|
الرّؤيا الشّعريّة سفر على أجنحة الخيال
محمد عبد الرضا شياع
الحوار المتمدن-العدد: 1464 - 2006 / 2 / 17 - 09:49
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
1.0- يُعَدُّ مفهوم الرّؤيا من الموضوعات الأساسية في الكتابة الشعرية. وقد ظلّ هذا المفهوم زمناً طويلاً مكتنفاً بالغموض والالتباس. وعندما تناولته أقلام الباحثين بالدراسة والتحليل،خلعت عليه أشكالاً متعددة الأبعاد والدلالات،منها ما تقترب من بعضها إلى حدّ الالتحام،ومنها ما تبتعد إلى حدّ الانفصام. وجهات نظر تأتلف وتختلف فيما بينها، لتجعل من الرّؤيا الشعرية أداة أو منهجاً أو معادلاً للمكوّن المضموني للأدب أحياناً،أو قرينة يُعرّف الشعر الحديث بها أحياناً أخرى. 2.0- بينما نجد مفهوم الرّؤيا متفقاً عليه في المعاجم اللغوية، مع تبيان الفرق بينه وبين مفهوم الرّؤية. ففي معجم أساس البلاغة " تكون الرّؤية بالعين، والرّؤيا في المنام، والرّأي في القلب والعقل". من هنا يظهر أن ارتباط "الرّؤية، والرّؤيا، والرّأي" بجذر لغوي واحد يؤكد الصلة بين مدلولات هذه الألفاظ، والتكامل بين وظائفها. وقد توسعت بعض المعجمات الحديثة في تحديد معاني الرّؤيا، كما نرى في "المعجم الفلسفي" للدكتور جميل صليبا؛ حيث "الرّؤيا ما يُرى في المنام، وجمعه رؤى، وقد يطلق لفظ الرّؤى على أحلام اليقظة، والفرق بين الرّؤيا والرّؤية: أنّ الرّؤيا مختصة بما يكون في النوم، على حين أنّ الرّؤية مختصة بما يكون في اليقظة، فالرّؤيا بالخيال، والرّؤية بالعين، والرّأي بالقلب، ومنه رؤى المصلحين الاجتماعيين، وأحلام الفلاسفة، وإذا أطلقت الرّؤية على المشاهدة بالنفس سميت حدساً...". ولم يذهب ابن منظور في "لسان العرب" أبعد من ذلك في تحديد مفهوم الرّؤيا. من هنا يتضح بجلاء البعد الدلالي لمفهوم الرّؤيا من خلال وجهة النظر المعجمية الصرفة، والتي نستطيع القول: إنّها سَفَرٌ في الخيال، ومشاهدة في المنام لعوالم قد لا نعرف لحظة لقائها.. 1- من أهم النقاد الغربيين الذين اهتموا بالرّؤيا، وطبيعة علاقتها بالأدب هو نورثروب فراي الذي استعملها بمعنى موسّع، فهو الذي جعلها مرادفاً للأدب أو للمكوّن المضموني له. لأنّ الأدب عند فراي هو "حلم الإنسان وإسقاط تخيّلي لرغباته ومخاوفه، وأنّ الأعمال الأدبية، إذا أُخذت معاً، تؤلف رؤيا إجمالية، رؤيا نهاية الصراع الاجتماعي، رؤيا الرغبات المشبعة في عالم بريء، رؤيا المجتمع الإنساني الحر". 1.1- إنّ هذه الرّؤيا ذات الدلالات والمعاني الشمولية عند فراي، تتخذ أبعاداً أكثر استغراقاً واستنباطاً عند رامبو الذي يكاد يكون أشهر الشعراء الغربيين الذين تناولوا مفهوم الرّؤيا، بل جعل نفسه رائياً، ولكنّه ليس الرّائي الأوحد، حيث يُعَدّ بودلير سارق النار الحقيقي في رأي رامبو نفسه، وهما يشكّلان صحبة مالارميه ثالوثا للشعر. " فعندما نراجع بشكل عام ولادة الشعر إلى بودلير وفي تلك الفترة تقريباً يظهر الثلاثة.. رامبو، بودلير، مالارميه". لقد اكتشف هؤلاء الثلاثة " أنّ الشعر لا يكمن في البيت أو الغنائية، أو في الطرافة، بل في إشراق لحمته استفزاز الفكر والحساسية الساعيين وراء المطلق..". 