|
بهاءالله -المظْهَرُ الإلهِيّ (6)
راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 5655 - 2017 / 9 / 30 - 16:14
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يشترك كلّ الذين يؤمنون بواحدٍ أو آخر من النّظم الدّينيّة في العالم في الاعتقاد بأنَّ الواسطة بين عوالم الله وروح الإنسان هي المظاهر الإِلهيّة. وأنّ هذه العلاقة بالذّات هي التي تُعطي الحياة معنىً حقيقيّاً. إنّ من أهمّ الفقرات شأناً في آثار بهاء الله الكتابيّة تلك التي يعالج فيها بإسهاب طبيعة ودور أولئك الذين يختارهم الله واسطة الظّهور الإِلهيّ، أي "الرّسل والأنبياء" أو "المظاهر الإِلهيّة". ويعطينا بهاء الله الأمثلة واحداً بعد آخر قياساً، فيشبّه المظاهر الإلهيّة بالشّموس. وضرب المثل بأنّ الشّمس تشارك غيرها من السّيّارات التي تدور في مدارها بعض الخواصّ إلاّ أنَّها تختلف عن تلك السّيّارات كلّها لأنَّها المصدر الذي ينبعث منه النّور. فالأقمار والكواكب عاكسةٌ لنور الشّمس، بينما الشّمس وحدها تبعث النّور وتنشره كخاصّة لا تنفصل عن طبيعتها. فالنّظام الشّمسيّ كلّه محوره الشّمس ذاتها ويدور كلّه حولها، وكلّ عنصر من عناصر هذا النّظام يتأثّر بالشّمس ليس من حيث تكوينه الخاص بل أيضاً يتأثّر من حيث علاقته بالشّمس، مصدر الضّوء وباعث النّور في النّظام كلّه. وعلى هذا القياس نفسه يؤكّد لنا بهاء الله أنَّ الشّخصيّة الإِنسانيّة التي يتمتّع بها المظهر الإِلهيّ مشاركاً فيها باقي البشر، تختلف عن غيرها بصورة تجعلها مؤهّلةً لتكون واسطة الظُّهور الإِلهيّ. ويبدو أنَّ من الأسباب العديدة للبلبلة والانشقاق الدّينيّ عبر التّاريخ تلك الإِشارات التي تحمل تناقضاً ظاهريّاً بالنّسبة لهذه الثُّنائيّة في المقام، والمنسوبة مثلاً إلى السّيّد المسيح. يعلّق بهاء الله على هذا الموضوع فيقول:
"إنَّ ما في السَّمواتِ وما في الأرْضِ مَهابِطُ لِظُهورِ أسْماءِ الله وَصِفاتِهِ... وَيَنْطَبِقُ هذا عَلى الإِنسانِ بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ، فَقَد اخْتَصَّهُ اللهُ دونَ غَيْرِهِ مِنَ المَوْجوداتِ فَشَرَّفَهُ وَمَيَّزَهُ... وَتَجَلَّتْ في الإِنْسانِ صِفاتُ اللهِ وأسْمَاؤهُ عَلى نَحْوٍ أشْرَفَ وَأكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ... وأكْمَلُ النّاس وأفْضَلُهُمْ وألْطَفُهُمْ هُمْ مَظَاهرُ شَمْسِ الحَقيقَةِ، لا بَلْ كلُّ مَنْ سِواهُمْ مَوْجودُونَ بإرادَتِهِمْ وَيَحْيَوْنَ وَيَتَحَرَّكُونَ بِفَيْضِهِمْ..." (مترجم عن الفارسية)
إنَّ قناعة المؤمنين في أيّ دين من الأديان بأنّ مؤسّس دينهم يتمتّع بمقام متميّز عن غيره من مؤسّسي الأديان الأخرى، ولّد عبر التّاريخ الكثير من الحدس والتّخمين حول طبيعة المظهر الإِلهيّ وجوهره. وفي كلّ حالة من الحالات نجد أنّ هذا الحدس والتّخمين قد حدّته حدود صارمة، فهو مبنيّ على إشارات مجازيّة مجزّأة ومتفرّقة وردت في الأقوال القليلة الموثّقة لمؤسّس الدّين نفسه. ولم تسفر محاولات بلورة هذه الآراء المبنيّة على الحدس والتّخمين في شكل عقائد دينيّة إلاّ عن الفرقة والشّقاق بدلاً من الوحدة والوفاق. وفي الحقيقة فإنّه رغم ما بُذل من طاقات هائلة في الدّراسات الفقهيّة والأبحاث اللاّهوتيّة -أو لعلّه بسببها- نجد أنّ هناك اليوم خلافات عميقة قائمة بين المسلمين أنفسهم حول المقام الحقيقيّ للنّبيّ الكريم. كذلك الحال بالنّسبة لمقام كلٍّ من السّيّد المسيح بين المسيحيّين، وموسى عليه السّلام بين اليهود، ومقام مؤسّس الدّين البوذيّ بين أتباعه والمؤمنين به. وكما هو واضح كلّ الوضوح فإنَّ الجدل النّاتج عن مثل هذه الخلافات وغيرها ضمن محيط الدّين الواحد، برهن على الأقلّ أنّها خلافات لا تقلّ حدّةً عن تلك التي تفصل الدّين الواحد نفسه عن غيره من الأديان الشّقيقة الأخرى.
