ليست أصوات الانفجارات ونثار الجثث ودخان الحرائق ومناظر الخرائب هو صورة الحرب المكتملة أو نتائجها النهائية .هناك ما هو أبعد من ذلك واكثر وقع وتأثير .تداعيات الحرب مشهد مفتوح على مختلف الوقائع .قبل الشروع بالمعركة وأثنائها وبعدها .التداعيات لها تجلياتها وتأثيراتها وخطوط سيرها المفضية في نهاية الأمر نحو قراءة إجمالية للوحة الخسائر والأرباح لدى أطراف الصراع .يقال أن ليس هناك رابح في الحرب وإنما الجميع خاسرون .لكن تأريخ العالم لا زال يسطر بمداد عريض جميع الانتصارات والهزائم وينسبها ويسمي أبطالها في كلى الجبهتين بأرقام وحسابات صماء عديمة الإحساس ومقرفه.
عام 1991 كان عام الحسم وبداية النهاية لسنوات ما سمي بالحرب الباردة بين القطبين الكبيرين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي . نهاية ذاك العام بدت واضحة قطوف السبعون عام ونيف من الخصومة الشرسة والقتال القذر على كل الجبهات وبمختلف المسميات. وتلمس العالم قدرة الطرف الذي أظهر الكثير من الصلابة والتماسك والجهد في استغلال كل الأدوات المتاحة لهزيمة خصمه والإجهاز علية.
ذاك الصراع المدمر شديد الوقع والأثر والذي شاركت فيه الكثير من شعوب العالم مباشرة أو بالإنابة أحيانا. بدت أثاره شديدة الوطأة داخل المعسكرين ولكن في المحصلة النهائية أفرزت الحرب الباردة وتداعياتها بشكل جلي حسابات دقيقة عن جبهة المنتصر والآخر المنكسر.
العام 1995 تأريخ ذو مغزى وطعم خاص داخل جبهة القوى الاشتراكية ،فظهور البيريسترويكا الغرباشوفية كوصفة جديدة تحاول إيقاف التداعيات وإخراج الاشتراكية السوفيتية من مأزقها الداخلي ومعالجة الخلل والتدهور المستمر في إستراتيجيات العمل الخارجي لم يعالج الأمر وإنما جاءت النتائج مخيبة للآمال وساعدت قرارات البيريسترويكا ومعالجاتها على تسارع انهيار الاتحاد السوفيتي .
في جبهة الخصوم تطلب ذلك الأمر جهودا مضاعفة واستغلال لأقصى الطاقات، والعمل بدقة متناهية لتسريع عملية الانهيار .وظهر أن ترقيعات البيروستريكا قدمت مساعدة غير قليلة للإدارة الأمريكية في ربط الخيارات والاستحكامات وتجيرها لغاية تصعيد و تسريع التناقضات داخل الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية.
وأن كانت الإدارة الأمريكية أدركت في وقت مبكر أن عناصر التناقض والانهيار باتت تتحكم في آليات العمل ومفاصل الإدارة السوفيتية فأنها أولت اهتماما خاصا لعملية تفكيك إستراتيجيات السياسة الخارجة السوفيتية وعلاقاتها بأزمات العالم حينذاك .جهدت الإدارة الأمريكية على إعطاء الاهتمام المناسب لمبادرات الشراكة ومعاهدات السلام ونزع الصواريخ وترتيب مسارح الصراع الممتدة في جميع أنحاء العالم ،خلافا لما كان عليه الوضع أيام خروشيف وبرجنيف حيث الأساليب المتشددة الداعية للتقاطع مع فرص السلام التي يعرضها الاتحاد السوفيتي .وكان ذلك جزءا مهما لتحيد الخصم أولا ثم جره نحو خيارات تصب في نهاية الأمر لصالح المقاربة والموائمة مع وجهة النظر الأمريكية في رؤيتها لنمط الحلول الواجب أتباعها في الأزمات.كانت المطاوعة السوفيتية مبعث اطمئنان ورضا الإدارة الأمريكية علاوة على وضوح عجز إدارة غرباشوف الكلي وعدم قدرتها على استعادة زمام الأمور والسيطرة على التداعيات الداخلية والذي رجح كفة الخيارات الأمريكية . لذا فقد مهدت الإدارة الأمريكية عام 1990 وفي بداية أزمة احتلال الكويت لنقل الآلاف من الجنود والمعدات العسكرية الأمريكية الموجودة في أوربا الغربية الى خطوط المواجهة في صحراء حفر الباطن وشرق السعودية للمشاركة في إخراج العراق من الكويت .كان هذا الآمر واحدا من أكثر تداعيات الغزو الصدامي إيجابية وخدمة للإدارة الأمريكية وأعتبر وقتها مكسبا قدم لها على طبق من ذهب .
