عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5693 - 2017 / 11 / 9 - 23:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مصطلحات فكرية
النسبة
الفكر الحداثوي وفكر العولمة وفكر القرون الوسطى وكثيرا ما تقترن هذه التسميات بمحطات الزمن بالفكر ليحدد نوعية واتجاه وصيرورة لوصف فكري ما، يعتمد فيه على مقاربة الزمن كموضوع قيمي أو قياسي وبالتالي هدر الفكر ذاته كقيمة مجردة لها حضورها الخاص في الواقع, الوضع في هذا المقام لا يتناسب مع فكرة تجريد الفكر عما حوله خارجا باعتباره قيمة مستقلة ومن خارج الموضوع الزمني مكانا وواقعا, النتاج الفكري الإنساني كله واحد في النهاية التقيمية له ويسير وفق وتيرة أخذه بالتصاعد والانطلاق نحو مديات واتجاهات أمامية دوما، وأن صادفته بعض من التعرقلات والتأخير في أزمان ولحظات محددة، لكنه ظل يواصل المسيرة بذات الاتجاه دون أن يفرض الزمن استحقاقاته عليه أو يحدده المكان بنطاق أسر.
الفكر الإنساني يمكن تشبيهه بقطار يمشي على سكة متوجه لغاية لا بد أن يبلغها لكنه لا يعرف بالتحديد مقدار المسافة الفاصلة ولا حتى حدودها المتوقعة, يمر بمحطات عديدة ومتنوعة وعلى مسافات مختلفة، هذه المحطات فيها تتوزع شكليات وأوصاف وألوان متغيرة وتتمتع بخصائص فلا يمكن أن ننسب القطار للمحطة الفلانية لأنه قد مر بها أو سيمر من خلالها، بل يبقى القطار بذاته الموصوفة بما هو مجرد وتبقى المحطة كذلك, لا يمكن أن نطلق على الفكر على أنه حداثوي أو عولمي ولكن يمكننا أن نقول أن الفكر يمر بمرحلة الحداثة والتحديث، ولا بد أن تتأثر مسيرته شكلا وليس موضوعا وطريقة سيره بالمرحلة من حيث اقترانه بزمن الحداثة وما تقدمه من تسهيلات وركائز فقط، على أن يبقى هذا الفكر نتاج إنساني مجرد وهو الذي يصنع للزمن وصف وحدود.
بهذا يكون الفكر الإنساني يمثل الظاهرة المتتالية التي لا تنفذ ولا تنقطع قد تتوقف حسب شروط الواقع الزمني، تستأخر في مفصل ولكنها من المؤكد تستكمل المسيرة بخط متصاعد إلى أمام, الفكر من الظواهر النادرة التي لا تحكمها مسألة المنحى الوجودي المؤدي إلى مفهوم الخضوع للدورات التأريخية, أي أن الزمن لا يدور بالفكر في محيط دائرة لأنه وعلى طول مسيرة الإنسان لم يرجع الفكر لبدائيته ليتوالد من جديد ولا خضع لمنطق الدورة, الفكر أشعاع أمامي وجانبي نافذ للواقع الإنساني وقد يخرج من حدود الممكن تعقلا من عنده, لم يستغل الإنسان هذه الخاصية والتي تسمى في الفكر الديني بخرق الحجب أو النفاذ من الحجاب المانع ليرى ما خلف جدار الواقع كمادة عازلة, الحجاب الفكري هو حكم الواقع المعطل لنفاذ شعاع الفكر نحو المستقبل، وهو حقيقة شهدت ولادته عشرات الحوادث الفكرية بما يسمى بالتنبؤات التي سبقت الزمن بمراحل, النبؤة هي أختراق لواقع الزمن من خلال نفاذ الفكر للحجاب العقلي الموضوع على أطراف وحدود التفكير الإنساني.
