بكيت عند إدخالي إلى مديرية أمن الإسكندرية ليلة اعتقالا أيلول الأسود -
سبتمبر 1981 – فقد شاهدت مجموعة من كهنة الكنائس وبعض المشايخ مصحوبين
للاحتجاز تمهيداً للترحيل إلى منطقة سجون طره وأبو زعبل . فقد أكدت لنا
معلوماتنا السابقة أن السادات ضاق زرعاً برموز الأمة التي ضاقت وضجت منه
شخصياً وسياسياً، حتى أصبح متحكماً بنفس الأدوات الدستورية والقانونية
والأمنية التي أبدعها عبد الناصر، مع أن السادات أدار ظهره للثورة
وتوجهاتها
وإنجازاتها .. وصباح الخميس 27/2 توجهت إلى إستاد القاهرة، وتكرر المنظر .
مجموعة من المشايخ والكهنة في طريقهم للإستاد . حييت الكهنة بحرارة ودمعت
عيناي، فها هي مصر موحدة الروح والهدف . وبسمل ممثل الأزهر تلاه ممثل
الكنيسة المصرية باسم الإله الواحد الأحد الذي نعبده جميعاً مؤكداً إصرار
البابا شنودة : لن نذهب إلى القدس إلا بعد تحريرها مع إخواننا المسلمين .
رافضاً كل أشكال التطبيع . داعماً كل أشكال المساندة .
حماس يجلب الأسى
تابعت الكلمات والشعارات . بالقرآن والإنجيل . سنقولها جيل ورا جيل تسقط
تسقط إسرائيل . شعارات الأماني . ضغطت على مواجع كبيرة . فالعدو
الإسرائيلي
عمل بالأمر الرباني : أعد قوته ورابط بجيوشه جنوداً وعلمهم وثقفهم ودربهم
.
كان عزرا وايزمان رئيس الأركان ورئيس الدولة فيما بعد حاصلاً على سبع
شهادات
دكتوراه . جنوداً احترفوا الجندية والسياسة . ناس اغتصبوا أرضاً وأقاموا
دولة . المقيمين من سكانها 3.5 إلى 4 مليون من أطفال وشباب وكبار وشيوخ من
الجنسين، يصدرون بأكثر من 65 مليار دولار بما يساوي 422.5 ألف مليون جنيه،
مع أن الناتج المحلي الإجمالي بالإحصاءات الشكلية المفترض 383 ألف مليون
جنيه وبالحساب الفعلي لا يتجاوز 280 مليار جنيه، أي أن الأربعة ملايين
صهيوني يصدرون بأكثر من الناتج المحلي الإجمالي لعدد 70 مليون مصري .. 390
مليار لإسرائيل مقابل 383 مليار للمصريين بحسابات د. عاطف ومقابل 300
مليار
جنيه بالحسابات الفعلية للناتج المصري، مع فارق نوعية السلع (!!) .
وإذا كان التصدير في أي دولة لا يتجاوز 20% من مجمل الناتج المحلي، فإن
الناتج المحلي لإسرائيل يكون 325 مليار دولار على الأقل وبالحساب المصري
1950 مليار جنيه – بسعر 6 جنيهات للدولار – مقابل 383 مليار جنيه بحسابات
د.
عاطف .. ناهيك عن التقدم العلمي والتكنولوجي .
وزاد الإحساس بالأسى . نحن نلعب في الفراغ خارج حدود الصورة والتاريخ ..
ولأن العدة التي أمرنا الله بالحصول عليها للحياة ولملاقاة الأعداء هي قوة
شاملة أساسها الاقتصاد المبني على العلم والمال والعمل، وهي أمور فرطنا
فيها، وهنا على أنفسنا، فهان الوطن بنا وارتكبنا جرم التخلف الذي يحتاج
إلى
تغيير شامل يتيح للمصريين إمكانيات الحياة . ديمقراطية تفجر طاقات الشعب
وتحفزه للعمل . وعلماً يمكنه من الإنجاز . وحفاظاً على ثروة الوطن والشعب
يمكن توظيفها لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية تحقق العدل وترفع العزل
الاجتماعي الذي يتزايد في صفوف المصريين . و .. .. .
تثبيت مساحة التخلف
أصبح عدونا ضمن الخمسة المتقدمين الأوائل في العالم ولحق بالدول التي
سبقتنا
بمئات السنين . وإذا أردنا تثبيت مسافة التخلف بيننا وبينه، فعلينا أن نصل
إلى معدل تقدمه خلال فترة لن تقل عن عشرين عاماً على أقل تقدير . لو شمرنا
عن ساعد الجد واخترنا الديمقراطية والانتخاب المباشر حكامنا وحكوماتنا .