كان الأمر يتطلب إعادة هؤلاء الجنود والمعدات الى الولايات المتحدة مع انتهاء ما سمي بالحرب الباردة مما يتوجب دفع مبالغ هائلة لأجراء عمليات من هذا النوع. ولذا فقد حل هذا الأشكال المكلف حين تم توظيف هؤلاء في عملية عاصفة الصحراء وتكفلت بلدان الخليج دفع نفقات النقل من أوربا وأطراف أخرى في العالم للمشاركة في المعركة وكذلك دفع الرواتب ومبالغ المعدات بأجور يومية عالية التكلفة وأخيرا تمت أعادتهم بعد نهاية الحرب الى الولايات المتحدة بأجور دفعتها تلك البلدان أيضا.
وإذا كانت تلك واحدة من الثمار التي جنتها الإدارة الأمريكية والتي تعتبر كسبا ماديا ومعنويا كبيرا قبل الشروع بحرب الخليج الثانية فأن هناك في الأفق الملتهب والضاج كانت تنضج ثمرة أخرى لها نمط مختلف وشكل مميز .فرصة ذهبية تلقفها البنتاغون بفرح غامر وعدها ورقة ذات أثر غير عادي في سياسته الساعية لتوجيه طعنة نجلاء للثور المترنح .
قدمت الخارجية السوفيتية بشخصية مسئولها الأول بريماكوف مبادرة لحل الأزمة المستعصية الناتجة عن الغزو الصدامي للكويت .ومع عناد الرئيس العراقي حينذاك فأن الولايات المتحدة وحلفائها وضعوا تاريخا لصدام حسين اعتبرت نهايته اليوم الأخير لخروجه من الكويت أن أراد تجنب الحرب.كان العالم يحبس أنفاسه بانتظار معجزة بعد أن رميت جانبا جميع النداءات والمبادرات التي وجهت للرئيس العراقي.بدت المبادرة السوفيتية وقتذاك وكأنها الأمل المرتقب والأخير في زحمة أصوات الحرب الضاجة .وقف الرئيس الفرنسي في جانبها وأيدها الصينيون والكثير من بلدان العالم.كانت المبادرة في سباق محموم مع الزمن وعند منعطف حاد وقبل انتهاء موعد الإنذار أنضجت المبادرة بعد الحصول على موافقة صدام بالانسحاب من الكويت ضمن ترتيبات معينة.
كان العالم يقف في أشد حالات التوجس والترقب ودول كثيرة كانت ترجو أن تخرج المبادرة بنتائج إيجابية توقف عجلة الحرب وتبعد عن المنطقة شبح الدمار الذي يلوح في الأفق.ولكن الإدارة الأمريكية كانت لها حساباتها الأخرى مع المبادرة. فقد عملت على جعلها ورقة للعبة سياسية تستطيع بها وضع السوفيت في أقصى درجات الحرج والمهانة.وكان هناك قرار مسبقا لقلب الطاولة على الرئيس السوفيتي غرباشوف ودبلوماسيته الخارجية ووضعهم في أكثر المواقف تهميشا وإذلالا في أنظار شعوبهم والعالم أجمع.
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بدأ الهجوم البري لاكتساح القوات العراقية وتحرير الكويت دون أخبار مسبق للرئيس السوفيتي ولم تحاول أن تقدم له أي اعتذار أو ما يشير لأسفها عن أن المبادرة جاءت في وقت متأخر أو أن زمن الإنذار قد تجاوزها.وقد قدمت ما يشبه التبرير والتأسف بعد نهاية المعركة.
