المخاطر..وحسن النية!
تنطلق بين الحين والحين أصوات حائرة حارة، وباردة، تدعو تلك القذارة في بغداد إلى الرحيل، ومع الأسف الشديد تنطلق تلك الأصوات من جميع جهات الأرض! من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار! فمن منها يا ترى نظيفة تريد تجنيب الشعب العراقي مجازر لا قبل له بها؟ ومَن مِن تلك الأصوات ملغومة؟ من يريد إبعاد تدمير فظيع للعراق يصعب التكهن به؟ ومن منهم يريد إبقاءه تحت العذاب والتعذيب؟
أول من أطلق هذا النداء كولن باول، أعطى الأمان للطاغية صدام وخمسين من معاونيه، ومن بنود الأمان الذي أعلنه باول التعهد بعدم تقديمه أو أي من زمرته الخمسين للمحاكمة!
باول وإن لم يكن من صقور الإدارة الأمريكية، لكنه كان من أبطال حرب عاصفة الصحراء، " المجيدة " التي حررت الكويت، وهزمت الطاغية! لكننا كلنا نعلم بأن عاصفة الصحراء دمرت العراق، أعادته إلى ما قبل القرن العشرين.
لكن القليل منا يعلم أن شيئاً ما فريداً حدث في عاصفة الصحراء، ذلك الشيء هو طريق الموت، فقد امتلأ الطريق من السالمية حتى سفوان، وعلى طول مئة وستين كيلومتر بحطام أكثر من سبعين ألف سيارة عراقية، عسكرية ومدنية، وانتشرت جثث ما يتراوح بين 250-300 ألف قتيل عراقي، مدني مسكين، وعسكري بائس.
قبل الهجوم الأمريكي على القوات العراقية في الكويت ألقت الطائرات الأمريكية مناشير تدعو كل العراقيين، مدنيين وعسكريين إلى الانسحاب من الكويت، وإلا فليس هناك أحد مسؤول عن سلامتهم.
عدد العراقيين الموجودين آنئذ في الكويت كان يتراوح بين 300-320 ألفاً، جاؤوا إلى الكويت منذ عشرات السنين، بحثاً عن الرزق، أو هرباً من الطاغية اللئيم وزبانيته، وجدوا عملاً، واستقروا هناك، فما كان من معظمهم وهم يقرؤون المناشير إلا واستقلوا سيارتهم، وتوجهوا نحو الوطن.
عندما وصلت سياراتهم إلى نقطة حدود سفوان، وجدوا القوات الأمريكية هناك، منعتهم من التوجه إلى العراق، فتوقفوا على الطريق الدولي، ينتظرون الفرج، والمصادفات، والذي يأتي ولا يأتي.
فوجئ هؤلاء المساكين بالطائرات الأمريكية، تهاجمهم في فجر اليوم التالي، لم تبق منه " نفاخ نار " إلا من أخطأه التصويب، وتخطته المصادفة.
عدد من قتل في يوم واحد من الأبرياء العراقيين تجاوز ضحايا قنبلتي هورشيما، ونكازاكي كليهما، كما تجاوز أي رقم للقتلى في تاريخ العراق الحديث، والقديم، باستثناء يوم واحد، هو اليوم الذي اجتاح فيه هولاكو بغداد بالتعاون مع الخائن ابن العلقمي، يقال أنه قتل في يوم واحد أكثر من مليوني إنسان.
كان باول أحد المخططين لتلك المجزرة الرهيبة بحق الأبرياء العراقيين، فهل هو صادق في دعواه لتجنيب الأبرياء مجازر أخرى؟
لا، من يقرأ التاريخ الأمريكي الحديث لا يقتنع بهذه الادعاءات قط! إذاً فلماذا أطلقها؟ إنه يخاف على جنوده من احتمال مقاومة ضارية يبديها العراقيون لا أكثر ، ولا أقل، لكنه يغطي مخاوفه بادعاء إنساني، وهذا أتعس أنواع النفاق السياسي، والأخلاقي!
الدعوى الثانية انطلقت من فرنسا! فرنسا شيراك لا غيره، منافق آخر! سياسي مخضرم! أ يعقل أنه يتوهم أن الشعب العراقي نسي قضية الرشوة! أ هو أو غيره تسلم في السبعينات هدية من صدام حسين 300 مليون دولار، دعماً لحملته الانتخابية!
