كتبت هذه المقالة قبل فترة ولكنني لم أنشرها وكأنني أعرف أو لم يخيب حدسي ظني به بأن المشاركة الكردية في انتخابات مجلس الشعب لن تكون سوى مسرحية استعراضية أو ملهاة مضحكة فأعدت صياغتها بعد الأحداث الجديدة التي حصلت على الساحة السياسية الكردية في سورية.
خلق الله عزّ وجل أمنا حواء من ضلع أبينا آدم (عليهما السلام) لكي لا يتكبر الذكر على الأنثى ولا يتعالى القوي على الضعيف، ثم خلق منهما البشرية جمعاء، وهكذا أصبح البشر على شكلهم الحالي. وبما أن المجموعات السكانية والبشرية باتت كثيرة ومكتظة بالسكان فكر الإنسان القديم في مبدأ المشاعة بين أبناء العشيرة أو بمعنى أدق بين أبناء التجمع السكاني الذي كان يؤويهم واستنتجوا من خلال ممارسة الحياة اليومية التي بدئت تتطور وتتعقد رويداً رويداً إيجاد من ينوب عن الكل في تسيير أمور الجماعة وتسهيل مصاعبها وحل مشكلاتها فكان لكل قبيلة أو تجمع بشري رجل يحكمها هو أقوى من الكل وغالباً يكون أكبرها سناً. ومع تطور الحياة الإنسانية وتطور المجتمعات باتت تؤلف فيما بينها مجموعة من العقلاء وتجمع مجموعة من الحكماء في مجلس يمثل القبيلة بأكملها واختلفت تسمية هذه الكتلة من النوابغ من مجتمع إلى آخر ومن قبيلة إلى أخرى فسموا بمجلس الحكماء - مجلس العقلاء - مجلس الشيوخ .. إلخ.
أي أن الإنسان من قديم الزمان فكر بتشكيل لجنة بشرية مؤلفة من أفضل أبناء العشيرة من حيث القوة والشجاعة والحكمة لكي ينوبوا عن الكل في اتخاذ القرارات بشأن الحرب والسلم والهجرة والتنقل وكل الأمور الحياتية التي تحتاج إلى أكثر من شخص يشاركهم في التفكير بمنطق صحيح وينعم بالخير واليمن على الجميع.
أما في أيامنا هذه فلا زالت هذه المجالس تشكل القائد الفعلي للمجتمعات والدول والبلاد الموجودة على سطح هذه الخليقة رغم تحول وتطور أسمائها من مجلس العقلاء إلى مجلس النواب - مجلس الشعب - مجلس الأمة - مجلس الشورى .. إلخ، ولا زالت بعض الدول تصف مجالسها بمجلس الشيوخ أو مجلس العموم أو تسميات أخرى، حسب الدساتير والقوانين المعمول بها في تلك البلاد.
أما نحن في سورية فقد تغيرت تسمية هذا المجلس من مجلس النواب (أو المجلس النيابي، فقد أُقيمت أول انتخابات نيابية في القطر عام 1954) إلى مجلس الشعب، وهي التسمية المعمول بها منذ أكثر من ثلاثين سنة، بحيث ينتخب أعضاء هذه الهيئة من أبناء الشعب السوري بكل قومياته وأطيافه، ومن أكمل السابعة عشر من عمره له الحق في الإدلاء بصوته لأكثر من مرشح يختاره بمحض إرادته وبكامل حريته دون أي ضغط أو إجبار، حسب الدستور السوري. ويصدر رئيس الجمهورية مرسوماً يقضي بتحديد موعد الانتخابات بحيث يكون قبلها قد بدأ المرشحون بتقديم طلباتهم الترشيحية مع برنامجهم الانتخابي إلى دوائر محافظاتهم وتكون قوائم الترشيح على فئتين: الفئة (أ) والفئة (ب).
وقد بلغ عدد المرشحين لانتخابات مجلس الشعب في دورته الثامنة (10423) مرشحاً ومرشحة وتم توزيع المرشحين على الفئات بهذا الشكل:
1 - القائمة (أ) (6075) مرشحاً، 2 - القائمة (ب) (4348) مرشحاً.
ويتم توزيع المقاعد في المجلس على هذه الصورة:
المقاعد المخصصة لحزب البعث 131 مقعداً أي بنسبة 52.4 في المائة.
مقاعد الجبهة الوطنية التقدمية 32 مقعداً أي 12.8 في المائة.
المقاعد المستقلة 87 مقعداً أي 34.8 في المائة.
ويكون مجموع مقاعد مجلس الشعب على هذا النحو 250 مقعداً.