عد الهجوم البري لقوات التحالف ورمي مبادرة الخارجية السوفيتية تحت سرف الدبابات إرخاص معنوي فائق الحدة للقيادة والدبلوماسية السوفيتية. وبدت مواقف السلطة السوفيتية أكثر ضياعا وتمزقا وهي التي كانت تجهد لاستعادة بعضا من توازنها الذي فقدته في زخم الانتكاسات الداخلية والخارجية التي توالت عليها منذ أواخر عهد رجلها الحديدي برجنيف.
لم يمضي عام 1991 حتى أنهار الاتحاد السوفيتي ليلغى من الوجود بتوقيع ثلاث دول كبرى فيه على اتفاقية بيلوفيجسك في السابع من كانون الأول (ديسمبر).
مناورة الإدارة الأمريكية تجاه المبادرة السوفيتية ساهمت بشكل حيوي في تسريع انهيار الاتحاد السوفيتي واعتبرت النتيجة تلك بالنسبة للأمريكان ولحد الآن من أحلى وأغلى وأروع الثمار التي جنوها عقب حرب الخليج الثانية .
اختفاء الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية جعل الولايات المتحدة تنفرد كقوة عظمى وحيدة تروج لمقولة نهاية التأريخ وهزيمة الاشتراكية وتكريس خيار التطور الرأسمالي .
استطاعت الولايات المتحدة التأثير بفاعلية في صياغة نظام عالمي جديد يتمحور حولها كقطب رئيسي ومحرك. وانصبت جهودها لبناء تكتلات جديدة تعطي العولمة مفهوما خاصا من خلال توظيفها لخدمة عقيدة عسكرية هجومية. ويتركز أيضا في جعل مهمة الخيار الرأسمالي بلورة تحالفات وكتل ترتبط بما يشبه الحلقات لإدارة مجالات الحياة الدولية الاقتصادية ،السياسية،الاجتماعية ،الثقافية،التعليمية وأيضا نظم الحكم وسياسات الدفاع والهجوم ضد الخصوم المحتملين لهذا الخيار.ورغم أن التنافس داخل تلك التحالفات والتكتلات لا يخلو من صراعات تحتدم بين وقت وأخر ضمن محاولة السيطرة وبسط النفوذ على الأسواق فأن الأمر لا يمنع التنسيق في التوجهات والظهور كوحدة متكاملة تفرض دكتاتورية السوق بما يحقق أرباح لمراكزها ويصب في خدمة الهدف العام للخيار الرأسمالي.ولكن التنافس الحاد بين الشركات متعددة الجنسية وكذلك تغلغل نفوذها بين الهيئات والمؤسسات الوطنية وكذلك داخل تلك الأحلاف والتكتلات مع ضعف دور الدولة الوطنية في التأثير على سياسة تلك الشركات سارع في ظهور أختلالات يبدوا أحيانا من الصعوبة السيطرة عليها، مما أوجد الكثير من الآثار المدمرة التي طال أذاها الدول الفقيرة وبدأت تتبلور بشكل مؤثر داخل البلدان الصناعية.أن تلك الظواهر تعبير عن المحتوى العام للخيار الرأسمالي وتجليات لمساؤه .
اعتبرت الإدارة الأمريكية نفسها مسؤولة مسؤولية مباشرة عن نوعية هذه التحالفات والتشكيلات باعتبارها القطب المحرك للنظام العالمي الجديد .الكثير من بلدان تلك التحالفات تقر بهذا الشيء وتبتعد عن اتخاذ قرارات تسيء لخصوصية تلك العلاقة.لكن دول التكتلات تلك لا يمكنها إهمال خصوصياتها ومصالحها الوطنية ولربما أن الوقت لا يزال مبكرا جدا للتسليم بالكامل لمطامح الولايات المتحدة في الانفراد بقيادة العالم وأيضا الخضوع لرغبات الشركات عابرة القارات لابتلاع دور الدولة الوطنية.
يعيش العالم اليوم على إيقاع طبول الحرب ضد العنف والذي أصبح ذريعة من أهم الذرائع بيد الإدارة الأمريكية لجر الآخرين نحو رغباتها في السيطرة.ولم تكن عبارة الرئيس الأمريكي جورج بوش (أن لم يكن معنا فهو يقف بالضد منا) ألا تفسير قسري لمعنى الاصطفاف والتحالف المرغوب به والذي يجب أن تخضع له جميع الدول دون استثناء.
