أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ز- الاصلاح والمقاومة ضد الحضارة العبودية 1- ميلاد الاديان التوحيدية وموقعها في الحضارة 1-9















المزيد.....


من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ز- الاصلاح والمقاومة ضد الحضارة العبودية 1- ميلاد الاديان التوحيدية وموقعها في الحضارة 1-9


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1466 - 2006 / 2 / 19 - 04:03
المحور: القضية الكردية
    


1ـ ميلاد الأديان التوحيدية وموقعها في الحضارة

إن ولادة الأديان التوحيدية تعني الثورة في البنية الأخلاقية المعنوية والذهنية للإنسانية. إن تقزيم الموضوع إلى مناقشة "هل الله موجود أم لا..؟" هو مجرد تحريف تام، لأن أسلوب الطرح هذا يغطي جوهر الموضوع ويدفن دوره الهام في الظالمات، إذ لم يتجاوز ما يفعله علماء الدين التوحيدي والمؤمنين به، الدفاع الجاف عن أنفسهم، وهذا بعيد جداً عن الطرح الكافي للتحليل الاجتماعي العميق للولادة الدينية والأهم من ذلك التطور الذهني للإنسان والبنية المنطقية له، والابتعاد عن تحديد دوره بما فيه الكفاية في ظهور العلوم الفكرية والفلسفية، وفي الوقت الذي تعكس عملية ظهوره في أهم المراحل المتأزمة للتطور الاجتماعي ميزاته الثورية، فإن أهم المواضيع الأساسية الواجب تقديم الإجابة عنها هي، ما الذي يجب تجاوزه، ولأي الذهنيات والمؤسسات الجديدة أعدت الإمكانيات..؟. لقد اكتسبت خصوصيته في تشكل الطبقات والتحول السياسي أهمية كبرى.
لقد تطرقنا في أماكن عدة الأقسام السابقة لهذا الموضوع وسنعمل في الفصول اللاحقة تناول هذا الموضوع بعمق أكثر. هنا في هذا القسم سنعمل على تعريف المجتمع الطبقي العبودي والدور الذي لعبه في التطور الحضاري:
أ ـ توصل العلم في المرحلة الأخيرة إلى نقطة مشتركة تؤكد أن الحضارة السومرية هي مصدر المؤسسات الحضارية الأساسية.
فقد سلطت الميثولوجيا السومرية الضوء على مسألة آدم " أول من ظهر، أو الذي جاء من الفراغ" الذي يعد أول الأنبياء بشكل ملفت للانتباه، حتى أنها سلطت الضوء بطريقة موثقة على مسألة خلق حواء من ضلع آدم لأنه في الميثولوجية السومرية يوجد إلهاً لكل خاصية، وقد بينت هذه الميثولوجيا كيف تم ولادة مشافي للمريض من الإله الخالق "أنكي"، والأهم من كل ذلك، أن الميثولوجيا السومرية تحتوي على أشعار تشرح مسألة "الطرد من الجنة".