لذلك، ولكي نفهم تعاليم بهاء الله حول موضوع وحدة الأديان، يُصبح من الأهميّة بمكان الاطّلاع بصورة خاصّة على بياناته بالنّسبة لمقام المظاهر الإِلهيّة المتتابعة والوظائف التي قاموا بتنفيذها عبر التّاريخ الرّوحي للبشر:
"لِكُلِّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظاهِرِ الحَقِّ مَقامانِ: مَقامُ التَّجَرُّدِ الصِّرْفِ والتَّفَرُّدِ البَحْتِ. فَإذا نَظَرْتَ إلى هذا المَقامِ وَوَصَفْتَ الكُلَّ بِاسْمٍ واحِدٍ وَنَعْتٍ واحِدٍ فَلا خَطَأ وَلا حَرَج...
أمّا المَقامُ الآخَرُ فَهُوَ مَقامُ التَّفْصيلِ المُتَعَلِّق بِعالَمِ الخَلْقِ وَمَحْدودِيّاتِ البَشَر. فَإذا نَظَرتَ إلى هذا المَقامِ لَوَجَدْتَ أنَّ لِكُلِّ مَظْهرٍ هَيكَلاً مُعَيَّناً، وَأمْراً مُقَرَّراً، وَظُهوراً مُقَدَّراً، وَمَحْدودِيَّةً مُخَصَّصَةً. وَلِكُلٍّ اسْمٌ يَخْتَلِفُ عن الآخَرِ، وَوَصْفٌ يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلِكُلٍّ أمْرٌ بَديعٌ يُنَفِّذُهُ وَشَرْعٌ جَديدٌ يُجْريهِ... وَفي هذا المَقامِ الثّاني تَجِدُهُمْ جَميعاً مَظاهِرَ العُبودِيَّةِ الصِّرْفِ، وَالفَقْرِ الخَالِصِ، والفَناءِ التّامِّ وَلسانُ حالِ كُلٍّ مِنْهُمْ يَقولُ: إنّي عَبْدُ اللهِ وَما أنا إلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ... وَمِنْ جِهَةٍ أخْرى إذا صَرَّحَ أحَدُ هذِهِ المَظاهِرِ الجامِعَةِ قائلاً: إنّي أنا اللهُ، فإنَّ قَوْلَهُ الحَقُّ وَلا رَيْبَ فيهِ. فَبِواسِطَةِ ظُهوراتِهِمْ وَأسْمائِهِمْ وَصِفاتِهِمْ يَظْهَرُ اللهُ بِأسْمائِهِ وَصِفاتِهِ في الأرْضِ... وَبِالمِثْلِ إذا قالَ أحَدُهُمْ إنّي رَسولُ اللهِ فَإنَّ قَوْلَهُ الحَقُّ وَلا رَيْبَ فيهِ... وَفي هذا هُمْ جَميعاً رُسُلٌ بَعَثَ بِهْمْ سُلْطانُ الحَقِّ وَكَيْنونَةُ الأزَلِ... فإِذا قالوا نَحْنُ عِبادُ اللهِ فَقَوْلُهُمُ الحَقُّ وَلا شَكَّ فيما يَقولونَ، لأنَّهُمْ ظَهَروا في أدْنَى مَراتِبِ العُبوديَّةِ عَلى نَحْوٍ لا مَثيلَ لَهُ في الإِمْكانِ وَلا يُجاريهمِ فيهِ إنسانٌ..." (مترجم عن الفارسية) "فَكُلُّ ما يَنْطِقونَ بِهِ وَيَذْكُرونَهُ مِنَ الألوهِيَّةِ وَالرُّبوبيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالرِّسالَةِ وَالوِلايَةِ وَالإِمامَةِ وَالعُبودِيَّةِ حَقٌّ لا رَيْبَ فيهِ... لِذَلِكَ يَجبُ التّأمُّلُ في ما ذُكِرَ مِنَ البَياناتِ حَتّى لا تَضْطَرِبَ النُّفوسُ وَتَتَزَلْزَلَ إذا وَجَدَتِ اخْتِلافاً في أقْوالِ المَظاهِرِ الغَيْبِيَّةِ وَالمَطالِعِ القُدْسِيَّة..." (مترجم عن الفارسية)
المراجع
42 لعرض مسهب حول هذا الموضوع راجع كتاب "من مفاوضات عبد البهاء: محادثات على المائدة" (من منشورات دار النّشر البهائيّة في بلجيكا، 1980) ص145-163.