جريمة 11 سبتمبر قدمت للإدارة الأمريكية ذريعة ذات أثر فاعل لفتح جبهة الحرب على مصراعيها دون قيود وعلى جميع المناهضين من شتى الاتجاهات.
أصدرت الأمم المتحدة قرارها المرقم 1368 والذي خولت بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية الرد على العنف الذي وجه لها .في ذات الوقت دعي القرار الدول الأخرى للتعاون في هذا المجال .ولكن القرار أهمل وقتها تعريف الإرهاب أو في حقيقة الأمر ترك للولايات المتحدة الحق في تفسير ذلك المصطلح الملتبس. وبدورها تركت الأمر حسب مقتضيات الحاجة والظروف والمصالح الخاصة.
في الإعلان المشترك بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة وضعت توصيات للعمل في إطار شراكه ضمن ائتلاف واسع لمحاربة الإرهاب ،وبالموازاة مع هذا الشأن فأن حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة عمل جاهدا لتوسيع جبهته بضم أعضاء جدد للحلف لإشراكها في الجهود الرامية لتوسيع الجبهة العسكرية في مواجهة تصاعد الإرهاب والعنف والنزاعات في العالم وتأكيدا وتكريسا لرموز القوة والهيمنة اتجاه توصيفات عالمية بدأت تظهر وتشكل تحديات جدية لخيارات التطور الرأسمالي المنفلت والعسكرياتية.
أحد أهم التكتلات التي شكل وجودها ملمحا في الاستقطاب والتأثير العالمي عبر العشر سنوات الماضية هو الاتحاد الأوربي .من المؤكد أن أهم الضغوط التي دفعت الحكومات الأوربية لتطوير هيئات ومؤسسات الاتحاد كان ولازال إدراكها للتهديدات الجدية التي تشكلها الشركات متعددة الجنسية .والتآكل المستمر لدور الدولة في صياغة القرار الوطني، والوقوف في مواجهة شروط الهيمنة وفرض الإرادة الذي تمارسه تلك الشركات ،والرغبة في ضمان تدارك الأخطار المفترضة التي تهدد الاستقرار في القارة الأوربية.ويعد تعزيز دور مؤسسات الاتحاد جزء مهم لتعزيز دور الدولة القومية في ضمان مصالح شعوبها، وبما يوازي أتساع الخيارات الإستراتيجية للعولمة والذي يتطلب تشكيل تكتل متماسك يمثل واحد من أهم مراكز الاستقطاب الرأسمالي وذو قدرة على المنافسة القوية مع أقطاب أخرى في السوق العالمية مثل اليابان ـ تكتل الدول الأسيوية ـ الصين ـ أمريكا .
بذل الاتحاد الأوربي جهود حثيثة لاتخاذ سياسة موحدة اتجاه الأزمات في العالم وأظهر في العامين الماضيين تقدما ملحوظا عزز دوره عالميا كقطب يمارس دوره بمسؤولية ومشاركة فاعلة لمعالجة الأزمات.ولكن هذا الأمر لم يكن يخلوا من عوائق حقيقية هددته دائما بالصميم وجعلته يتعرض لانتكاسات قوضت محاولاته الدؤوب للظهور كتلة موحدة القرار.وساهمت تلك العوائق في أغلب الأحيان على خلخلة قراراته وتجريدها من قوة الفعل والمحتوى وبالأخص فيما يتعلق بأزمات قريبة من عقر داره ( يوغسلافيا ـ قبرص ـ تركيا ) ولكنه استطاع تخطيها بنجاح نسبي. ولكن الأمر يختلف كليا في شؤون أخرى ولم يظهر بذات التأثير فيما يتعلق بمشاكل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ـ الشيشان ـ إيران ـ ليبيا وأيضا الشأن الأفريقي والنزاعات في شرق آسيا. ويرجع جل تلك المعوقات الى ترابط حلولها مع سياسة الإدارة الأمريكية في الدرجة الأولى ونزاعات المصالح الاقتصادية والقومية بين دول الاتحاد وكذلك العلاقة الخاصة والتفضيلية التي تربط الولايات المتحدة وبريطانيا.