إن "الجنة" كمصطلح تحتاج لتحليل من أوجه عديدة، ولكن لا يمكن إنكار أن الجنة بالنسبة للشعب مرتبطة بحالة متطورة من الشوق والإسقاط الذهني للعصر النيوليثي "Neolithic"" حيث لم يكن هناك حوادث عنف وشدة، إذ كانت المساواة تسيطر على العلاقات بين البشر الذين يعيشون كجزء من الطبيعة وكأصدقاء لها، أما بالنسبة لطبقة الأسياد المتصاعدة، فإنه لمن الواضح جداً بأن الجنة لديها هي حياة الدنيا التي تخلصوا فيها من العمل الإجباري ويوجد فيها عدد كبير من البشر يعملون تحت أمرتهم كخدم، التمايز الاجتماعي. فالجنة أثناء تنامي المجتمع الطبقي في سومر، كانت عبارة عن مصطلح يوحّد بين الطبقات الدنيا الذين يحلمون بها والطبقات العليا الذين يعيشونها كحياة مذهلة. لقد بينت الولادة الميثولوجية دور الفرز الطبقي الأول في المجتمع بشكل حي وشاعري، فمن المؤكد أن القصور والمعابد المبنية في جزر خليج البصرة وعلى ضفاف دجلة والفرات كانت تشكل مصدراً لهذا الإلهام، ويمكن أن نفهم بسهولة أن الآلهة الخالقة الأربعة "آن وإنليل ونينهورساغ وإنكي" لعبت دوراً هاماً، ومن خلال قراءة النصوص الموجودة على الألواح سنجد أن هذه الآلهة تشكل المصدر الأساسي للأديان التوحيدية. لقد شرحت التفسيرات المتعلقة بالجنة التي أطلق عليها اسم ديلمون"Dilmun " بلغة شعرية المصطلحات الأساسية لتصورات الجنة التي جاءت لاحقاً. كما إن قصر إنكي الموجود في مدينة إريدو المسمى بقصر "أبزو Abzo " وهو "مصدر كلمة حوض وهو أول مثال عن القصر ذو الحوض" الذي يعبر عن خيال الجنة بصورة ملموسة، وهذا النموذج البدائي أصبح مصدر إلهام لحدائق بابل المعلقة ولكافة ثقافات القصور والحدائق المتقدمة والتي جاءت بعد ذلك.
إن الآلهة التي لعبت دور نينهورساغ وفيما بعد إنانا بأعلى المستويات في شرح الميثولوجيا السومرية، ستفقد أهميتها على مدى تاريخ الحضارة، وتصغر لدرجة مريم "أم النبي عيسى"، وتطور هذا الفقدان لشخصية حواء لدرجة ما، وكذلك تحول مسألة خلق نينهورساغ من ضلع إنكي المريضة، إلى أسطورة آدم وحواء، علماً بأنه عندما كانت نينهورساغ إلهة منطقة جبل زاغروس كانت تتمتع بمركز أعلى من مركز إنكي، ( وباللغة السومرية تعني "نين" الإلهة، و "هور" جبل أو قمة، "صاغ " الجزء). يظهر هذا الشرح الميثولوجي بشكل مذهل الحقيقة التاريخية الموجودة في مصادر الميثولوجيا السومرية الممثلة بـ "ستار" في بنية اللغة الآرية قبل نزولها إلى سهول دجلة والفرات ( وتصبح فيما بعد عشتار بالغة الأكادية )، والدور الرئيسي الذي لعبته المرأة في عهد الثورة الزراعية. ويشرح بشكل واضح كيف تعرضت قوة ثقافة الآلهة نتيجة الثورة الزراعية في العصر النيوليثي للتغيير من قبل السومريين.
إن المراحل التي تخلق فيها مؤسسة الآلهة السومرية في اللغة اليونانية تحولت إلى "بانيتون" Phanteon الناس من الوحل ملفتة للنظر، ويتم في الفصول الخاصة من الميثولوجيا بطريقة شعرية مقدسة شرح كيف تعبت الآلهة من العمل وباتت بحاجة إلى الخدم، والآلهة تقرر خصائص الخدم، وانهم خططوا وخلقوا نظام "العبد الإلهي" بشكل مثالي، لهو أمر جلي. وهذا الموضوع أيضاً واضح جداً هنا، حيث تعبر هذه المرحلة عن تشكل فئة عليا من الكهنة والسياسيين والعسكريين وطبقة عليا من البيروقراطيين، وعندما كان الكهنة والفئات المثقفة الأخرى يقومون بوضع الإيديولوجية ونشرها، كانوا يعلمون جيداً بأنهم لن يفلحوا إذا قالوا: "تعالوا لنجعل منكم خدماً"، وكانوا يعلمون بأنه بدلاً من الوحدة الإرغامية، فانهم لو تحكموا بشكل قاطع في البنية الروحية والذهنية للبشرية في ذاك الوقت لاستطاعوا تحقيق هيمنتهم، لأن التصورات الميثولوجية والدينية هي عملهم الأساسي، وعلى كل حال فنجاحا كهذه ليست أقل أهمية من حرب تأسيس الهيمنة التي تنفذ في الجامعات الأوروبية والأمريكية في يومنا هذا، بل على العكس، كانت أكثر ديمومة وعلمية ونجاحاً بالنسبة لتلك المرحلة. وعندما ترغب أي فئة مسيطرة أو طبقة أو نخبة الارتقاء، فإن أول عمل مضطرة للقيام به هو إقناع المعنيين وتوعيتهم، وإذا لم تنجح بذلك وأرادت أن تنفذ ما تريده عنوة وعن طريق الكذب، فإن التجارب الكثيرة قد أثبتت أنها لن تستطيع النجاح. بداية يجب خلق حرب الإيمان والتوعية ومن ثم خوضها.