300 مليون دولار آنئذ تعادل في قيمتها الشرائية ثلاثة مليارات الآن! مبلغ ضخم! أليس كذلك؟ بالتأكيد، كان الشعب العراقي حينئذ يقف أرتالاً لا نهاية لها في سبيل أن يحصل على علبة حليب أطفال بعد بضع ساعات من الازدحام، والعراك، والدور، في عز الصيف، وقر الشتاء!
هل يستطيع شيراك أن يمنح مثل هذا المبلغ لأي كان؟ لا، هناك من يحاسبه، هناك قانون، هناك برلمان، هناك أحزاب معارضة، هناك صحف.
لكنه يستطيع أن يتقبل المبلغ! لم لا! لا يوجد نص قانوني يمنع تسلم الهدايا إن كانت للحملات الانتخابية! حتى وإن كان مانح الهدية لص عريق في اللصوصية، حتى لو كان سرقه من شعبه المسكين! الجائع!
فرش شيراك بالورد طريق موبوتو، لم لا، حتى وإن كان موبوتو من أكبر اللصوص والمجرمين! حمل إلى فرنسا معه من الكونغو 30 مليار دولار! مجرد بقاء مثل هذا المبلغ في فرنسا يجلب ربحاً للبلد، وليذهب شعب الكونغو إلى الجحيم، ولتذهب كل المبادئ إلى جهنم.
صدام حسين الآن أغنى مما كان عليه في سنة 1975، ربما تتجاوز ثروته ثروة موبوتو، لما لا! أهلا وسهلاً ومرحبا به، قضية صدام أفضل من قضية موبوتو، هنا نستطيع أن نتباكى على الشعب باسم السلام بوجه، ونستقبل صدام ونعانقه بوجه آخر، فما زالت الشركات الفرنسية تحلم بعصر ذهبي آخر تعود فيه إلى العراق مرة أخرى..
لم لا، السياسة هي تعدد الاحتمالات! وصدام "كريم" جداً لأنه ورث ثروة العراق كلها " أباً عن جد" وليس هناك من يمنعه من إعطاء ما يشاء لمن يشاء، لا يمنعه قانون، أو برلمان، أو أحزاب، أو صحافة! فالقانون في العراق لا يعمل إلا في الملاهي والمراقص مع العود، والكمان، والبرلمان قطيع من الغنم ورثها من والده " الثري"، والأحزاب في جبهة تحت ظل البعث الخالد، والصحافة ملك البروفيسور الذكي جداً، عدي، فمن سيشاكس؟
الجهة الثالثة التي أطلقت نداء حقن دماء الشعب العراقي، روسيا، ولا حاجة لتبيان مدى النفاق، والغش، والصداقات الزائفة والمغشوشة مع القيادة الروسية، حيث المافيا، والفساد، وتعفن المؤسسات.
أما الجهات، والأحزاب، والشخصيات الأخرى، التي تضافرت مع نداء باول من غير الدول، فكانت معظمهما من أحزاب وشخصيات دأبت منذ عقود على الحج إلى فندق الرشيد في بغداد، لمباركة القائد الملهم المثل الأعلى، والإنصات إلى حكمه الخالدة، وتسلم المقسوم.
لكن هناك فئة مخلصة للشعب العراقي دعت إلى نفس الدعوى، منطلقة حقاً من حرصها على الشعب والوطن، وإلى هذه الفئة المغرر بها أتوجه بهذه الكلمات المتواضعة.
علينا أن نفكر كيف ستبدو الأمور فيما إذا غادر الطاغية صدام بملياراته إلى المنفى، هو وبطانته!
لنعد إلى الوراء، عندما كان صدام حشرة صغيرة، لا قيمة لها إطلاقاً، حشرة صغيرة، لا هم لها إلا تنفيذ أوامر الاغتيالات التي تصدرها قيادة حزبه المأجور، ثم تطور من حشرة إلى مرافق للبكر، ثم انتهى به الأمر إلى الضياع في الشوارع بعد استئثار سيئ الصيت عبد السلام عارف بالسلطة دون البعث.