قد يظن البعض أن موضوع التنبؤات وما يفهم منها هي مجرد محاولات فكرية ونشاط عقلي تلعب الصدفة فيه دور المحدث، ولا علاقة لما يعرف بالأختراق الفكري للزمن فيه، بأعتبار أن النبوءة حتى تتحقق لا بد لها من زمن قادم، وقد يكون الحدث مجرد تشابه لخيال أو أفتراض خيالي صنعه الذهن الإنساني في حالة رومانسية فكرية، صحيح أن النبوءة من حيث هي خيال أو تأمل خيالي يصنعه العقل البشري بأحلامه، ولكن عندما تتطابق وصفيات الخيال هذا مع أوصاف الحدث في وقوعه المتنبأ به، لا بد أن نقر أنه ليس من فعل الصدفة، النبؤءة قد تكون جزء من حلم حين يتحرر العقل في مرحلة التحلم من دائرة حبس المادة ليخرق أو يخترق الزمن التاريخي في لحظة عند ما يسمى بالزمن الواقعي الذي مر بنا ولكننا ما زلنا لم نصل له.
فالزمن كما نعرف زمنين الأول ما نشهده نحن بتفاصيله كما نشهد عرضا سينمائيا طويلا، وهناك زمن أخر زمن واقعي حدث في العالم وأنتهى وتم تصويره من جهة هي التي تعرض لنا مسلسله كفلم، هذه الجهة شاهدت وعاصرت الحدث كاملا وتعرف من خلال ما شاهدته كل المشهد كاملا، أما نحن ولأننا جزء من ذاك الزمن المشاهد فما زلنا بوعينا الخاص وبزمننا الخاص نعيش اللحظة التأريخية في حدوثها ولم يتسنى لنا أن نرى ما هو قادم، بالرغم من أننا عشنا الحدث كاملا، والسبب أن الزمن هنا مختلف ووعينا تبعا لذلك سيكون مختلف، وأن التأريخ كماضي بالنسبة لمن سير الزمن هو كل الزمن الماضي والحاضر والمستقبل الذي عشناه ونعيشه نحن لأنه تم عنده ولم يتم عندنا.
نعود إلى نهاية الفكرة وهي النسبة الزمنية للفكر والتي تمثل عند البعض محطات ضرورية للتفريق بين المراحل التطورية لحركة هذا الفكر، فلو سلمنا جدلا ومثلا أن الفلسفة الألمانية بوججها المادي والأخلاقي كفكر إنساني مر بتطورات وتقلبات عديدة وعصور ومدارس وأوصاف أحيانا حتى متضاربة، كيف يمكن لنا أن نفصله عن تراكم ما أنتجه الفلاسفة الأخرون من قوميات ومجتمعات وعصور تأريخية حتى يمكننا أن نقول عنه أنه يمثل العقلية الألمانية في العصر الحديث أو المعاصر، وهل حقا أن هذه الفلسفة تمثل عصرها كروح له وكعنوان، بالتأكيد لا يمكن فصلها عن سيرورة حركة الفكر الإنساني وتواصله، إنما نطلق عليها مثلا الفلسفة الألمانية المعاصرة لنصل إلى تصور نسبي و قياس وهمي لها عند القارئ أو الدارس لها، وإلا فهي من حيث الجوهر جزء من الفكر الإنساني خارج الزمان والمكان.
التصنم الفكري... مغايرة ومعايرة
من أمراض الفكر الإنساني المزمنة مرض التصنم الأيديولوجي والتحجر الفكري في حدود الأيديولوجيا، ومن أعراضه أعتبار أن كل النتائج المتحصلة فيه ومنه ما هي إلا محطات مقدسة مننتائج نهائية لا يمكن حتى التفكير بتجربة المغايرة عليها أو المعايرة فيها, الفكر الرباني الديني تخلص منها من خلال تجديد النصوص والأفكار تبعا للبيئة والحل والتطور في فهم العقيدة الدينية، إلا أن الفكر البشري بقراءته الأعتباطية لها أعاد تصنيم هذا الفكر المتصنم وتركوا منهج المقاربة والمقارنة والمحاججة المنطقية (قل أروني ماذا خلق الذين يدعون من دون الله)، هذا العرض الاستفزازي من السماء مغاير لمفهوم الإنسان الذاتي من كون الصنمية الفكرية هي صورته المثلى.
