|
صلصال
زين اليوسف
مُدوِّنة عربية
(Zeina Al-omar)
الحوار المتمدن-العدد: 5690 - 2017 / 11 / 6 - 15:32
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قبل فترةٍ ليست بالبعيدة تم السماح للنساء أخيراً بقيادة السيارة في أحد الدول العربية بعد أن كان ذلك الأمر يخضع للمنع الشديد لعقودٍ طويلة..و طوال تلك العقود كانت هناك رغبةٌ شديدة في تعزيز مشروعية ذلك المنع و سلطته على النفوس كما العقول لهذا كان يرافقه كمٌ هائل من الفتاوى الدينية التي تحرم قيادة المرأة للسيارة في الأصل بالرغم من كل الضرورات التي كانت تبيحه..و لكن حال صدور قرار الإباحة من قبل سلطةٍ تُعتبر أعلى من السلطة الدينية و أكثر نفوذاً سقطت كل تلك الفتاوى و لكن ليس بيد تلك السلطة الحاكمة و حسب و لكن أيضاً بيد أصحاب تلك الفتاوى!!..ذلك الأمر تسبب و ما زال بالكثير من السخرية الشديدة تجاه ممن أصبحوا اليوم يحللون ما كانوا يُغلظون على حرمته بالأمس القريب..و لكن بالنسبة إليَّ أجد أن هذا الأمر يستحق وقفةً تتعدى فقط وقفة السخرية منهم.
فهذا الأمر لم يكن بالحدث الطارئ الذي يحدث لمرةٍ واحدةٍ فقط في حياتنا و حسب..بل أنه تاريخٌ يعيد تكرار نفسه باستمرار و لكنه لا يجد ربما من يتعظ منه و به..فبالأمس كان التصوير من المحرمات و الاحتفاظ بالصور التي ترمز لماضيك من الكبائر التي تمنع دخول الملائكة إلى منزلك..تلك الفتوى الكارثة تسببت في إبادة ذكريات جيلٍ بأكمله لم يعد يملك من ماضيه أي ملامحٍ تُذكره بعبقها أو حتى ببعضٍ من تفاصيلها..جيلٌ بأكمله أباد بيديه كل صورةٍ لديه تحمل تفاصيل أم أو أب..أخٍ أو صديق..أطفال صغار لا يدركون بعد ما يحمل لهم المستقبل أو رُضعٍ ما زالوا في المهد..جيلٌ بأكمله فقد هويته و ماضيه و جزءٌ كبير من حاضره فقط لأن هناك من أخبره بأنه باحتفاظه بتلك الصور سيُحرم من متعة السكن مع ملائكةٍ لا تدركهم الأبصار.
فقط لتمضي بضع سنواتٍ لنجد بعدها بأن من قاموا بالأمس القريب بتحريم التصوير و وجود الصور في المنازل أصبحوا هم من يقتحمون بصورهم العفنة حياتنا..و لتصبح ملامحهم التي تمتلئ بالنفاق و التلون السريع بين الأمس و اليوم هي ما نحمله في ثنايا ذاكرتنا بدلاً من ملامحنا نحن..تلك الملامح التي سارعنا إلى قتلها خوفاً و رهبةً من فكرة منافسة الخالق في الخلق..و كأننا لا نخلق في كل يومٍ أموراً جديدة لا يستطيع أي شخصٍ إنكار وجودها حتى و لو كنا لا نملك صور تجسد لحظات الخلق تلك.