لا نقصد هنا العلم الجاهز أو الإيمان الإيديولوجي القائم، وإن هذا عبارة عن مسألة تعليم بسيطة، ومثل مثال سومر، فإن الحاجة التي تقتضيها تأسيس الحضارة، أي تأسيس كافة البنى التحتية والفوقية للمجتمع الطبقي الجديد، والتي تفرض نفسها كحاجة ضرورية هي ميلاد ميثولوجيا كبرى خلاقة حسب تلك المرحلة، وهكذا نرى أن الكهنة السومريين قد انشغلوا بعمل تاريخي كبير ونجحوا لدرجة أنهم أثروا على تاريخ كافة الحضارات، أنهم لم يكونوا يحرزون هذا النجاح من أجل طبقة مستغلة مسيطرة متنامية فحسب، بل كانوا يحرزون هذه النجاحات أيضاً من أجل مجتمع طبقي بأكمله وبعبارة أخرى من أجل القوى التي تمثل تلك الحضارة وهنا تكمن أهميتهم. وليس صعباً علي هنا أن أوضح كيف قاموا بهذا العمل داعماً مزاعمي بالوثائق، ولكن لا مجال لذلك هنا، إلا أنه لا يمكن إنكار كونها تشكل موضوعاً هاماً ومثيراً من زاوية الشرح عن تبرئة تاريخ الشرق الأوسط من تأثير الدوغمائية.
إن قصة خلق آدم من الطين موجودة في كافة الكتب المقدسة. ولكن المصدر الأساسي لهذه القصة هو الميثولوجيا السومرية، أضف إلى أنها توضح بمقاطع شعرية في أي مكان يوجد هذا الطين وأي إله قام بهذا الخلق، طبعاً يمكن بسهولة فهم تعبير الدونية من هذه المقاطع وكأنهم يخلقونه من البراز، وذلك لأنهم تعاملوا مع الإنسان على أنه خادم.
إننا نشاهد أحياناً أنهم يدخلون بعض هؤلاء الخدم المفضلين في وحداتهم، ويجب هنا أن نتنبه إلى أن هذه النصوص هي أول شرح إلهي مكتوب للتغيرات الطبقية، وفي الوقت الذي يشرحون فيه أنهم خلقوا من السماء أو القمر أو الشمس أو الهواء أو من النار، نجد أنهم يخلقون الإنسان من طينة البراز. أجل.. فالطبقة المستغلة المهيمنة أوصلت تمايزها إلى هذه الدرجة بشكل عقلاني وملفت للانتباه.
كذلك يمكن تحليل مصطلح "الطرد من الجنة" الذي يحتل موقعه في كافة الكتب المقدسة، بكل سهولة، وهذا مرتبط أشد الارتباط بالتمايز الذي كان موجوداً في المجتمع السومري؛ حيث تعبر هذه القصة عن انسلاخ الطبقة العليا المتمايزة عن أمثالها التي كانت في حالة وحدة النسب منذ القدم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعبر عن إسقاطها الفئة التي أصبحت في موقع عباد الخدم بشكل مخفي من فعالية الطبقة العليا. وأما مصطلح "فاكهة الخطيئة" فإنه مرتبط بهجوم إيديولوجي آخر والذي يظهر على شكل اتهام تجاه حقيقة أنه لم يعد لهم مكان على المائدة التي في القصور، أي أنه لا مكان للإنسان الخادم في الأماكن التي يعيشون هم أو أمثالهم فيها كالجنة، إن هذا المصطلح يمثل ويعكس قيام الطبقة العليا بحجة التمايز الطبقي في تاريخ الحضارات برسم خط أحمر وحياكة ستار غليظ وبناء جدار لا يتهدم.