النص يتحدى الفكر بالفكر وليس بمعنى الإعجاز هنا بل بمعنى البحث مقارنة منطقية ثم التقرير النهائي للسؤال بحقيقة عجز الإنسان, كان النص يدور عن حقيقة البحث عن الإبداع وليس إثبات البدعة الفكرية المسماة أعجاز, الخلق هنا هو جوهر فكري لكل مسايرة لخارج الأعتقادات الصنمية التقليدية التسليمية لواقع الحال، بل هي دعوة موجه للعقل أن يساوق ولو بدرجة ما الخلق الرباني على أفتراض المقارنة لو صحت بين حالين, وهو العالم أن البشر لا يمكن أن يكون مسايرا لمنهج الخلق ولكنه مدعوا لها على سبيل العلم لذا قال ((أروني)), النص هنا دعوة صريحة لعدم تبني الأيديولوجية بأي شكل ووفق أي منحنى ما لم نخضعها دوما للسؤال والتدقيق النقدي، بل هي أكثر من دعوة للانفتاح والبحث ورفض الأشكال والطروحات الصنمية الجامدة سواء منها القابل للتهشم والتلاشي وهو الفكر الخشبي أو الذي يتصف بالصعوبة في المحاولة على التشكيل المتجدد في كل مرة، ومرض التصنم الحجري وهو أشد أمراض الفكر ضررا ورفضا للتطور.
التصنم في هذه الشكلية ليست نتيجة الإعداد المسبق للنظام العقلي وحده بل كان واحدا من الأسباب الممكنة له, تعود جذور التصنم لحقيقة الإنسان النفسية حيث يرى في نفسه صنم شخصي لأفكاره وإن كان متحركا، لأنه من نفس معدنية الصنم الطبيعي ويشاركه في التجسيد الذهني خارجا, برغم أن الإنسان لم يعرف شكل الرب ولم يره لكنه عندما أراد أن يصنم صورة الرب نقل صورة الصنم الذي بداخله بشكله الخارجي وأفترض أنه هو الرب, هل هذا الفعل منقطع عن جذور عقلية أو مبررات منطقية أمن بها, الإنسان المفكر بعقل منفتح يرفض أن يكون الله بهذه الصورة، ليس لأنه لا يؤمن بكونه شبيه الإنسان بل لأنه يعي أن حدود القدرة التي يجسدها شكل الصنم ومهما أوتيت من قوة لا يمكن أن تكون فاعلة بحد البدن, المفكر الحقيقي يرى أن رب الكون عقلا وفكرا لا بد أن يكون أكبر وأعظم من هذه الصورة لذا بادر لرفض الصنمية بأي حال ولأي سبب, هنا يقود المفكر دور القائد الواعي في مسيرة العميان لزيارة الرب.
التصنم الفكري هو تعطيل لحركية الزمن في الفكر وحركة الفكر مسابقا للزمن وتفريط بالمكسب الإنساني من حركة الكون كله, هنا علينا أن نتوجه لأصحاب فكرة أن بعض الأفكار محاطة بما يشبه العصمة من التغيير على أساس صلاحيتها المطلقة ونسألهم السؤال التالي, من يفرض أو يدعي صلاحية العصمة للفكر؟. إن كان الإنسان فلا يجوز اصطناع الدليل دون برهان, والبرهان أن نخضع هذه المقدسات المعصومة للتجربة لتدافع عن نفسها, إن أثبتت أنها قادرة على التغلب على الزمن لا مجال لإنكارها لأنها وبالدليل برهنت لذاتها بذاتها فنؤمن بها, أما لو فشلت فهذا يعني سقوط العصمة عنها منطقيا ولا تنفع مع السقوط أداعائتنا الشخصية, قد يسأل أحد من يضع شروط التجربة والبرهان لذلك, هنا نحتكم للحركة الوجودية في داخل الزمن هي التي تقرر دون أن يكون للإنسان أي دور إلا مراقبة التجربة ومتابعة تفاصيل البرهان, في هذه العلمية نصل إلى تعرية حقيقية التصنم مهما كان مصدر ادعاءه أو أساس وركيزة هذا الإدعاء.
المطلق والنسبي
تشكل مفاهيم المطلق والنسبي قضايا خلافية بين الدين والعقل كما تشكل بذاتها مسائل خلافية أيضا في كل منهم على أساس الحدود والماهية, لكن المطلق والمقيد في الدين له حضور واضح وجلي بجملة من الإيمانيات التي مجرد التفكير فيها تخلخل قواعد الإيمان، مثلا قضايا مثل أحدية الرب والوحي والنبوة من قضايا المطلق لأنها من أساسيات التسليم, فمن يناقش وحدانية الله مثلا سيصطدم بمفهوم الغيرية بين الخالق والمخلوق, فهو إن تناولها من ناحية المنطق الإنساني قد لا تتوافق مع منطقها الديني وإذا ناقشها بتجرد تام من المنطقين لا بد أن يسلم بهذه الغيرية، وبالتالي يبقى المطلق متاح للتسليم العقلي أكثر من قابليته للنقاش.
