عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5686 - 2017 / 11 / 2 - 12:37
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مستقبل الدين والألحاد
عندما نتكلم عن مستقبل التدين والألحاد فإننا نتكلم عن مستقبل العقل الإنساني أولا، فلا الدين ونقيضه بمعزل عن رؤية العقل لصورة العالم وتداعياتها، ولا الدين كفكرة والألحاد كرؤية يمكنهما أن يتجنبا صراع التناقض أو نتوقع مصالحة توافقية بينهما على أقتسام العالم، إذا نتكلم عن صراع أو مستقبل صراع ماضوي لا ينفك عن التفاعل طالما أن الإنسان نفسه لم يحسم أمر الخيار بين منطق الوجود الفطري وبين منطق الوجود المعرفي، فكلاهما يملك أسباب القوة وكلاهما يدافع عن حقيقته الخاصة.
من هذا المنطلق يتبين لنا كعقل وليس كواقع يشير إلى حالة تناقض دائمة ومستمرة بتصاعد بين مستويات العلائق الكونية الثلاث، أن الدين بصورته التجسيدية عليه أن يمتلك قدر من القدرة والشجاعة على أستحداث رؤيته الخاصة بعيدا عن المنطلقات الأولى التي كانت تتركز على واقعية الإنسان في الوجود، ليتحول إلى الواقعية العقلية التي تعزز الوجود وتعلله وتبرهن على ضرورية التدين كحامل فكري يساعد الإنسان في التغلب على إشكاليته الحرجة، المتمثلة بتكرار العجز في الأجابات التامة على أسئلة المعرفة النقدية ضمن أطار معالجة منطقية تماهي الزمن وحركته.
السؤال هنا والذي نتوقعه دائما ما هي حدود الواقعية العقلية التي تعزز من الوجود وتعلله؟ وما هو الفرق بينها وبين منطلقات الفكر الديني أصلا؟ وهل من الممكن أن نجد أنفسنا في حالة بناء معرفة دينية أخرى قد لا تتشابه مع واقعية ما نعرفه الآن من تراكات التجربة وأفرازاتها التأريخية على الإنسان عقلا والإنسان وجودا؟ ولكي نجيب لا بد لنا أن نبحث فيأجابات منفردة لكل تساؤل على حدة لنعطي تغطية شبه كاملة عن رؤيتنا للمستقبل الديني وعلاقته بالألحاد.
الواقعية العقلية
الواقعية العقلية لا تعني في مفهومي العقلانية الفلسفية ولا تعني المذهب العقلائي الذي يتمسك به المثاليون على أنهما تطابق بين ما يريده العقل من الواقع، أو ما يجب أن يتعامل به معه، الواقعية العقلانية تعني عندي فرض شروط العقل الراشد المستوي والمتماهي مع وظيفته الأساسية التكوينية على الواقع ليغيره ويبدل من أتجاهات حركته الوجودية، الواقعية هذه هي واقعية فعل وتصور وتخطيط ومنهجة وليست نظريات ترسم حضورها لكنها لا تستطيع أن تجسدها، فهي نظر وعمل متوازي لا ينتهي عند نقطة محددة كنتيجة، ولكن تبقى فعلا خلقيا متجددا مع كل تجديد ديناميكي يغير من رؤية العالم.
من ميزات الرؤية الواقعية العقلية أنها ترتبط بالواقع لتجعله متحركا بدل أن تفرض قيما مثالية يطلب من الأخر تفعيلها، فهي ذاتية الحركة وفي الواقع ولا تنتهي بمجرد تحريكه بل تستمر في تفعيل شروط الحركة الدائمة، وبينما يقوم العقل بوظائفه الأساسية أيضا يتحرك في داخل الفكرة ليشبعها دفقا دافعا داخل بنية المجتمع، فيشارك الواقع وجوده ويتقدم به ومعه دون أن يحاول أن يسبقه ليجره خلفه، هذا الحال يجعل من الواقع في حاجة دائمة له أي للعقل وأيضا ليس لديه خيارات متعددة بين أتباع الرؤية أو التوقف في نقطة ما.
وأيضا من مميزات الواقعية العقلية أن الحضور العقلي أو ما يسمى بديكتاتورية العقل لا تسمح بتأجيل البحث عن حلول أو ربما أنتظارا لتحديد ما هو الأهم، أنها لحظة الفعل الذي لا ينقطع، فكلما واجه الواقع إشكالية ما تشاركا معا في إيجاد الحل، بمختصر تام هنا يكون أقتران كامل بين العقل والواقع دون أن تكون هناك مسافات واضحة بينهما، فيكون العقل في الواقع والواقع في العقل وكلاهما في مدار الرؤية الكلية للعالم.
