|
قتل اللغة: فصل اللفظ عن الدلالة..
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 5677 - 2017 / 10 / 23 - 19:58
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
وديع العبيدي قتل اللغة: فصل اللفظ عن الدلالة.. أنا أكذب، إذن أنا موجود! شهدت الحياة البشرية تغيرات جذرية في نصف القرن الاخير، بدأت بحركة المفاهيم وانماط المعيشة وخلخلة الارضيات التقليدية والثوابت الفكرية، وكل ذلك تحت عنوان التطور والتجديد. ورغم الزمن القصير نسبيا لحركة التغيرات والانقلابات، فان قطاعا واسعا من البلدان والبشر تجد نفسها اليوم في زاوية ميتة، من غير حول او قوة. في منظوري ان اخطر تغيّر شهده العالم، كان (موت اللغة). حتى العقد الاخير كان الجهد البشري يعنى بتطوير اللغة وتقنياتها واستخداماتها، ولكن (تفريغ اللغة من سلطة المعنى) وارثها المفاهيمي لم يكن بالحسبان. وهذا لا يعني نسبة التغير للبحث اللغوي، في معزل جملة التغيرات العامة. اللغة هي الأداة الرئيسة للاتصال والتواصل البشري [communication]. ومن غير وجود اللغة لا وجود للميديا [وسائل الاعلام]، وصولا الى جملة النظام المعرفي. بغير اللغة يتعذر لقاء اثنين من البشر او اجتماعهما، فلا تتشكل نواة الجماعة او العائلة، وبغيرهما لا يتشكل المجتمع او الشعب او الامة. ويمكن مواصلة المنظومة الاجتماعية الى مفاهيم الوطن والهوية والقومية والدولة وملحقاتها. ان الانسان يولد في محيط لغوي ثقافي، انه يولد ويجد اللغة امامه. متى ظهرت اللغة وكيف نمت، أمر خارج ادراكنا، ولا يعرف منه غير جملة فرضيات وتصورات. لكن الواضح ان لغتنا المعاصرة استغرقت ازمانا طويلة، تصل الى كل عمر الانسان. هذا يجعل موتها المفاجئ في لحظة زمنية قصيرة، امرا خارج الاحتمال والمنطق. اللغة هي اهم معيار اجتماعي في كيان الانسان. لغة الانسان وخصائصها الذاتية والتقنية، وما تتوفر عليه من تراكم ثقافي تاريخي وصبغة نفسية اجتماعية مستقبلية، هي ما يميز فردا عن سواه، وجماعة بشرية عن غيرها، وهي معيار المغايرة والاختلاف بين الشرق والغرب. ما زالت اللغة تنمو وتتطور بالجهد الفردي، لكن دور الفرد في توجيه اللغة وتسخيرها جمعيا، تراجع مع ظهور منظومات اجتماعية سياسية، بسطت نفوذها على مساحات بشرية غير محدودة. مما ترتب عليه تحكم تلك المنظومات المستحدثة في سيرورة اللغة وصيرورتها وموتها. هناك ثلاثة فضاءات مسيسة لحركة اللغة: [الاعلام- التعليم- الثقافة]. وهاته الفضاءات تخضع لمرجعيات معينة، خاضعة للدولة وخطابها السياسي القومي. ان سلطان اللغة ليس بيد الفرد الذي اكتشف اللغة وساهم في تطويرها وتنميتها. وانما بيد الحكومة او الاقلية الممسكة بمفاتيح السلطة. من هنا تتحكم السلطة في تحجيم الفاظ ومفاهيم معينة، وترويج الفاظ ومفاهيم تسوغ بها افكارها. مفردات [الشيوعية- الماركسية- الفاشية- النازية- العنصرية- الاستعمار- ...] محدودة الاستعمال في يوميات الاعلام الغربي، تبع مزاج الامبريالية الرأسمالية. وفي تلك البلدان لا توجد احزاب شيوعية او ثقافة ماركسية، رغم مزاعم الدمقراطية وحرية الرأي وحقوق الانسان. فالرأسمالية الكولونيالية تعتم على ما يهددها او يفضح طبيعتها وحقيقة سياساتها. وبالجملة، تحتكر الدولة/ [مباشرة او باطنيا] منظومة الاعلام والتعليم ومؤسسات الثقافة العامة. واذا كانت الدولة الرأسمالية الغربية مجرد اجهزة ادارية وادوات دستورية لخدمة مصالح الطبقات العليا في البلاد، فان وظيفتها هي وضع السياسات والقوانين المناسبة لتحويل المصالح والرغبات العليا وتمرير/ تبرير تطبيقها في الواقع اليومي المفروض على كاهل المجتمع، باسم شرعية الحكم والتوثيق البرلماني والمضمون الاجرائي والجنائي لسلطة القانون. يمكن لكل فرد جمع صحف يومية من بلدان مختلفة: غربية وشرقية، وعمل دراسة لغوية لتشخيص الكلمات والمفاهيم والافكار الاكثر رواجا، في كل بلد او سلطة حاكمة. فضلا عن تشخيص طرق تعبير وتداول الالفاظ والمفاهيم والافكار لكل جهة اعلامية او دولة بشكل مرغوب او غير مرغوب. بل ان موقع الخبر والصورة المرافقة تختلف بين ما يروقها وما لا يرقها. ان طريقة نشر خبر يتعلق بالحكومة والحزب الحاكم وصورة قيادته، تختلف