في الموضوع العلمي لا حضور للمطلق بل الشك والنسبية والقيدية هي الأكثر حضورا لسبب بسيط جدا، أن العلم مبني على فرض أن كل شيء قابل للتحول والتغيير كونه يخضع لمنطق قانون المادة الأزلي وهو ((لا نفاذ للعدم ولا حدوث منه, تحول وتغيير في العرض دون المساس بالجوهر)), المطلق الوحيد في العلم هو قانون المادة وهو مطلق محكوم بالحالية وقد ينسخ في زمن أو حال أخر، عندها لا يبقى وجود حقيقي للمطلق طالما كان موضوع العلم الرئيسي المادة وحالتها فقط, أي تجريد أبدي لمفهوم مجرد أبدي بالقوة.
في النسبي تكمن القاعدة الأساسية من حيث قدرتها على الوصف والتمييز والتحديد، أي أن القاعدة التي يجب أن نتبعها هي (أن كل شيء نسبي حتى يتم إكمال صورة العلم ما لم يقم الدليل على خلافه), أي أنه طالما لم تكتمل وتتكامل صورة العلم والوصول إلى النهاية الحرجة التي تجعل منه مفهوم مغاير لما هو سائد ومسلم به تجربة وبرهان، يكون الحال الوصفي هنا نسبي عموما أي لا يمكن إسناد صفة المطلق والحقيقي عليه ما لم يقم الدليل على أن نهاية العلم بهذا الشيء قد بلغت حراجتها, في علم الجغرافية الفلكية كانت من الحقائق الأولى والتي اعتبرت لمدى زمني طويل أن الكون السماوي محدود بما كان يعتقد وأنه لا يمكن تصور وجود سماء خارج هذا الحد, الفيزياء الفكية أبطلت أصل المفهوم واثبات نصا دينيا أن لا حدود للسماء يمكن تأشيرها أو حتى افتراضها، لذا فكل تحديد يبقى نسبي ما لم نصل للنهاية العظمى التي في بلوغها لا بد من وجود موضوع اخر غيره.
قد يعترض احد المتدينين على هذا القول بأن الله تعالى قال كلي شيء خلقناه بقدر, القدر هنا كم ونوع ومقدار وبالتالي لا بد من حد لهذه المحددات كي نثبت لها واقع الكمال وبالتالي أتصافها بالمطلق النوعي، الجواب يؤكد قول الله ويثبته لكن من خلال إمكانية فهم كلمة قدر والمقدر, القدر أحيانا تأتي بمعنى التقدير من القدرة لا من المقايسة فالله تعالى قدر كل شيء تقديرا مستخدما القدرة الكينونية (إذا أردنا شيء قلنا له كن فيكون)، هذا التقدير لا يتعارض مع القول السابق بعدم المحدودية ولا ينافي أن الله قادر ومقدر الأشياء حسب دورها في الوجود لا حسب قياسات المقدار, هذا الفهم هو الذي يفسر المقدار الذي اورده الله تعالى في نص حينما قال جنة عرضها السموات والأرض, ولم يرد في القرآن الكريم إلا مواقع ثلاث في جغرافية الخلق وهي (السموات والأرضيين والملأ الأعلى) كمكان لا كحال, اذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض هذا لا بد ان نكون أمام احتمالين الأولوجود جغرافية (رابعة) لم يذكرها الله, أو أن قياسنا نحن بالمقدار الذي نحسبه غير مقياس الله الغير قابل للتحديد, ولا يعقل ان تكون النار في الملأ الأعلى.
إذن النسبية محكومة بالمعقول الممكن أما أذا فلتت عن هذا القيد صارت حالة نسبية مطلقة لا حدود لها، هنا تزاوج النسبي مع المطلق لأن قاعدة المطلق متأخرة غير أصلية، الأصلية قاعدة اللا محدود واللا ثابت واللا متناهي, في كل الأحوال لا يمكن للعقل في واقع الواقع أو عند تفلته من الواقع ولجوءه للواقع الأقتراضي أن يحدد قيم قدرية للمطلق، وبالتالي فهو محكوم بالنسبية ومستحكم بها.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