2.1- لا يُقتصر توظيف الأحلام كمادة فنية للشعر على رامبو ومجايليه، وإنّما يُعَدّ كلّ من كولوردج وأدغار ألان بو ممن أبدعوا في اصطناع الأحلام ورسمها عبر القصائد، ليكون الحلم وسيلة الدخول إلى الذات وبواطن الكون والأشياء اللامرئية، بغية الوصول إلى العالم السري والمعرفة التي لا تتم إلا من خلال الرّؤيا العميقة والشاملة، والتي يكون فيها الشعر انفتاحاً على المجهول، تتجسد مهمته في الكشف عن عوالم سرية لا تدركها الرّؤية الروتينية للأشياء. لقد بلغت هذه القراءة الذروة على عهد رامبو، ولم يستطع أحد أن يذهب أبعد مما ذهب إليه. "والواقع أنّ كلّ شاعر أو كلّ جيل كان يعاود، منذ رامبو، المغامرة نفسها، مع الأخطار نفسها، بل مع الحدود نفسها، إذا كانت المغامرة قد بلغت أقصى حدودها". 2- هذا هو جوهر تصور الشاعر والناقد الغربي للرّؤيا الشعرية . لكن يا ترى،ما جوهر تصور الشاعر والناقد العربي لهذا المفهوم؟ لعلّ أول من اقترن اسمه بالرّؤيا هو جبران خليل جبران، ثم تلته "جماعة شعر" تلك الجماعة التي احتفت تنظيراتُها وكتاباتُها الشعرية كثيراً ببهاء الرّؤيا، حتى أصبح الشعر الحديث يُعرّف بها. هذا ما توصل إليه أدونيس، حيث يقول: "إذا ما أضفنا إلى كلمة "الرّؤيا" بعداً فكرياً إنسانياً، بالإضافة إلى بعدها الرّوحي، يمكننا حينذاك أن نُعرّف الشعر الحديث بأنّه رؤيا. والرّؤيا بطبيعتها، قفزة خارج المفاهيم القائمة، هي إذن، تغيير في نظام الأشياء ونظام النظر إليها ". وقد يلتقي الكاتب الجزائري إبراهيم رماني مع أدونيس في موقفه هذا. فهو يرى أنّ "الرّؤيا تحمل هاجس الكشف عن عالم بريء حلمي، بعيد يتوارى في زيف الوجود ووهم الواقع، ولذلك فهي رؤيا مستقبلية تسافر دوماً عبر الخيال والحلم إلى ما وراء الظاهر، إلى الباطن الذي يبقى نابعاً في ساحة الممكن والاحتمال، في حنين الرّؤيا الذي يأتي ولا يأتي، إلى الذي يتأبى على الحضور، فيظلّ الشاعر يطارد حلمه في حالة انجذاب سحري وغواية مكثفة فيحس بالانكسار والإحباط، والذي لا يخصّ به الزمن إلا ليؤكد تجذره وبقاءه في الواقع التاريخي". 1.2- هكذا تكون الرّؤيا رحيلاً إلى عالم مجهول لا تُسبر أغوار عتمته إلا بالحلم والمغامرة والسعي، وراء استشراف أصوات مجاهليه النائية ورفع النقاب عنها لمعناقة واقع يمكن أن يكون ملموساً". بيد أنّ الرّؤيا تزداد اقتراباً من الواقع في نظر الباحث محيي الدّين صبحي الذي يقول: "أما الرّؤيا في الشعر، فإنّها تعميق لمحة من اللمحات، أو تقديم نظرة شاملة وموقف من الحياة، يفسر الماضي ويشمل المستقبل، وحجتي في ذلك أرسطو طاليس في كتاب "الشعر". فهو يقرر في الفصل التاسع أنّ الشعر أكثر نزوعاً فلسفياً وأكثر جدية من التاريخ، لأنّه يتعامل بالكليات بينما يتعامل التاريخ بالخصوصيات، وفي حين أنّ التاريخ يروي ما حدث، فإنّ الشعر لا يهتم بما حدث وإنّ ما يمكن أن يحدث". يبني محيي الدين صبحي تصوره هذا للرّؤيا على أساس زمني يتجسد في نظرة شمولية وهو يستند إلى أبعد المراجع الغربية كتاب "الشعرية" لأرسطو، متجاوزاً كلّ الانقطاعات الزمنية التي أصابت مسار شعرية أرسطو، فتكون الرّؤيا عند صبحي مستحوذة على الزمن بشمولية تنطلق من المعلوم "ما حدث في الماضي" متجه صوب المجهول "المستقبل" ليرسم بهذا التصور بعداً مغايراً للرّؤيا عما ذهب إليه من سبقت آراؤهم. 