وامتلكنا مجلس شعب قادر على محاسبة حكامه وحكوماته وتقديم البديل لما لا
يكون صحيحاً . ولمحنا كل عناصر النهضة ونهضنا . ساعتها نكون قد وصلنا إلى
مستوى تقدم عدونا وغيره من شعوب العالم .. فمن العار أن تتراجع مصر إلى
المرتبة 122 بين الــ 157 دولة، بدلاً أن تكون حتى ضمن العشرة الأوائل في
العالم . هذا المدخل . فالحاضر المتين هو أداتنا للبقاء في الحاضر
والمستقبل
. أما الماضي المجيد التليد، فهو أثر تاريخي انقطع ولم يتصل، قد يعطي بعض
المعاني التي لم نعد مؤهلين لاستيعابها، والكثير منها لم تعد له علاقة
بالواقع .. من هذا المنطلق نتمنى أن يكون اللاعبون بالساحة المصرية أكفاء
.
نتمنى للحزب الوطني والحكومة أن يكونا أداتين صالحتين للحكم، فقوتهما
وصلاحهما يقللان من الخسائر والتخلف والفساد، بما يمهد لنمو وتقدم وشفافية
.. هي أمنيات عملية، ترى المصلحة العامة الغائبة عن نتائج ممارسات الحزب
والحكومة .
مسلمون بلا إسلام . وإسلام بلا مسلمون
رواد النهضة الذين زاروا فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر، قارنوا بين
أحوال
المسلمين في بلادنا الذين غرقوا في الشكليات، وغاب عنهم وغابوا عن جوهر
الإسلام ومقومات الحياة، فتخلفوا وهم مسلمون . بينما الناس في فرنسا
أمسكوا
بأساليب الحياة في تواصل لم ينقطع منذ عصر النهضة وحتى الآن، سلوكاً
راقياً
يتزايد رقياً وتسلحاً بالعلم الذين فكوا به أسرار وطلاسم الحياة . تركوا
ما
للغيب للغيب ومالكه سبحانه وتعالى وأمسكوا بالعلم والعقل والحرية فتقدموا
..
وكنا وما نزال على العكس منهم ( إسلام هناك بلا مسلمين ومسلمين هنا بلا
إسلام ) ، ولهذا صرح شاعر العامية باكياً على ما كان " العلم كان عندنا من
صغره متربي .. لكنه هاجر وعدا البحر متخبي " . وبقينا ندعو بلا عمل،
وأحياناً نعمل بلا علم ووعي . يتدروش البعض أو يتأسلم أو ينافق، والبعض
يعلي
الاستغلال والنهب على المصلحة الوطنية . والجميع باختلاف أو اتفاق في
الهدف
يتوحدون في تحليل ما يضر بالمصلحة العامة، وبالضرورة يبرر ويحرم ما يحقق
المصلحة العامة .. وما بين هؤلاء وأولئك تتواجد مجموعات في كل المواقع
ترتضي
بالفتات، تخدم على أصحاب المواقف الضارة، يطمحون في موطأ قدم لعله يفلت
إلى
عالم كبار الثروات والامتيازات غير المشروعة . وتمضي الحياة للخلف .
ما بين الحياة والموت
يمر العالم بلحظة فاصلة من تاريخ البشرية، يعاد فيها ترتيب أوضاع البشرية،
يبرز إلى سطح الحياة الدولية تعدد في مراكز القوى الدولية، وتفقد أمريكا
موقع التفرد الذي مارسته بشكل بارز ما بعد الاتحاد السوفيتي وطغت وتجبرت
بعد
أحداث سبتمبر، وأرادت تركيع العالم على أرض العراق . وهبت شعوب العالم
والدول والكتل الدولية تزيح وتتصدى للصلف الأمريكي . العالم ما بعد العراق
يتغير، ومصر مع الدول العربية تقف بين خيارين : إما أن تعبر إلى المستقبل
بكل أعبائه أو يتراجع الحكام العرب بشعوبهم لمزيد من التخلف .. ولأن
الشعوب
لا تموت . نحسب أن التغيير قادم قادم قادم . لن يستطيع أحد أن يوقف عجلة
التغيير . فقط يستطيع الأذكياء أن يدركوا ضرورات اللعبة بدلاً من لوح
الرقاب
.. مضى زمن الفترينات . فهل لنا من وقفة . هل نراجع موقفنا . هل نتوحد حول
مشتركات وطنية لا تحتمل الخلاف . الديمقراطية . للعلم . للتقدم . لنصيب في
ثروة الوطن يتساوى مع الجهد والتضحية ؟؟!! .. أن نترجم اهتدائنا برسالات
السماء وطموحات وقيم الحياة . بالعلم والعقل، فيصح تديننا ودنيانا ؟!! .
نداء الحياة سعى له الأوائل . وما نزال على دربهم سائرون .. فهل يستجيب
الآخرون ؟!!! .
أبو العز الحريري
نشرت بجريدة التجمع – العدد 90
--