ثالثاُ : المنشأ النُخبوي ، ونريد به هنا مستويات النُخب الوطنية في أنماطها السياسية والدينية والمجتمعية المالكة والمُسيطرة على مراكز القرار والفعل والقوة الوطنية في تجليات القوة الفكرية والقيادية والمالية والعسكرية ،.. وهنا نلحظ إندماجها العام في آليات الصراع التقليدي والحديث سواء في تنظيراتها أو برامجها العملية ،.. إذ لم تخرج – إلاّ ما ندر – عن أُطرها الجهوية الضيّقة من قبيل العِرق والطائفة والقبيلة والعائلة ، بل أخضعت قناعاتها النظرية لمنطق الأنا الخاصة والضيّقة على حساب النحن والعام العراقي ، فكانت أن أنتجت ألواناً من الصراعات الجانبية على حساب صراع المجتمع مع السلطة المستبدة ، وهي النُخبة المُفترض ريادتها لبرامج الإنقاذ الوطني الشامل المترفع عن الأنا الخاصة !!
والحقيقة المرّة التي يجب الإعتراف بها ، أننا لم نمتلك خطاً وصفاً متقدماً من النُخب الوطنية المترفعة عن خندق العِرق والطائفة والعشيرة والحزب والفئة ، وتلك من أشد عوامل توليد الصراعات والفشل في حلها عند استفحالها ،.. والحال أنَّ النُخب هي رأس حربة التغيير والتحوّل والتطور فيما تُنتجه من وعي وفيما تُبدعه من برامج تشد إليها قطاعات الشعب في السير والمواصلة والمثال والنموذج ،.. بينما نرى العديد والعديد من نُخبنا غدت هي المأزق المُعيق لإنتاج التحوّلات النوعية لمسيرتنا الوطنية ، كونها أصبحت جزءاً من آلية الصراعات التقليدية والمُستحدثة سواء في الإنتماء العِرقي أو الولاء الطائفي أو التحاصص السياسي أو التهالك المواقعي !!
أضف إلى ذلك ، أنَّ العديد من نُخبنا وكوادرنا زادت حمّى الصراعات المجتمعية بسبب غربة طروحاتها الإيديولوجية والثقافية (( كما في النُخب الفكرية )) ، وبسبب ركودها وطبقيتها وعدم اندكاكها بالجمهور لتنميته (( كما في النُخب الدينية )) ، وبسبب فرديتها ومطامعها بالسلطة والدولة (( كما في النُخب العسكرية )) ، وبسبب أُطرها الضيّقة والأنانية والجهوية (( كما في النُخب السياسية )) ، وبسبب قلة وعيها وضعف حسّها الوطني (( كما في النُخب الإقتصادية )) .
ويجب ألاّ ننسى – وللأسف – أنَّ العديد من نُخبنا لم تمارس حرصاً على استقلالية الإرادة والإختيار الوطني في بدائلها الفكرية والسياسية والمجتمعية لحل الصراعات الوطنية ، بل مثّلت صيغاً أجنبية بزيٍ عراقي !! فزادت من انقسام الذات الوطنية لتُنتج الصراعات تلو الصراعات على أرضية جسور التبعية لما هو غير عراقي انتماءاً وولاءاً !!
وأيضاً ، يجب أن نتذكر فشلنا النخبوي في إيجاد أدنى مستويات التنسيق السياسي الحقيقي لكسب الصراع ضد الإستبداد ، أو في تنمية الإندماج المجتمعي في أوساطنا ، بل العكس نلحظ ، إذ أنَّ الجماهير العريضة هي المُبدعة لصيغ التنسيق الميداني في مواجهة السلطة والإستبداد ، وهي الخالقة لأجواء التعايش السلمي والأخوي بين أبناء الوطن الواحد على تنوعهم القومي والطائفي والثقافي ،.. فالصراع إن حدث في مستوياته الشعبية والمجتمعية إنما هو نتاج النُخب الطائفية والعِرقية والسياسية ،.. وتلك مفارقة تدعو للذهول !!