أن الخلافات بين الأعضاء في الاتحاد الأوربي وبالذات الدول ذات الثقل الصناعي والوضع المميز (فرنسا ،ألمانيا ،بريطانيا ) يمثل أكبر التحديات التي تبسط دائما ضلال قاتمة على توجهات وقرارات الاتحاد وتلك الخلافات تستند أساسا الى ترابطها مع أنشطة الشركات الوطنية والصراع الحقوقي ضمن ما تبيحه أعراف العمل داخل التشكيلة الرأسمالية.وساهم انعدام الثقة المتبادل والتنافس على قيادة الاتحاد بين زعامات تلك الدول على مفاقمة وتصعيد الخلافات .ولا يخلوا الأمر من دوافع التميز القومي وهواجس الرأي العام الداخلي.وتتعدى الخلافات الشأن الداخلي الى تأثير العلاقة الترابطية بين تشكيلة الاتحاد وطبيعة الاستقطاب الرأسمالي الذي يفرض علاقة خاصة متشابكة مع القطب الأكثر فعالية وتجانسا ( الولايات المتحدة ) تنبثق عنه تداخلات متشعبة تمليها شروط بنيان تلك العلاقة الترابطية الرأسمالية بصيغة تعامل فردي أو ضمن مجموعة الاتحاد.
تسعى الولايات المتحدة وفي أغلب تلك العلاقات على جعلها تميل لصالح وضع الخيارات ضمن شروط تصوراتها عن أسلوب معالجة الإشكاليات والأزمات.وهذا الأمر سبب في الكثير من الأحيان تقاطعا مدمرا داخل الشراكة المفترضة التكامل بين دول الاتحاد والولايات المتحدة وأيضا بين الدول داخل الاتحاد.وكان عدم اكتمال عدة الاتحاد كوحدة أوربية بهيئات متجانسة موحدة الصوت رجح دائما تمرير خيارات مقاربة أو تبنى أفكار القطب الأمريكي على حساب المصالح الجمعية للاتحاد.
تعمل الولايات المتحدة على إبقاء الاتحاد بما هو عليه من تشتت واستمرار الصراعات الداخلية بما يضمن ربط نشاطاته بما يخدم مصالحها القومية. وتسعى لجعله أكثر ارتباطا واقتناعا وتحقيقا لرغبتها بالتفرد لقيادة العالم.وتبدو فكرة أن يكون الاتحاد الأوربي قطبا اقتصاديا محوريا ينخرط في إدامة وحدانية الخيار الرأسمالي بالغة الأهمية لصانعي القرار الأمريكان ولكن بشرط أن تعمل جميع هياكل الاتحاد ونشاطاته لتكريس تبعيته لخيارات الولايات المتحدة و نظام القطب الواحد القائد.إما أن يكون الاتحاد متقاطعا في إجراءاته مع مفاهيم الإدارة الأمريكية عن الأزمات العالمية فذلك ما لا ترغبه الولايات المتحدة وأيضا الكثير من الدول داخل الاتحاد ذات الاقتصاديات الضعيفة والتي تعتمد على المساعدات والمنح والبرامج الأمريكية.وهذا ما أظهرته الأزمة في يوغسلافيا وكوسوفا والعلاقة بإيران وليبيا وعلى صعيد الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
الأزمة العراقية أظهرت نزوع الولايات المتحدة الى فرض الخيار ذاته على الاتحاد الأوربي والساعي الى تكريس انصياع الاتحاد التام لحلولها بما يتعلق بمعالجة إزالة أسلحة المار الشامل العراقية بواسطة القوة.وهي حريصة على تعزيز نفوذها وفرض خياراتها بما يضمن خلخلة مواقف الآخرين ووضعهم في أشد المواقع حرجا .فإذا كانت مواقف الاتحاد الأوربي السياسية في مجالات متعددة من المنازعات ومكامن الخلاف في العالم لم تظهر معارضة دائمة أو مستعصية أو لم تقع في صدام مباشر مع الولايات المتحدة وكانت هناك مشتركات كثيرة يمكن تغليبها على نقاط الخلاف، فأن الأزمة العراقية الحالية جعلت الصراع يختلف كليا وينفتح على أكثر المشاهد التاريخية قتامة بالنسبة للاتحاد الأوربي والعالم.