كلما نضجت هذه الرؤيا الواقعية هذه وبانت تفصيلاتها الدقيقة أكثر وتحولت لتجربة عقلية بأمتدادات لا نهائية، سوف يشعر الإنسان أن الطريق مفتوح على كل الأتجاهات ويتسارع به لينقله من مرحلة إلى أخرى دون أن يلتفت للوراء، ويساعده على فتح مسارات وطرق متشعبة أخرى تقود بالنهاية إلى نفس الهدف الأول الذي تمخض من معالجاته حين لم يكن هناك من رصيد معرفي ولا تجريبي يطمئن له ومنه أبتدأت رحلة العلم والمعرفة والأخلاق.
في الجانب الديني من الرؤية العقلية الواقعية يتوجب على الدين أن لا يضع تصوراته فوق الواقع ولا قبله، لأنه أساسا ولد ووجد ليكون حلا لما يواجه الوجود من إشكاليات، المشكلة التي يعاني منها الدين أنه ومع توسع المدركات الفحصية وتنوع طرق المعايرة ووسائلها وسبلها قامت فئة لا تنحاز للعقل بصورته الفاعلة بالتجاوز عن مبدئيات الواقع بفرض حواجز وعراقيل تحد الفعل العقلي الخلاق من تسجيل حضوره داخل بنيان الواقع ومحركاته الحقيقية، وسجنت العقل في إطار التسليم للمقدس المطلق والحرام المفتعل بالقياسات والقراءات دون أن تعرف علية التحريم الكبرى وليس الظاهرية، والخوف من أنتهاك كليهما لأنهما محميان بالمعصومية التي بناها الإنسان المتدين وعظمها.
منهجة الفكر الديني بكل صوره المتولدة من قراءات أعتباطية لا تتصل مع العقل بواقعيته المطلوبة أساسا من مفاهيم (تعلقوا) و (تفكروا)، هدفها الأساس كان تجريد العقل من حضوره الكامل في الواقع كي تمنع على الإنسان أن يمارس الدين كحامل قدرة، وحولوه إلى محمول تسليمي لا نقاش فيه مخدوم من الإنسان وليس خادما له، فهو يتفاعل معها بالطريقة التي فهمها كي لا تتهدم قواعد بقاءه المخالفة لسنة التدين العقلي, لذا عاد التدين الظاهراتي واقعا مفروضا بقوة المقدس المعصوم، والدين كفكرة فعل غريبا في المجتمع الذي منع التعقل من فهم الدين بركائزه الحركية ووضع بدل هذه الممارسة الطبيعية مفهوم التقليد والسلفية على ثوابت غير قابلة للتحريك أصلا.
البعض يفسر هذا الميل بالتسليم القدسي المعصوم الذي لازم كل الديانات الوضعية والسماوية، وفي كل المراحل ولم تسلم منه حتى أكملها وأقدرها على الصمود وهي الديانات الإبراهيمية الثلاث، ومع ما تحمل من قدرة على التجديد إلا أنها جميعا سقطت في هذا الأمتحان، أمتحان الاستمرارية وفق منهج النشأة أو منهج النزول الذي تلازم مع المجتمع وحركه وتحرك به, في القرآن الكريم هناك مساحة واسعة لدعوة التجديد والنظر والتدبر وهي دعوى صريحة فيها أشارات حقيقية على أن الدين كامل من حيث هو نظرية، لكن الواجب أن تؤخذ روح النظرية العملية حتى تكون الحلول المتعددة مع الأزمان المختلفة ومع العلاقات المتنوعة هي القاعدة الأساس في الواقع, وبينت النصوص من حيث أنها مبادئ ثابتة لأنها قواعد أنطلاق وليست أهداف ننتظرها في النتيجة وأن المعالجات العملية التي من ضمنها أساليب التدين ووسائله وغاياته هي التي يجب أن تتطور تبعا لمقدار الحركة المقطوعة للأمام (وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
إذا حدود الواقعية العقلية في أبسط تحديداتها وتجلياتها هو الواقع ذاته، ولكن ليس الواقع الذي يرفض الحركة الذاتية الطبيعية ويحارب العقل لأنه يظن به منافسا ومنازعا، بل الواقع الذي يحتاج العقل لضبط حركته في أطار يحفظ هذه الحركة ويوجهها بما يجب أن تكون عليه أصلا، وبالتالي عندما نرى أن الواقع خامل ومتحجر وتكثر فيه الثوابت الأفتراضية والمقدسات الغيبية والمعصوميات المفترضة، على العقل أن يقود ثورته بأتجاه تحطيم كل الرباطات والقيود التي تمنع الحركة أو تقف في طريقها وأن ينزل الفعل العقلي كاملا إلى ساحة المواجهة كمقاتل وليس كمنظر للصراع.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