرسلوا رأسه للمنصور لينهوا بذلك مغمرة العجلي في الصراع على السلطة ، وجريمة قطع الرؤوس متأصلة في الصراع الإسلامي ، وقد رأينا تلك الجريمة تكررت في مواقف عديدة، في المقالات السابقة وسوف نراها لاحقا أيضا.
إذن نحن في العام 138 هـ ، والخليفة قد تخلص من عمه ، ثم تخلص من مؤسس الدولة أبو مسلم الخراساني ، ثم تخلص من الثائر سنباذ ، ثم تخلص من قائد جيشه جمهور العلي الذي هزم سنياذ ، لكنه لم يهنأ أيضا بالاستقرار على كرسي الخلافة ، فقد عاد الخوارج للثورة مجددا ، وكانوا قد هدأوا في بداية الدولة العباسية ، بعدما كانت ثوراتهم أحد الأسباب في سقوط دولة بني أمية ، وبالفعل أعلن "مُلَبّد بن حرملة الشيباني" زعيم الخوارج في جزيرة العراق ، الخروج على المنصور ، وكون جيشا تعداده بضعة آلاف ، لكن للشراسة المعروفة عن الخوارج في المعارك ، استطاعوا أن يسيطروا على عدة قرى ومدن في وقت قصير ، وأعلن الشيباني نفسه خليفة للمسلمين على غرار سلفه الخوارج أيضا ، لكن المنصور لم يترك أمر الشيباني يستفحل ، فسير جيشا جرارا إلى بقيادة خازم بن خزيمة ، وما هي إلا أشهر معدودة ، وتمكن المنصور من القضاء على الشيباني ، لكنه لم يستطع القضاء على فكر الخوارج ، ففى سنة 141 هـ واجه المنصور ثورة أخرى لطائفة من الخوارج ، يقال لها "الراوندية" ينتسبون إلى قرية "راوند" القريبة من أصفهان بقيادة "عثمان بن نهيك" واتجهوا نحو الكوفة، لكن جيش المنصور قاتلهم حتى قضى عليهم جميعًا ، ثم في العام 148 هـ ، يعلن الخوارج الثورة مجددا ، على المنصور ، وذلك من داخل مدينة الموصل بقيادة "حسا بن مجالد الهمداني"، إلا أن خروجه هو الآخر قد باء بالفشل كذلك.
لكن رغم صعوبة المعارك التي خاضها المنصور ضد عمه وقادة جيشه والخوارج ، إلا أن أصعب معركة واجهته وكادت تقضي على حكمه ، هي حربه ضد محمد النفس الزكية ، فهنا يعود الصراع بين القرشيين مرة أخرى على الخلافة ، ومن داخل البيت الهاشمي نفسه ، فأحفاد علي بن أبي طالب والذين ثاروا طيلة مائة عاما ضد الأمويين ، يعودون مرة أخرى مع "النفس الزكية" للمطالبة بحقهم في الخلافة من أبناء عمومتهم أحفاد عبد الله بن عباس ، وقد رأينا في بداية الدعوة العباسية أنها متدثرة بشعارات الشيعة ، لكن السلطة لا تعرف حليفا دائما ولا عدوا دائما إنما تعرف مصالح دائمة ، لذلك وجد المنصور أن المصلحة تقضى ،بالإجهاز على "النفس الزكية " الذي ينازعه على السلطة .
ويجدر بنا معرفة هذا الثائر الهاشمي ، لنعرف كيف ومتى بدأ الصراع بين الشيعة والعباسيين ، فهو محمد النفس الزكية بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، يقال أنه كان رجلا كثير الصوم والصلاة ، وكان ضخما شديد السمرة والقوة، وبالرغم أنه فكريا يميل إلى المعتزلة إلا أن الشيعة كانوا ملتفين حوله بل ويرون فيه "المهدي المنتظر" وكان هو وأخوه إبراهيم يلزمان البادية ويحبان الخلوة، ولا يأتيان الخلفاء ولا الولاة .