2.2- بهذا لا تنقطع الرّؤيا عن الواقع، فهي الأداة وحلقة الوصل بين الشاعر والفيلسوف من جهة، والشاعر والصوفي من جهة أخرى. وبين هذا وذاك، وبين الذات والموضوع تحفر الرّؤيا أخاديد حدودها المنتظرة عبر الحلم والخيال. بل هي خيال حالمٍ بعالم مجهول يظل بحاجة إلى كشف. لذلك أضحت الرّؤيا ترنيمة جميلة على أفواه الشعراء، على الرغم من الغموض الذي اكتنفها بسبب التأويلات المتباينة القائمة على الغواية والانجذاب نحو تخوم عالم مجهول اسمه الشعر. 3- من هنا أقدم نصّين شعريين أنتقل خلالهما من البعد النظري إلى البعد الإجرائي،حيث أرى فيهما تجسيداً فعليّاً لقصيدة الرّؤيا.ينتمي النّص الأول إلى المدرسة الرومانسية في شكله والمضمون، وأعني قصيدة الشاعر الدكتور سعيد سالم فاندي عنوانها " تراني ولا أراها ". والنّص الثاني ينتمي إلى مدرسة التفعيلة وأعني قصيدة الشاعر عبد الحفيظ العابد، والمعنونة " لعلّني أراني" .ولن أقدم قراءة الآن لهاتين القصيدتين مكتفياً بإشارة الانتماء والتصنيف، وتاركاً الأمر لمناسبة أخرى أو قارئ آخر يرى ما أرى، أو ما لا أرى...
1.3- تراني ولا أراها
قالت رأيتك في المنام بمشهد قبل الصــباح متألقاً والنور يغسلُ منك آثـار الــجـراح متطهّراً بالدمع قـد صليت تلـهج في نـواح
وحملت فوق الرأس خبزاً تعزف الأطيار عنه وعلى يمينك يعصر الساقون خمراً نلت مـنه قَدَحاً تعتّق بالمعـاني فـهو للأشــعار كـنه
ساءلتها هل كان وجهك في رؤاك له حضــور يتفجر الإشـراق من قـسماته كـي أســتنير فأنا كمن يمشي على خيط الظــلام بلا مصير
قالت قليلاً ما يرى الإنسان في الأحـلام نفسـه من كان يذكرني سيبصرني ويرسـم ما أَحَسَّـه في لـوحة الحـلم التي جمعت له غده وأمسـه
فـتحسسِ الذكرى لعلك في مـنامك أن تـراني فتـبثني شـكواك والعـشق المـعتق والـمعاني وتصـوغ أغـنـيـة ترددها على سمـع الزمان
2.3- لعلني أراني أموجُ فوقَ موقدِ اصطـباري في مِرْجَلٍ منْ وعييَ الصَّديءْ وعندما ينفخُ شوقيَ القديمُ فيّْ يفيضُ بي فمي أسيلُ في خدودِ كِلْمةٍ علـيلةٍ كأنّما حروفها الحَدْبَةُ أضلعي تجرُّني أجرُّها تسيرُ بي لكي أَقرَّ في غديرِ ضعفيَ الكَدِرْ هناك حيثُ يشربُ النهارُ منْ دمي وحيثما تقتاتُ بي وجوهٌ سوداءُ تنقُرُ الصـباحَ منْ شفاهي تَفْقَأُ افتكاري هناكَ أستظلُّ تحتَ دمعتي لكنّني أجِفُّ أشِتُّ في ظنوني وأسكنُ ادّكاريَ الرحيبَ حيث أرتجي مواسمَ الفرحْ لعلّها تسوقني في غيمةِ التلاقي لعلّني أراني أُمْطَرُ منْ عيني مَرْأةٍ تحبُّني
#محمد_عبد_الرضا_شياع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دلالة المكان الدّائري في رواية جسد ومدينة
-
خليل حاوي : سنديانة الشعر والموت
-
محمد علي شمس الدّين والتّحولات اللوركية في شعره
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|