وأن رغبة الاتحاد في إظهار استقلاليته عن الولايات المتحدة جعلت صقور الإدارة الأمريكية مفتوحي الشهية لتوجيه أقسى طعونهم وتركيز اهتمامهم لتفتيت تكتل ينزع نحو صياغة تبتعد عن الالتقاء والتابعية المنتظرة منه .لذا فأن تصريح وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد أستبق الجميع ليفصح عن تلك الرغبة حين قال (على الفرنسيين والألمان أن يعلموا أن هناك أوربا قديمة وأوربا حديثة ) القول ذلك يعني بدقيق العبارة أن أوربا قادمة على تغييرات كبيرة وظهور تكتلات جديدة بأشكال غير ما هي عليه الآن.ولذا فقد شارك آخرون في الإدارة الأمريكية بتصعيد الخصومة نحو أقصى درجاتها في رغبة جامحة لرؤية الانقسام في الاتحاد على حدته وبنتائج تضمن استمرار فاعلية قرارها داخله ،وعزل المعارضين عن القيام بأدوارهم .أن قول رامسفيلد والآخرون أريد به وضع أكبر كمية من الملح داخل جروح الاتحاد الأوربي .ومع الهدوء والتأني الألماني الذي قوبل به تصعيد الولايات المتحدة ،فأن الجانب الفرنسي كان شديد الحدة ومتشنج ومستعد للقتال ضد سياسة الهيمنة والتحجيم التي يمارسها الصقور في الإدارة الأمريكية.
بداية الخلاف الحقيقي برزت أثناء طرح القرار 1441 الخاص بالعراق للنقاش حيث رشحت خلافات جدية في تفسير الغاية من القرار وكيفية صياغته وكانت خيارات الفرنسيين لا ترغب بتجيير القرار برمته لصالح رغبات الإدارة الأمريكية .وأرتفع عاليا الصوت الألماني الذي أنظم لحليفته في الاتحاد في الممانعة لاتخاذ القرار كذريعة للذهاب مباشرة الى الحرب.ضلت هذه الخصومة عالقة دون حل رغم أن القرار 1441 صدر بنتيجة تتوافق ورغبة الفرنسيين منه ولكنه أشر بوضوح لبداية النفرة.
الولايات المتحدة الأمريكية تدرك جيدا أن التحالف الفرنسي الألماني لا يمكن إنضاجه كمحور أو قطب دون حاضنة تمثلها الساحة الأوربية مجتمعة.ولا يمكنه أن يشكل محور استقطاب للآخرين مع عمق التباين الألماني الفرنسي ذاته ووجود الكثير من العوائق البالغة التعقيد منها التنافس الأقتصادي داخل الأسواق الأوربية والعالم ،ووجود دولة الشقاق المجاورة بريطانيا، وكذلك رغبة غالبية الدول المحيطة بالحليفين وعموم أوربا لإبقاء العلاقة الخاصة مع الحاضة المركزية .ولربما يتطور هذا الأمر الى محاصرة لو تم قبول الأعضاء الجدد من طالبي الانضمام .ولا يخلوا الأمر من التلميح الدائم ببقاء البعبع الروسي عند الخاصرة الأوربية والذي لا زالت الأدارة الأمريكية تصوره مصدرا للتهديد رغم تحول سياسته بما يماثل سياسات بلدان العالم الثالث وأن خياراته صارت تتذبذب مع مقدار العطايا الممنوحة له من هذا الطرف أو ذاك .
أذن المأزق العراقي أعاد للواجهة مشاهد تداعيات حرب الخليج الثانية ولكن بواجهات وضحايا أخر، وأن الشرخ الذي أحدثته الأزمة العراقية بين الولايات المتحدة والأتحاد الأوربي قضى بشكل نهائي على جهود سنوات طوال عمل فيها الأوربيون لتشكيل تكتلهم أو قطبهم .وفي التشكيلات أو التحالفات التي تظهر مستقبلا في الساحة الأوربية سوف تلعب دول أوربا الشرقية دور مؤثر في وضع جميع أو أغلب أوراق الحلول بيد القطب القائد الولايات المتحدة.