فما الذي أعاد ذلك الحزب المشؤوم إلى السلطة؟
ينسى الكثير من العراقيين قصة ثلاثين المليون دينار كويتي، التي أهداها الكويت لرجال انقلاب الثامن من شباط الأسود، مكافأة على خيانتهم، وقضائهم على "تمرد" وسيطرة الشهيد عبد الكريم قاسم على مقاليد الحكم، وإرجاعهم العراق إلى بيت الطاعة الإنكليزي الأمريكي.
لعبت الفلوس الكويتية الدور الأول والأخير في إرجاع البعث إلى السلطة، استطاعوا بوساطتها، التحرك بسرية في عموم العراق، رشوة ضباط الحدود، كانوا يدخلون ويخرجون في أي وقت يشاؤون، تجهيز مؤيديهم بالأسلحة، شراء ذمم معظم ضباط الحرس الجمهوري، والكثير من الشخصيات المؤثرة في المجتمع، حتى إذ وصلوا إلى السلطة، خططوا ليبقوا إلى ما لا نهاية، وصرح البكر المقبور غير مرة:
جئنا لنبقى.
فما أشبه اليوم بالبارحة!
وهلا سألنا أنفسنا ماذا سيفعل الطاغية وبطانته إن هم خرجوا سالمين من العراق، ومعهم المليارات؟
حكم البعث العراق مدة 35 سنة، فرض فيها سياسة التجويع، والإذلال، والتعذيب، وشراء الذمم، وإفساد الضمائر، استطاع طيلة هذه المدة أن يفرز من يستطيع أن يشتريه، ومن يستطيع أن يستخدمه، ومن يستطيع أن يعتمد عليه، بينما ستكون السلطة القادمة في العراق من دون خبرة أو معرفة بالرجال الأقربين أو الأبعدين، ستعتمد على التجريب والاختبار.
فماذا سيفعل صدام وبطانته الفاسدة؟
سيخلقون من المشاكل للعراق الجديد ما لا يتوقعه أحد، سيتمكنون بالثروة التي يمتلكونها من شراء الصحف، رجال البرلمان، رجال القانون، الضباط، رجال الشرطة، سيثيرون الفوضى، سيمارسون أعمال التخريب، الاغتيالات، التآمر، سيبتكرون ألف وسيلة ووسيلة لزعزعة الحكم.
إن السماح لهذه الزمرة الفاسدة، بمغادرة العراق أشبه بمن يعطي قاتلاً موتوراً ترعرع في الجريمة، ونشأ في العار، يعطيه سلاحاً، وذخيرة، وكنزاً لا نهاية له، ويطلق يديه في فعل ما يشاء بمن يشاء! فهل هذا منطقي أو معقول؟
بمليار دولار واحد يستطيع صدام حسين أن يشتري عشرين قاتلاً مأجوراً من مستوى جيمس بوند في كل مدينة من مدن العراق!
يستطيع أن يدس مئتي رجل من رجال مخابراته السابقين، السريين الذين لا يعرفهم أحد، يدسهم إلى أي مجلس انتخابي في المستقبل، سيكون هؤلاء العملاء المجرمين سداً منيعاً أمام أي عملية مخلصة لبناء العراق الحديث، سيمهدون لحكم بعثي يحكم العراق من وراء ستار، باسم جديد، وشعارات جديدة، ومزايدات لا حصر لها، تجعل الشعب العربي المسكين من الماء إلى الماء يصفق لهم، ويهتف بحياتهم، ويعيد "أمجادهم" ويغسل هزائمهم.
سيفعلون ما لا يمكن تخيله، سيجلل ظلام لا نهاية له على العراق، وإلى الأبد.
فحذار! حذار! من هذا الخطأ!
الحل الأصوب، الأمثل، هو محاكمة هذا الطاغية الجبان، محاكمة دولية على غرار محاكمة ميسيلوفيتش، وربما تكون هذه هي أضعف الإيمان!
وهذا لن يتم إلا بتفعيل المطالبة بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 688 فالوقت مازال ملائماً حتى الآن لتطبيقه، وتستطيع الولايات المتحدة فرضه على تلك القيادة الخانعة! فتحقن دماء العراقيين الأبرياء ودماء أبنائها، وتمنع تدمير العراق، وستكون الموافقة على تطبيق هذا القرار اختباراً يكشف عن حقيقة مشاعر المخلص من المتباكي على العراق أو العراقيين.