أما الذي يهمني في الموضوع كله فهو حصة محافظة الحسكة في هذا المجلس، إذ عمدت الحكومة إلى تقليص عدد نواب المحافظة "المستقلين" من ستة مقاعد إلى أربعة في هذه الدورة الحالية، وليس مستبعداً في يوم من الأيام أن يتضاءل هذا العدد بالتدريج حتى يُعدم فتكون مقاعد المحافظة منتقاة وجاهزة لاستقبال من سيجلس عليها من إخواننا في حزب البعث وأحزاب الجبهة، وهذا شيء لا ألوم الحكومة فيه فالذي لا يطالب بحقه يُحرَم منه تلقائياً مع مرور الزمن.
ربما أطلت في شرح بعض مراحل تطور المجتمعات وكيفية انتخاب البرلمان السوري، ولكن البداية لا بد منها لنفهم ما نريد، بحيث نعرف الواجبات التي علينا القيام بها، والحقوق التي لنا، وليتضح للناس أن مجلس الشعب هو صوتهم الذي يصرخون به مطالبين بحقوقهم، ويدهم التي بها يدافعون عن حقهم، وهو في الأصل (المجلس) القائد الفعلي للدولة والمجتمع.
بما أننا نحن الشعب الكردي في سورية ننتمي إلى الشعب السوري بكل ألوانه، فلنا الحق - كما يبيح لنا الدستور - أن نرشح من يمثلنا إلى انتخابات مجلس الشعب ويقوم المواطنون السوريون الأكراد بانتخاب من يمثلهم ويكمل مع باقي الفئات بناء هذا البيت السوري الكبير.
إلا أننا لا نشكل دستورياً شعباً أو أقلية، بل إن بعضنا محروم من الاعتراف به كإنسان يعيش على أرض سورية (الأجانب ومكتومي القيد)، رغم أنه لم تمر دورة نيابة إلا ورشح الكرد أنفسهم فيها، مع العلم أنه لا يختلف اثنان سلفاً أننا لن نحصل على حق إيصال من يمثلنا ويدافع عن حقنا في البرلمان.
وحوادث كثيرة يطول ذكرها في هذا المقام تؤكد ذلك، وأهم حادثة برأيي هي في أول انتخابات نيابية في البلاد بعد الانفصال الذي حدث بين سورية ومصر لتنتهي أول وحدة عربية في 28 أيلول 1961، إذ قرر الانفصاليون في سورية إجراء الانتخابات في الأول من كانون الأول عام 1961 وقام الشعب الكردي المتمثل بالبارتي الديمقراطي الكردستاني بترشيح من يمثلهم وهم الدكتور نور الدين زازا (رئيس الحزب) والشيخ محمد عيسى (عضو اللجنة المركزية في الحزب) وفؤاد قدري جميل باشا المرشح المستقل، ولكن كما كان معتقداً بدأت السلطة بالضغط لانسحاب المرشحين، وانتهت بالاستيلاء على الصناديق وملئها ببطاقات من عندها، وفاز الأعوان بمساندة السلطة، وقدم المرشحون الأكراد طعناً إلى القضاء ولكن .. كأوراق في وادٍ ذهبت كلها أدراج الرياح.
وبرأيي تمثل دورة عام 1990 أشرف وأنزه دورة نيابية، ولا نعرف كنهاً لوقائعها وكيف مرّت "الحيلة" على الحكومة ليدخل ثلاثة من الكرد إلى البرلمان. ولم تدم الحالة فمرت دورتان ولم يسجل للكرد هدف في مرمى البرلمان لأسباب بات الطفل الكردي في سورية يعرفها.
إن الدورة الحالية التي نحن مقبلون عليها في الثاني من آذار القادم لا تختلف عن مثيلاتها من الدورات، وأعتقد أن التنظيمات الكردية أصابت (طبعاً دون قصد!) بعدم المشاركة، لأسباب أستطيع تلخيص البعض منها:
1 - احتمال ظهور قائمة الظل بنسبة 90 في المائة (قائمة الظل تسمية تطلق على القائمة التي ستنجح في الانتخابات وهي مدعومة من قبل السلطة).
2 - الوضع السياسي السوري لم يطرأ عليه تغيير بالنسبة للقضية الكردية فلا زالت الحكومة تتجاهل هذه النسبة الكبيرة من شعبها دون إيجاد الحلول لقضيتهم العادلة والتي هي برأيي أكبر قضية داخلية معقدة تنتظر الفرج.
3 - عدم تكليف الأحزاب المبالغ الطائلة كتكاليف دعاية إعلانية وتعويضات مندوبي المرشحين ونفقات أخرى، فلوا وُزعت هذه المبالغ على الأسر المعوزة والمحتاجة إلى لقمة العيش خير من نثرها في مهب الريح.