الأزمة تعدت مشكلة نزع سلاح العراق وذهبت في عمق الشأن الأوربي وطال الصراع الجناح العسكري للرأسمالية (حلف الناتو) رغم جهود أعضائه الكبيرة على لملمة الخلاف والخروج من الورطة بالموافقة أخيرا على مد يد العون للجناح الجنوبي للحلف ( تركيا ).ولكن الثورة الفرنسية وهياج الرئيس الفرنسي الذي تجاوز ما يعرف عنه من دبلوماسية وكياسة ،فراح يوجه لعناته على الدول طالبة العضوية في الاتحاد حين قال مذكرا برسالتها المؤيدة للولايات المتحدة ( هذه الدول أقل أدبا وكان عليها أن تصمت) ولكن الجواب البولوني حول قول الرئيس الفرنسي أوضح البعد الحقيقي للورطة التي وضع فيها الأمريكيون حلفائهم في الاتحاد وهيئاته ،حين رد رئيس الوفد البولوني على ذلك بالقول ( كلما تخاصمت مع زوجتي أشتم أطفالي) .العلة والأشكال يتعدى الظاهر من الأمر ويتركز في مسألة تحتاج الى تركيبة حديثة تحدد الفهم العام لعلاقة أوربا بالولايات المتحدة .والسؤال القادم داخل الاتحاد والذي سوف يفجر عند نهاية الأزمة مع العراق هو.
الاتحاد الأوربي حليف أم تابع للولايات المتحدة ؟. وضمن الأعراف الدبلوماسية سوف يصاغ بشكل جد مؤدب :
ما نوع التحالف وأين حدوده ؟.
وبدورنا نتساءل اليوم هل كان الاتحاد الأوربي أولى ثمار حرب الخليج ( الثالثة ) وأن أفواه الإدارة الأمريكية الشرهة ابتلعتها بسابق الإصرار والترصد.
اليوم عاد المخضرم السيد بريماكوف الى ساحة العمل السياسي بعد تركه أروقة الحكم في النظام الروسي . بريماكوف القريب من الرئيس العراقي أو من منظومة أفكار السلطة الحاكمة في العراق بحكم عمله السابق ولقاءاته المتكررة بهم .الرجل المكوك السابق قدم مبادرة جديدة وقيل أن مبادرته لقت بعضا من الرضا عند الجانب العراقي .تتلخص الخطة بتشكيل توليفة غريبة تنص على أبقاء الضبع الجريح على راس السلطة لمدة عام تقود فيه سلطة وطنية تجري أنتخابات ديمقراطية.ما يحدث خلال هذا العام المنشود لا يعلم به غير الراسخون بالعلم وبواطن الأمور والحواة والسحرة وراء الكواليس .وقيل أيضا أنه حذر الرئيس العراقي وقدم له عرض للجوء الى روسيا الاتحادية حسب المصادر الإيرانية.نموذج المبادرة البريماكوفية يتداول أيضا في أروقة الجامعة العربية وكذلك الاتحاد الأوربي وما حضور وزير الخارجية اليوناني ممثل الرئاسة الأوربية مؤتمر وزراء الخارجية الذي عقد في لبنان مؤخرا إلا محاولة لصياغة مبادرة من هذا النوع لمد حبل النجاة لحلول أخرى تبعد شبح الحرب وتقطع الطريق على النيات الأمريكية.
لاتهمنا الآن ما تسفر عنه نتائج هذه المبادرات بقدر ما يهمنا أثرها على الوضع في الأتحاد الأوربي وعلاقته بالولايات المتحدة وفاعليتها في أنهاء الأزمة العراقية وقدرتها على أبعاد شبح الحرب .وأيضا رأي الولايات المتحدة بها وتأثيرها عند وليس على صانعي القرار الأمريكي.ونحن هنا لا نملك غير الأسئلة المحيرة مثلما هو الشأن العراقي دائما.
ما عاد بريماكوف يحمل بريق الأمس. ولولا الترسانة النووية ووجودها في مجلس الأمن فأن حظوظ السلطة الروسية في علاقات العالم لربما لن تكون أفضل مما تقدمه البرتغال الآن في النشاط الدولي.أذن ليس هناك في جعبة الروس غير الخوف على مبالغ الديون وبعض الصفقات المعلقة مع الجانب العراقي، والرغبة في بناء أسس قواعد عمل جديدة مع القادمين لحكم العراق ولربما السعي من أجل الإقرار الشعبي العراقي الذي يأتي لاحقا عن فضل الجانب الروسي كونه أستطاع أبعاد شبح الحرب من خلال مبادرته بأفتراض أنها قبلت.