وكذلك أسطورة النبي نوح وحادثة الطوفان التي وردت في كافة الكتب المقدسة، تم تناولها في العديد من الأساطير السومرية وعلى رأسها ملحمة " كَلكَامش"، وقد أثبت العلم أن منسوب المياه في المحيط ارتفع عن مستواه عام"3000" ق.م أدى الى تشكل بحر بصرى في الفترة السومرية على مستوىٍ قريب من السطح الترابي وأدى إلى حدوث العديد من الطوفانات في تلك الفترة الزمنية وأغرقت المياه المجمعات السكنية، هنا يوجد تقاطع بين الأسطورة والأرضية المادية والزمنية، وهذا الوضع كان سبباً لقيام السومريين بنقل تجمعاتهم السكنية إلى الشمال. وبقدر ما ترتبط هذه الأسباب التي أدت إلى الطوفان بلعنة الآلهة التي أصابت البشر، فمن المحتمل وبنفس الدرجة انه نقل إلى الميثولوجية كرد فعل حيال التزايد السكاني، ولذلك تم وضعه في رادء إيديولوجي كعملية عقاب.
وللتخلص من الطوفان، فإن السفينة التي كانت تحمل زوجاً من كل جنس رست على جبل "جودي"Gudi . ويؤكد صحة هذا الزعم أن جبل جودي هو أعلى الجبال وأقربها من بلاد ميزوبوتاميا الدنيا، وحتى الآن يتم الإشارة إلى هذه المنطقة كمكان لأسطورة نوح، وتعني كلمة نوح في اللغة الكردية الحديثة "الجديد" وكلمة جودي تعني "رأى المكان". نوح= جديد و Gu جو= مكان، و دي Di = رأى. إن هذه الكلمات الثلاث والتي جذرها الاصطلاحي قديم جداً، تشكل جذراً الكلمات في كافة اللغات الهند ـ الأوروبية، وتؤكد صحة تلك الجذور new ـ geo ـdeus. وهذه الجذور الثلاثة هي دليل جدي على حقيقة وجود علاقة ارتباط بين اللغة الآرية لغة الزراعة في العصر النيوليثي والتي تشكلت وحسب التوقعات أعوام عشرة آلاف قبل الميلاد والثورة التي تحققت في هذه المنطقة، وكون الهلال الخصيب هو مصدر لمصطلحات كلمات الجذور إبتداءً من الهند وحتى أوروبا، تؤكد صحة هذه الافتراضات، كما أن تطور المئات من لغات مجموعات الشعوب من اللغة الآرية هو دليل على عظمة العصر النيوليثي، وعن بعده من الناحية الزمنية وبالتالي دليلاً على قوته.
إن أسطورة النبي أيوب هي نتاج للأزمة التي تمخضت عن عهود من الآلام العظيمة والأسى الذي عانى منها المجتمع السومري. ازدادت في الأعوام التي تلت 2000 ق.م الأزمات التي لم تستطع فيها الآلهة أو الطبقات المستغلة تقديم أجوبة مقنعة لتوسلات الإنسانية التي وقفت وجهاً لوجه أمام حقيقة الحياة اليائسة والأليمة، ومن المؤكد أن النبي أيوب الذي لا يزال قبره في مدينة أورفا من أصل سومري ( كل الكلمات التي تبدأ بـ "أور" هي كلمات سومرية وتعني المجتمع السكاني المؤسّس فوق تلة مثل أور و أوروك). وتعد أورفا وما حولها التي تتشرف بأنها مدينة الأنبياء، المنطقة التي انتشرت فيها المستوطنات السومرية حوالي عام2000 ق.م، وفي الوقت ذاته انها تعد المنطقة التي تشكل مصدراً للتاريخ لوقوف ثقافتين تاريخيتين في تلك المرحلة وجهاً لوجه والاشتباك فيما بينهما وهما مجموعة العموريين الرعاة المتنقلين ذوي الأصول السامية ( كانوا يتدفقون بشكل مستمر من الصحراء العربية نحو الشمال وباتجاه ميزوبوتاميا )، والهوريي "Hurri" الزراعيون الشماليون ذوو الأصول الآرية، وأكثر من ذلك فهي شهدت انشغال هؤلاء بالتجارة في المستوطنات السومرية.