أيضاً في الماضي القريب تم تحريم مشاهدة التلفاز..حينها كانت الحجة لهذا التحريم الغليظ و المشدد هي أن هذا الجهاز شره كثير و خيره قليل و حينها أيضاً تبارى رموز الإفتاء في الدول الإسلامية في تغليظ حرمة امتلاكه و التأكيد على عقوبتها الشديدة في الآخرة..فقط ليتكرر التاريخ مرةً أخرى و بإصرارٍ شديد عندما أصبحت بعد بضع سنوات فقط وجوه هؤلاء المهرولين نحو تحريم كل أمر متواجدة في أغلب القنوات الفضائية..بل و أصبح ذلك الظهور الكثيف و المتكرر جداً مصدر تجارة تدر عليهم بالملايين التي يتباهون بها و بما تجلبه لهم من مُتع دُنيوية..مُتع حُرمنا منها لأننا بالأمس أيضاً كنا نُدعى إلى التبرع بجُّل ما نملك و إلى الزهد فيه حتى لا يوردنا موارد التهلكة في الدنيا و الآخرة.
عندما نُخلق يتم تثبيت أداةٍ بسيطة للتوجيه بداخلنا تُدعى "العقل" و مهمتها هي أن تقوم بإرشادنا خلال وجودنا في هذه الحياة الدنيا..و لكننا عندما نولد مباشرة تبدأ عملية تشكيلنا و تشكيل ذلك العقل كما يتم تشكيل الصلصال..الأغلبية تتم عملية تشكيله تلك بيسر و سهولة فيصبح خاضعاً للفكرة التي أصبحت سائدة الآن و هي أن الأصل في حياتنا هو التحريم..و حتى عندما تسقط تلك المحرمات تباعاً أمامه لتصبح حلالاً بعد حين يُعاد تشكيله من جديد لينصاع كما إعتاد دون أي محاولةٍ منه للتفكر في موضع الخلل الذي كان و ما زال..و لكن البعض الآخر يتمكن من النجاة من ذلك الانقياد الأعمى و الخضوع التام لتلك العملية التي تسلبه روحه قبل أن تفعل تجاه عقيدته و عقله الذي كان في وقتٍ مضى يعلم بأن الأصل في حياتنا هو الإباحة و أن المحرمات التي تسقط حُرمتها لأمرٍ من سلطانٍ أو لهوى يتقلب بين الأيام هي أمور لم تكن في يومٍ من الأيام من سُبل المرء إلى الجحيم في شيء..فيبدأ حينها في التساؤل حول حقيقة و نوع العلم الذي يملكه هؤلاء الأشخاص الذين يعيدون تشكيله بأصابعهم كلما اقتضى الحال تحليل ما كان حراماً في وقتٍ سابق.
قبل فترةٍ ليست بالبعيدة استيقظ الجميع على قرار السماح بالقيادة للنساء تزفه و ترافقه تصريحات كمٍ هائل من الأشخاص الذين أصبحوا يحللون حينها ما كانوا قبل ساعاتٍ فقط له من المُحرمين..حينها تمنيت أن تكون تلك اللحظة هي لحظة الحقيقة للكثيرين لكي يبدأوا في الاستفاقة من وهم الطاعة العمياء دون تفكر أو تدبر فيما يتم وضعه في عقولهم كمُسلمات لها و لهم..و لكن لعل هذا الأمر قد حدث و لعل ورقة التوت الأخيرة قد سقطت عن سوءات أرباب التحريم و ربما سأتفاءل كثيراً و سيقوم البعض أخيراً ببتر أصابعهم متى ما حاولت التسلل إلى أرواحهم كما عقولهم لتعبث بها كما عبثت بها فيما مضى كالصلصال.
#زين_اليوسف (هاشتاغ)
Zeina_Al-omar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نصر المنابر
-
التجربة المُحمدية
-
لا تصالح
-
براءة
-
خلافة
-
فلنجلد زين كثيراً!!
-
مثلي مثلك
-
طابورٌ خامس
-
24 ساعة
-
تحالف
-
إلهٌ تهاوَى
-
بضع ساعات
-
أوهام
-
عن أركانٍ خمسة!!
-
مكعبات
-
الطوق و الأسورة
-
من دون أي شغف
-
نبضةٌ إضافية
-
أريد
-
حرب
المزيد.....
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|