43 راجع مثلاً كلمات السّيّد المسيح: "فَقالَ لَهُ لماذا تَدْعوني صالِحاً. لَيْسَ أحَدٌ صالِحاً إلاّ واحِدٌ هُوَ الله" (إنجيل متّى إصحاح 19 آية 17) وأيضاً "أنَا والآبُ واحِدٌ" (إنجيل يوحنّا إصحاح 10 الآية 30).
44 "منتخباتي"، ص117-118.
45 المصدر السّابق نفسه، ص41-43.
46 المصدر السّابق نفسه، ص44.
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بهاءالله - -هذا دينُ اللهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ...- (5)
-
بهاءالله -إعْلان حَدِيقَة الرّضْوَان (4)
-
بهاءالله - النّفْي والإبْعَاد (3)
-
بهاءالله- مَوْلِدُ الظّهُورِ الجَدِيد (2)
-
بهاءالله-عَلى أعْتَابِ عَصْرٍ جَديدٍ (1)
-
رسالة بهاءالله للعالم
-
طلوع الشمس من مغربها و خروج الدابة
-
من هو بهاءالله؟ .....بهاءالله في الأديان
-
الرموز والإستعارات بالكتب السماوية الخامس والأخير
-
الرموز والإستعارات بالكتب السماوية (4)
-
الرموز والإستعارات بالكتب السماوية (3)
-
الرموز والإستعارات بالكتب السماوية (2)
-
الرموز والإستعارات بالكتب السماويّة (1)
-
الرؤية البهائية لعالم متحد-(3/3)
-
الرؤية البهائية لعالم مُتَّحد2-3
-
الرؤية البهائية لعالم مُتَّحد 1-3
-
متى يتعظ البشر وينزعوا عنهم قميص التعصب الأعمى؟
-
تقدّم البشرية نحو السلام
-
التحرّي عن الحقيقة
-
الطريق للسلام ووحدة العالم
المزيد.....
-
خلال لقائه المشهداني.. بزشكيان يؤكد على ضرورة تعزيز الوحدة ب
...
-
قائد -قسد- مظلوم عبدي: رؤيتنا لسوريا دولة لامركزية وعلمانية
...
-
من مؤيد إلى ناقد قاس.. كاتب يهودي يكشف كيف غيرت معاناة الفلس
...
-
الرئيس الايراني يدعولتعزيز العلاقات بين الدول الاسلامية وقوة
...
-
اللجوء.. هل تراجع الحزب المسيحي الديمقراطي عن رفضه حزب البدي
...
-
بيان الهيئة العلمائية الإسلامية حول أحداث سوريا الأخيرة بأتب
...
-
مستوطنون متطرفون يقتحمون المسجد الأقصى المبارك
-
التردد الجديد لقناة طيور الجنة على النايل سات.. لا تفوتوا أج
...
-
“سلى طفلك طول اليوم”.. تردد قناة طيور الجنة على الأقمار الصن
...
-
الحزب المسيحي الديمقراطي -مطالب- بـ-جدار حماية لحقوق الإنسان
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|