إن التطور السهل للمعارضة التي قامت ضد النظام السومري مرتبط بهذه الحقيقة المادية. الثقافة العالية تعني الذهنية المتطورة. ولم يكن من الممكن مراقبتها لوجودها على الأطراف، والأهم في الأمر هو أن ذهنيات العبادة المترسخة كانت تواصل وجودها بعناد، وتوضح لنا أسطورة النبي إبراهيم أن أورفا ستزيد من عصيانها في مراحل الأزمات العامة ضد نمرودها، فكلمة نمرود بالسومرية تعني "الملك". يوجد أيضاً في أورفا العديد من الأماكن والأساطير النبوية، حيث تشير القصص التي تتحدث عن الاستيطان الإمبريالي السومري من الخارج وقصص الملوك الذين يمثلونه وأساطير الأنبياء الذين يعدّون أول المعارضين، إلى أن مدينة أورفا لعبت دوراً هاماً كونها كانت ساحة لنضال استمر طويلاً، وقد قوى هذا الاحتمال الوضع الجغرافي لمدينة أورفا وخصوبة أرضها ومناخها وهويتها الثقافية وتطورها التاريخي، وسنتطرق فيما بعد إلى هذه الأمور.
ستلعب فيما بعد منطقة القدس دوراً مشابهاً، فبينما كانت أورفا تلعب هذا الدور من خلال صراعها مع الإمبريالية السومرية، كانت منطقة القدس تلعب نفس الدور أثناء صراعها مع الإمبريالية العبودية في مصر، وكلتا المنطقتان كانتا مكمناً للأنبياء وكانتا في الوقت نفسه مركزاً للمعارضة. واعتباراً من عام 2000ق.م أصبحت القدس وضواحيها مركزاً للديانات التوحيدية في التاريخ، ويبدأ ذلك مع هجرة النبي إبراهيم إلى القدس وحتى انتفاضة النبي عيسى. تحكي الروايات أن Abgar الذين كانوا يحكمون أورفا في تلك المرحلة قاموا بتوجيه الدعوة لـ عيسى للذهاب إلى مدينة أورفا. إن وجود ظاهرة الذهاب والإياب بكثرة بين هاتين المدينتين خلال الألفي عام الأخيرة يرجع الى وضعهما التاريخي، وقد كان هذين المركزين اللذين نضجت فيهما الديانات التوحيدية، يمثلان الوسط الثقافي الذي تبرعمت فيه أحلام الحرية التي وصلت إلى درجة القدسية في تلك المرحلة. إن هذا الوضع المقاوم للعبودية القاسية، شكل أساساً لقدسية هاتين المدنيتين حتى في أيامنا هذه، ولأن هذا الدور كان كبيراً فقد أخذ مساحة واسعة من الذاكرة الإنسانية وأصبح نسيانه ضرباً من ضروب المحال. إذا ما وضعنا جانباً الظاهرة النبوية وأخرجناها من خلف الستار الثقيل للدين وإذا حاولنا دراسة علاقاتها وصراعاتها مع حضارة الرق العتيقة، فإننا سنصل إلى تعريف أكثر قرباً من الحقيقة، ويمكننا تقييم الخصائص الأساسية لها على شكل أطروحة وكما يلي:
أ ـ على الأغلب انها تطورت في أحضان النظامين العبوديين القديمين؛ ولقد تأثرت بالمؤسسات الإيديولوجية التي تمخضت عن التمايز الاجتماعي من جهة، وبمرحلة الفوضى التي ظهرت في مرحلة الأزمة الثقيلة للنظام من جهة أخرى. وانها ظهرت على شكل تمرد وجداني قوي ضد القمع الذي كان يمارسه النظام على البنية الذهنية للإنسانية وعلى التشكل الوطني ـ القومي.
ب ـ بالإضافة للتكوين الإيديولوجي المستقل، كانت تجري محاولة للتكوين من جديد في موضوع المفهوم الديني الوجداني أو الميثولوجي السائد والتي تتناقض بشكل واضح مع الحقيقة. فلم تكن بالقوة التي تسمح لها بتجاوز المفهوم الرسمي ومؤسساته. وبالرغم من وجود جوانب ثورية لها، فقد كانت خصائصها السائدة تتصف بالإصلاحية. وهذا ما أدى إلى نتائج تهدف إلى تجديد النظام وجعله أكثر قبولاً.