ربما أن أحوج الأطراف لهذه المبادرة اليوم هم الأوربيين .فتوقف طبول الحرب وإبعاد شبحها لربما يلملم خيوط القطيعة ويدفع الجانب الأمريكي لتسوية معقولة مع الاتحاد ويهدئ أيضا ألمانيا وفرنسا مما يساعد على جسر الهوة وعودة العلاقات من جديد بعد أن زالت أسباب الخلاف وهدأت النفوس الغاضبة، لتعاد أسس الشراكات السابقة ويحافظ الأتحاد وحلف الناتو على هياكله بترتيبات جديدة تطمئن جميع الشركاء ودون تعديات على أسس الأمس .
أن الشق الأول في المبادرة والذي أعلن عنه في أكثر وسائل الأعلام والذي يشير لتوليفة حاكمة يحتفظ بها الرئيس العراقي بمقعده لمدة سنة واحدة لا يتلائم مع الحشود الأمريكية ومسعاها لتغيير نظام الحكم في العراق ولن يكفل لها النجاح في صفقة الحرب (التجارية) الساعية إليها لو تم لها احتلال العراق.وفي هذا الحل سوف يكون موقف الأمريكان في حرج شديد أمام الشعب الأمريكي وأيضا أمام حلفائها .ويعطي الانطباع على أن صدام حسين نال نصرا ولو لفترة قصيرة .وهذا يكفي نوازعه بالأحتفاظ بكرسيه وشعوره بالعظمة . ولربما أيضا أن مدة السنة بعد أنسحاب الحشد الأمريكي تحمل الكثير من المتغيرات على مستوى التحالفات الخارجية والتركيبة داخل الحكم العراقي مما يبيح للمصالح الدولية إعادة تشكيل الخريطة السياسية داخل العراق وفق ضوابط القوة والمصالح. والإدارة الأمريكية تعدت تلك النقطة وأعتبرت أسقاط صدام يمثل أحد الأسباب الرئيسية لقدوم حشودها. وأن وجوده يمثل أحد العوائق الواجب اكتساحها.وهي ساعية لجعل القادم للحكم خاصية أمريكية وليس توليفة يشارك بها الجميع وممن لا تربطهم علاقة بمشروعها.لذا نرى تقاطع التصريحات بين فرنسا التي تقول بأن المجتمع الدولي يسعى لنزع سلاح صدام وليس الأطاحة به وبين ما تطرحه الإدارة الأمريكية التي تؤكد غالبا على أن الرئيس العراقي بحد ذاته سلاح جرثومي خطر. لذا تفضل الإدارة الأمريكية خيار المبادرة الثاني الذي طرحته الصحافة الطهرانية عن محتوى المبادرة البريماكوفية .أي أن على الرئيس العراقي الخروج بصفة لاجيء وفي أي بلد .وحتى في هذا الجانب لم تفصح الإدارة الأمريكية عما يشير لضمانات أو عفو عن صدام أو أعطاءه الحصانة ضد الملاحقات القانونية التي سوف تعقب خروجه.
أذن هل أن الولايات المتحدة تهمها العلاقة مع الأتحاد الأوربي رغم الثغرة الواسعة التي فتحت بين الحليفين وبالذات مع الفرنسين والألمان .وهل تحث الخطى لجعل مبادرة بريماكوف أن صحت عربون للحفاظ على الود القديم .أم أن الولايات المتحدة ساعية لرمي مبادرة بريماكوف الجديدة وشبيهاتها تحت سرف الدبابات مرة أخرى والسير الحثيث لبناء تكتل أوربي جديد أكثر خضوعا لنزواتها ورغباتها.أم أن المشهد مفتوح على خيارات لا يمكن لملمتها وسوف تطال تأثيراتها جميع العالم وهيئاته وأقطابه .وتكون هناك الكثير من الثمار الناضجة والمتساقطة.
أيلاف