معلوم أن "النفس الزكية " هو أحد رواة الحديث ، قال عنه ابن حجر العسقلاني في كتاب التهذيب : إنه روى عن أبيه , وأبي الزناد , ونافع مولى ابن عمر ، وزاد ابن كثير في كتاب البداية والنهاية : أنه روى عن الأعرج , عن أبي هريرة , وقال : وحدث عنه جماعة ، وقال عنه البخاري في الجامع الكبير : لايتابع عليه , ولا أدري سمع من ابي الزناد أم لا ، لكن قول البخاري لم يضعف من النفس الزكية كأحد أهم رواة الحديث في عصره ، فيما عده ابن سعد صاحب كتاب "الطبقات" في الطبقة الخامسة , وابن حجر في السابعة , ووثقه النسائي وابن حبان وابن حجر , وأحمد شاكر , وأخرج حديثه أحمد, والدارمي , والدارقطني, والطحاوي , وأبي داود , والترمذي , والنسائي , والبغوي ، والبيهقي .. إذن فنحن أمام رجل دين معروف بعلمه ، ومع ذلك لم يمنعه ذلك من الإنزلاق لحلبة الصراع على السلطة .
لكن لماذا تعد ثورة "النفس الزكية" من أخطر الثورات ؟ الجواب : لأنه خليفة سابق ، وله بيعة في رقبة العلويين والعباسيين ، ففي أواخر دولة بني أمية ، وبالتحديد بعد مقتل الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بيد أقربائه عام ۱۲٦ هـ تهيّأت الظروف المناسبة ، للدعوة إلى خليفة من بني هاشم ، ففي هذا الظرف جمع عبد اللّه بن الحسن، بني هاشم وألقى فيهم خطبة قال فيها : إنّكم أهل البيت قد فضّلكم اللّه بالرسالة ، واختاركم لها ، وأكثركم بركة ، ياذرية محمد بن عبد اللّه بنو عمه وعترته ، وأولى الناس بالفزع في أمر اللّه ، من وضعه اللّه موضعكم من نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ترون كتاب اللّه معطلاً، وسنّة نبيه متروكة، والباطل حياً، والحقّ ميتاً ، قاتلوا للّه في الطلب ، لرضاه بما هو أهله ، قبل أن ينزع منكم اسمكم ، وتهونوا عليه كما هانت بنو إسرائيل ، وكانوا أحب خلقه إليه، وقد علمتهم أنّا لم نزل نسمع أنّ هوَلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الاَمر من أيديهم، فقد قتلوا صاحبهم ـ يعني الوليد بن يزيد ـ ، فهلم نبايع محمداً ـ يقصد ابنه "النفس الزكية" ، فقد علمتم أنّه المهدي ، وبالفعل اجتمع العلويون والعباسيون معًا وبايعوا محمدا ، خليفة للمسلمين ، وكان من بين المبايعين السفاح والمنصور ، ولذلك خشى المنصور ومن قبله السفاح ، أن يطالب محمد بحقه في الخلافة ، فحاولا القبض عليه بأي طريقة هو وأخيه إبراهيم لكنهما فشلا في ذلك لسنوات عدة ، وكان قلق العباسيين من هذين الرجلين كبير لأنهما لم يبايعا السفاح ولا المنصور من بعده ، فلما ولي أبو جعفر المنصور رأى في بقاء محمد وأخيه خطرًا يهدد دولته، وأيقن أنهما لن يكفا عن الدعوة إلى أحقية البيت العلوي بالخلافة ؛ فبذل ما في وسعه لمعرفة مكانهما ، فلم ينجح في الوصول إليهما ، وعجز ولاة المدينة المنورة عن تتبع أخبارهما، فاستعان بوالٍ جديد للمدينة ، غليظ القلب ، للوصول إلى مكان محمد النفس الزكية ، فلجأ إلى القبض على عبد الله بن الحسن ، والد الزعيمين المختفيين وهدده وتوعده ، وقبض أيضا على نفر من آل البيت ، وبعث بهم مكبلين بالأغلال إلى الكوفة ، فشدد عليهم الخليفة ، وغالى في التنكيل بهم، فاضطر محمد النفس الزكية إلى الظهور بعد أن مكث دهرا يدعو لنفسه سرا، واعترف الناس بإمامته في مكة والمدينة واليمن ، وتلقّب بأمير المؤمنين، وفي أول خطبة له بعد البيعة الجديدة ، قام في الناس خطيباً فقال :أما بعد : أيها الناس فإنه كان من أمر هذا الطاغية عدوّ الله أبي جعفر مالم يخف عليكم من بنائه القبّة الخضراء التي بناها معانداً لله في ملكه تصغيراً للكعبة الحرام ، وإنما اُخذ فرعون حين قال : أنا ربكم الأعلى ، وإن أحق الناس بالقيام بهذا الدين أبناء المهاجرين والأنصار المواسين ، اللّهم إنهم قد أحلّوا حرامك وحرّموا حلالك وآمنوا من أخفت وأخافوا من آمنت ، اللّهم فاحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحدا .
ثم أعلن "إبراهيم" الثورة في البصرة، واجتمع معه كثير من الفقهاء، وغلب أتباعه على "فارس" و"واسط" و"الكوفة"، وشارك في هذه الثورة كثير من الأتباع من كل الطوائف ، وكاد الجيش العلوي أن يبسط يده على كل العراق لولا مقتل إبراهيم وتفرق من كان حوله ، ومما يروى في هذا الإطار أن الإمام مالك بن أنس صاحب "الموطأ " ـ وكان هو وأبو حنيفة من أنصار النفس الزكيةـ أفتى بجواز الخروج مع "النفس الزكية" وشق عصا الطاعة ، فقيل له: يا إمام إنَّ في أعناقنا بيعة للمنصور، فقال: إنما كنتم مُكرهين، وليس لمكره بيعة.... فلمّا علم المنصور بالثورة العلوية وسرعة تمددها ، بعث إلى " محمد النفس الزكية" يعرض عليه الأمن والأمان له ولأولاده وإخوته ، مع توفير ما يلزم له من المال ، لكن يرد "محمد" بأن على المنصور أن يحكم بدين الله ، وأنه لا يمكنه شراء المؤمن بالمال ، وبالفعل فشلت المكاتبات بين الطرفين ، وكانت المواجهة العسكرية هي الحل ، فوجّه المنصور جيشاً كبيراً يقدّر بأربعة آلاف فارس بقيادة عيسى بن موسى العباسي ، حتى أناخ على مقربة من المدينة ، وكتب إلى كبراء أهلها يستميلهم ويمنيهم بالوعود ، فتفرق الناس عن النفس الزكية وبقى معه القليل ، والتقى الجيشان وقاتل الطرفان قتالاً شديداً، حتى قتل النفس الزكية ، لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة 145 هـ، ويقال أن محمد اُصيب بجراح خطيرة بسبب تفرّق جنده، وبرك إلى الأرض، فبادر حميد بن قحطبة أحد قادة الجيش العباسي ، فاحتزّ رأسه وأرسلها للخليفة المنصور ، واختلف المؤرخون في عمر"النفس الزكية" عند مقتله ، فقال جماعة ثلاث وخمسين، وقال آخرون خمس وأربعين، والصحيح ، أنه قتل وعمره خمس وأربعين سنة ، لأن الثابت عند المؤرخين ، أنه ولد سنة مائة هجرية ، لكن كان هناك فرع آخر لثورة النفس الزكية في كابول ، حيث واصل عبد الله الأشتر قتال العباسيين ، لكنه قتل وحملت رأسه إلى المنصور ، وكأن خزائن الخلفاء كانت فيها أدراج ، للرؤس المقطعة ، إلى جوار أدراج الأموال المكدسة ، من نهب الشعوب ، كل ذلك يتم تحت راية الخلافة الإسلامية ، وكل الأطراف المتصارعة ، ترفع شعارات دينية ، لتوهم عامة المسلمين بأحقيتها في الحكم .... وبين هؤلاء وأؤلئك قتل ملايين المسلمين ، من أجل أن يجلس أحد أمراء الحرب على كرسي الخلافة.
#علي_مقلد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