ج ـ انها اعتمدت على الفئات الفقيرة للطبقات الاجتماعية المتمايزة وعلى الشرائح التي بقيت خارج الفئة الحاكمة للبنية الأثنية المتفككة. وكثيراً ما كان يشاهد بأنهم يملكون طبائع يجذبون نحوهم بسرعة الأفراد المنعزلين الذين انسلخوا عن المؤسسات الاجتماعية والذين وصلوا إلى قيادة القبائل المتصارعة مع النظام.
د ـ ورغم كونها قوة سياسية ومادية، فإنها تظهر على شكل قيادة إيديولوجية مفعمة بالمعنويات.
إن هذه النقاط التي يمكن أن نفصلها أكثر، تبين بشكل كاف خاصية عملية المأسسة. فإذا ما قيست بخصائص الأنبياء الثلاثة العظام، حينها ستزداد وضوحاً. وإذا نظرنا إلى حركات الأنبياء الملموسة ضمن جغرافية الشرق الأوسط على أساس هذه الخصائص، حينها يمكن ترتيب التطورات التي أدت إليها هذه الحركات وكما يلي:
1 ـ لقد وضع إبراهيم ضمن المفهوم الديني أسس النظام الذي يعتمد على الإله الواحد تحت اسم الوحدانية، ويظهر إله إبراهيم خصائص هامة، فهو بداية انقطع عن وحدة آلهة سومر ومصر، بمعنى أنه أكتسب استقلالاً إلهياً، وهذا مرتبط عموماً بحرية الإنسان وخصوصاً بالبنية الأثنية، وغالباً ببقاء القبيلة حرة ويضع له رمزاً. إن الهوية الإلهية الجديدة تعني حسب البنية الدينية والميثولوجية للنظامين الأكثر قدماً خطوة على طريق التحرر بكل تأكيد.
2ـ الهوية الإلهية مختلفة كلياً عن الإنسان، وهي خالدة ولا يمكن أن تكون من نوع الأصنام. هناك حديث عن تجريد رفيع المستوى، إنها تتجاوز المفهوم الديني الطوطمي للقبيلة من جهة والمفهوم الديني الطبقي الذي يعكس الحكم الملكي للنظام العبودي من جهة أخرى، ويكمن في ذلك تطور ديني يأخذ درجة التطور الذهني الذي يخاطب البشر أساسا له.
3 ـ إنها بهذه الحالة، تمثل درجة متقدمة من المنطق في الذهنية البشرية. إن صياغة الطوطم وتعددية الآلهة على شكل مصطلحات، لهو تفكير طفولي ومتخلف من الناحية المنطقية، وإن جمعها في داخلها مستقبلاً، وكل شخص يصحو وجدانه وفكره مرتبط بهذه الخاصية.
4 ـ إنهم ناجحين اكثر في الأوساط التي تنطوي على الشخصيات الحرفية والشخصيات التي يمكن أن نعبر عنها بكلمة مجنون أو درويش، والقبائل ذات الجذور السامية والآرية التي تتناقض مع النظام ولم تتأقلم معه، ولم تتخلى عن عادة القيام بالحركات الحرة، وخاصة أن أزمة نظام الرق التي تفاقمت بعد أعوام 2000 ق.م، مهدت السبيل شيئاً فشيئاً أمام تنامي موجة النبوة، وشكلت أهم اتجاه في الحركة الاجتماعية.
5 ـ ان العديد من الدويلات الصغيرة التي تشكلت في المدن خارج الدولة المركزية لمصر وللسومريين، مرتبطة بشكل وثيق مع حركات النبوة هذه، وتعد المملكة العبرانية من أكثر الأمثلة المثيرة للانتباه.