4 - إن المرشحين الأكراد لا يمثلون الشعب الكردي في سورية بل هم أشخاص لا يمثلون سوى أنفسهم وأسرهم وعشائرهم فقط، ولم يتقدم أي مرشح على أنه يمثل الشعب الكردي أو شريحة منه ممثلة في الأحزاب الكردية، إذ يتقدم المرشحون بطلباتهم على أنهم مستقلون، لا على أنهم سيمثلون الكتلة الكردية في مجلس الشعب كما في مجلس الشورى الإيراني ومجلس الأمة التركي (حزب HDP).
5 - عدم الإنصاف في الاقتراع لأنه توجد نسبة لا بأس بها من الشعب الكردي لا يحملون الهوية السورية فبهذا يخسر الكرد أصواتاً لا بأس بها من المكتومين والأجانب.
6 - وهذا هو الأهم فلنفترض جدلاً وصول هؤلاء الذين يدعون أنهم يمثلون الكرد فلن يحركوا ساكناً ولن يطرأ أي تغيير. فدورة 1990 شاهد على عصر الهزيمة عندهم، فهم طوال أربعة أعوام لم يستطيعوا أن يحلوا مشكلتي الأجانب والحزام العربي، أو حتى إقناع الحكومة بوجود مثل هذه القضايا التي يعاني منها الشعب الكردي منذ مدة طويلة.
إن الأحزاب الكردية فشلت كعادتها في الوصول إلى اتفاق بين كل فصائلها ولم تستطع الاتفاق على صيغة مشتركة لتقديم الشريحة الكردية إلى الانتخابات، ولم يتنازل أي سيد من السادة الزعماء للآخر ليوصل صوته وصوت الشعب الكردي إلى البرلمان، بل على العكس تماماً ظل كل واحد مستمسكاً بحقه في أن يمثل هو وحزبه وينفردوا بحق الترشيح، ولم يستطيعوا أن يجدوا الحل لتشكيل قائمة مشتركة، وردوا فشلهم إلى السلطة محتجّين بالهامش الذي يرافق قائمة الجبهة، وهو أربعة مرشحين مستقلين فقط، وكأنهم يضحكون على أنفسهم، وبظنهم أن الشارع الكردي صدقهم، مخفين بذلك زعاماتهم وجبروت الاسم الرنان الذي يسعى كل واحد أن يحقق لنفسه، مجداً وعزة، رامين حقوق الشارع عليهم عرض الحائط وتاركين هوى العظمة والكبرياء يتخبط بهم.
أيها السادة في الأحزاب الكردية كلها، مع بقايا رفاقنا في حزب (PKK) السابق والحزب الذي ما زلنا لا ندرك أنه محسوب على الشارع الكردي أم لا، وهو حزب التجمع الوطني: هُزمتم في هذه المعركة أيضاً، فلوا كنتم جالسين في بيوتكم وأمام مدافئكم شاربين كأساً من الشاي مع سيجارة خير لكم أن تقدموا هذه المهزلة التي أفقدت ثقة الشعب بكم ووسعت الهوة بينكم وبين الشارع الكردي، وخاصة المثقف منه.
أدعوكم أن تذهبوا على شكل وجاهات إلى هؤلاء المرشحين الخلبيين المستقلين (لا أقصد الكل بل شريحة منهم) الذين زرعتهم السلطة ليشتتوا الأصوات الانتخابية وتتوسلوا إليهم أن ينسحبوا من هذه المهزلة وليرجعوا أدراجهم وليعيدوا صياغة المجتمع الكردي من جديد، لكي يعرف كيف يختار من سيمثله ويدافع عن حقه، ويكفيه هذا السبات وهذا الكابوس الذي حان الوقت لكي يفيق منه، بأن التنظيمات الكردية ساكنة بل متحركة فقط لمصالحها الشخصية، وتلقي بكل شيء آخر. وتكفينا هذه المزايدات على حسابنا. وقبل أن ننتخب من سيمثلنا إلى مجلس الشعب يجب أن نتأكد إن كان هؤلاء يمثلون الشعب الكردي أم لا، ثم إن كانوا اتفقوا على لائحة وصيغة مشتركة. حينذاك سندلي بأصواتنا لهم وندافع عن حقنا في الانتخابات وحقوق أخرى.
أما الآن فواجب وطني أن نقاطع الانتخابات وأن نجلس في بيوتنا، ما دامت الحالة هذه.
__________
* كاتب كردي سوري - القامشلي