عن طريقة نشر خبر يتعلق بحزب العمال او زعيمه، وملاحظة موقع نشر الخبر والصورة. قد لا ينتبه الفرد العادي لتلك الاختلافات وابعادها، ولكن ترسبات الظواهر الخارجية تطبع اللاوعي وتفرز تأثيرها اللاحق مع الوقت، رغما عن انفه. وهذا ما يحصل مع تلاميذ المدارس وما يتراكم في لاوعيهم من اثار التعليم الحكومي/ الرأسمالي المؤدلج. فترى من النادر للشخص الانجليزي ان يميل للشيوعية او الماركسية، ولا يتورع في مساواتها بالنازية الالمانية، والنظر اليها من خلال عيوبها، وتحويل فضائلها الانسانية الى عيوب رأسمالية. فمبدأ المساواة والتكافؤ في الفرص والاجور، يفسره المعلمة مخالفا لحق الانسان في امتلاك الثروة وترف المعيشة والنمو الرأسمالي. الدين هو منظومة لغوية، والحركات السياسية لا تقوم ولا تستمر بغير شعارات وبرامج ومسابقات انتخابية، قائمة على خيل اللغة ومدارس التأثير النفسي والتوجيه الاعلامي على جمهور المستهلكين. وبعبارة ان نجاح حزب او حكومة او طائفة دينية، يعتمد على مقدرة خطابها على ترويض واجتذاب اكبر مساحة من البشر لصالحها، او صالح رموزها. يعرف كثيرون اليوم ان الخطباء يكذبوان وان وسائل الاعلام تكذب، وان وعود الانتخابات مجرد سلم للسلطة، ومع ذلك يجد الناس انفسهم مغيبين في السعي وراء من ينجح في خداعهم والتغرير بهم. فبفضل رواج وسائل الميديا الراهنة، واتساع مجال حركة السياسة والدين والاقتصاد، فقدت اللغة اهم سمة من سماتها وهي المصداقية. حتى صديقك الذي يتعهد لك بأمر او موعد، وزوجتك او ابنك الذي نقل لك خبرا معينا او قدم لك تبريرا ما، تعرف ان مصداقيتهم لا تكاد تبلغ النصف. الكذب هنا لم يعد رذيلة، ولا الصدق فضيلة، وذلك بسب انقلاب المعايير الاخلاقية/[انحطاط معنى الاخلاق]. ان الاولوية اليوم هي (الانا) مقرونة بالرغبة والمصلحة، وحق كل فرد في التعبير عن ذاته وترجمة رغباته وتسخير كل شيء لمصلحته. هذا ما يدعوه الاميركان بالبراغماتية كدين رأسمالي جديد. وهي برغماتية شاملة الفرد والسلطة بكل المستويات والاتجاهات. اما انها ميكافيللية او اكثر انحطاطا منها، فذلك لا اعتبار له امام عظمة (الانا والرغبة). والسؤال.. ما مبرر الكلام إذا كان قوامه الكذب؟.. هل تعدني بتقليل كذبك هاته المرة، او تعدني باحترام اكاذيبي. ما تعتقد وانت تتابع مباريات مناظرة سياسية بين مرشحي الانتخابات؟.. هل تعتقد ان احدهما يكذب والاخر لا يكذب؟.. ام تعتقد انهما لن يكذبا احتراما لشاشة التلفزة، بل احتراما لجماهير الناخبين والمشاهدين؟.. ام ان الموضوع يتعلق بمباريات، يفوز فيها من يتفوق على ندّه في الكذب؟.. وفي الخلاصة، فان التصديق والقناعة، يعتمد على وقع المستمع تحت تأثير المتحدث، ولا علاقة للصدق والاخلاق بالموضوع اطلاقا. ان الحياة الراهنة، من العائلة والعلاقة والعمل والاعلام والتعليم والدين والسياسة، في التلفون والنيوز والفيس والتيوب يتعلق بالتسلية والخداع والفذلكة. ولعل ترامب صدق عندما وصف الاخبار بالفيك نيوز، وقال ان الانتخابات هي مجرد [politic game] ولا علاقة لها بالاصوات. عليك ان تعرف ان الكل يكذبون. وعليك ان تكذب حتى تتفوق عليهم في الكذب، وتجعل من تحادثه يقتنع بكذبك على انه حقيقة!.
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهند.. بقرة فكتوريا السمينة
-
عامل لا طبقي..!
-
ظلال القهوة..
-
وفاة الكاتب والمترجم العراقي سعدي عبد اللطيف في لندن
-
قدري ان اخرج من قدري
-
لابد من ثورة شعبية اشتراكية وان طال التخبط
-
يا بلد اصح..!
-
يا درب المحبة.. اشغيّر الانسان!..
-
(عصفور منفرد على السطوح..)
-
استعداء قطر.. خطوة اخرى في سيناريو دمار العرب والمنطقة..
-
اصدقاء ما بعد الحداثة.. [2]
-
اصدقاء ما بعد الحداثة..!
-
دامداماران [26] الاسلام.. الردّ.. الخلاصة..
-
دامداماران [25] المانوية [Manichæism]..
-
دامداماران [24] النصرانية [Nasiritic]..
-
دامدارماران [23] يهودية مشيحانية..
-
دامداماران [22] يهودية وظيفية
-
دامداماران [21] يهودية عربية..
-
دامداماران [20] يهودية عازرية ..
-
دامداماران [19] يسرييل.. يزرعيل: حقل الدم..
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|