6 ـ لقد زالت تماماً ثقافة المرأة والآلهة بسبب طابع النظام "نظام الرق المهيمن" من جهة، وبنية القبيلة البطريركية من جهة أخرى. وقد تأكدت هذه النقطة خاصة بعد إزالة السومريين من الساحة السياسية من قبل العموريين، وولادة مرحلة الإمبراطورية البابلية، وإن أسطورة الخلق البابلية "انوما إليش"، تعد التعبير الصارخ عن ذلك، واعتباراً من النبي إبراهيم، كان كل الأنبياء ذكوراً ولا وجود للمرأة في أنظمتهم، وقد قربت مكانة المرأة من مكانة الشيطان. ان تأثير كل من بابل على النبي إبراهيم ومصر على النبي موسى، له دوراً مؤثراً في موضوع إبعاد المرأة، فقد بدأت المرأة تفقد مكانتها باستمرار بعد أعوام 2000 ق.م. ضمن التطور الاجتماعي وبالأحرى ضمن المرحلة الحضارية، فلقد بدأ التمييز بين الجنسين متزامناً مع الفرز الطبقي العام.
7 ـ فيما بعد ستتحول فكرة الإله الواحد إلى الفكرة الإيديولوجية الأكثر استخداماً في ترسيخ سلطة الملك، وستستخدم فكرة الإله الواحد التي تعادل الملك الواحد كصيغة وحيدة للنظام، علماً بأن هذه الفكرة كانت صفة ترفد المنطق المجرد مثلما لعبت دور الخطوة الهامة في التطور التحرري في مرحلة البدايات، فلقد جسدت الطبقة المهيمنة فكرة الإله الجديد وجعلتها ملائمة لها.
لاشك بان المؤسسة النبوية قد لعبت دوراً تاريخياً مميزاً في تليين نظام الرق العتيق. إن التيارات الدينية الجديدة المتطورة والمتمحورة حول كون الإله واحد وعظيم وانه يجب محاسبة الملوك أيضاً، هي ثاني حركة حضارية كبرى قامت في الشرق الأوسط تتجاوز الملوك الآلهة الذين يطبقون قوانين الطبيعة على الروح والذهن الإنساني. فمن الجلي ان قوانين الإله الواحد ورغم ترسخها في بنية المنطق الإنساني وإدارة الدولة، إلا أنها تعبر عن تقدم ما، خاصة وإن ربط القوانين الدينية بالبنية السياسية، أنهى تطبيق القوة المطلقة. لقد تزامن التغيير الجذري للبنية الفكرية مع مرحلة هامة في التطور المنطقي، وإن مرحلة الإلهيات ـ علم اللاهوت ـ التي تزامنت مع التميز الذي تحدث عنه الشاعر والفيلسوف الألماني "غوته" أثناء حديثه عن عصر الروحانيات، بأشكال الشعر واللاهوت والفلسفة والنثر، تتزامن مع عصر هيمنة دين الإله الواحد الذي عملت مؤسسة الأنبياء على تنميته بشكل طاغي، كما لعب النضال الذي قام باسم أديان الإله الواحد دوراً بارزاً في تجاوز الإمبراطوريات الثلاث ( سومر ـ آشور ، وروما ومصر ) التي عرفتها التاريخ على انها اكبر الإمبراطوريات وعاشت فترة طويلة.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...


المزيد.....




- بيان مشترك بشأن حالة الأمن الغذائي وخطر المجاعة في السودان
- العنصرية سلاح خفي ينهش أرواح الأتراك والعرب
- اعتقال متهم سرق دراجة نارية بداخلها 9 آلاف دولار في بغداد
- أول عربي يشغل منصب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ...
- تداعيات حملة الاعتقالات الحوثية على العمل الإغاثي في اليمن
- -نائب ترامب- يدعو لطرد -الكثير- من المهاجرين غير الشرعيين
- بعد أحداث نهائي كوبا أمريكا.. اعتقال رئيس الاتحاد الكولومبي ...
- بيان مشترك بين الإمارات ودول أخرى حول خطر المجاعة في السودان ...
- اعتقال رئيس الاتحاد الكولومبي لكرة القدم وابنه بعد نهائي كوب ...
- شهادات مروعة عن تعذيب أسرى غزة في سجون إسرائيل


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ز- الاصلاح والمقاومة ضد الحضارة العبودية 1- ميلاد الاديان التوحيدية وموقعها في الحضارة 1-9