|
ليلة القبض على الحياة
بلقاسم عمامي
الحوار المتمدن-العدد: 5655 - 2017 / 9 / 30 - 04:31
المحور:
الادب والفن
حالات رعب عشناها... لازلت أتذكرها وبالتفاصيل....أخي نوفل وقتها كان ملدوغا...عقرب لدغته عشية... وضعونا فوق طاولة الأكل أخي حسان وأختي أمال وأخي نوفل وأنا....دادة وقتها كانت صخرة قوة وشدة وتحوّطا من الطارئ...وقد حزمت فوق ظهرها صغيرها وقتها لم يتعدّ الأربعين يوما ذاك الذي "كان اسمو الفرحة" عمر الفاروق....أصرّت أن تحزمه هكذا...رفضت تركه معنا فوق الطاولة...قالت إن حملني الماء فليحمله معي...لن أتركه...ما كانت تدري كيف هو سيترجّل من دونها حين أصابها من العجز الكثير...
المنزل وهو عبارة عن فيلا من جناحين يشقهما "كولوار" من الجنوب باتجاه الشمال...والدي قال "البيت لن يقع حتى وإن بقي على زواياه الأربعة، الدالة قوية ما تخافوش"...كانت هناك دادة عيشة وأختي الفقيدة فاطمة أم الخير....دادة عيشة كانت عكس دادة، لاتخفي خوفها علينا."حليلي على وليداتي" وكانت تكثر من الاستغاثة للرب... كان تضرعها يبعث فينا أحاسيس مضطربة بين حبها لنا الذي يظهر في حشرجة صوتها المرتعش وفي ما كانت تؤلفه من "تضرعات في الصميم"... لم تك تعلم أن الرب وقتها لا يسمع،،، وإن سمع فلن يتراجع في قراره دك مدينتي...فهو لن ينقض حكمه....
وكان هناك الصخرة الأخرى...خالي محمد علي بن عامر...لا تعرفونه؟ أهل المكناسي يعرفونه كما عرفه جبل برقو وجبل سمامة وجبل عرباطة وجبل بوهدمة وجبال مكثر والسلوقية والدهماني وجبال عديدة من بلادي....هو ليس من طينة الذين يتسلطنون هذه السنوات في جبال القصرين من الإرهابيين ولا من الذين تعنتروا في بن قردان ليلة 7 مارس الفائت...فقتّلوا وأرهبوا وأفسدوا على تلاميذ الباكالوريا عامهم هذا فما عرفوا للنجاح طعما.... هو القائد الميداني خلال فترة المقاومة الوطنية التي أذاقت المستعمر ألوانا من القساوات والتي أمرها "بورقيبة" ذات سنة 1954 قبيل حتى نيل الاستقلال أن تسلم سلاحها لـ...المقيم العام...خالي محمد على بن عامر (كم أتلذذ حين أنطق اسمك مرفوقا ب"خالي") هو أيضا ضحية للاستبداد البورقيبي بما أنه متهم بالتخطيط للانقلاب ضمن مجموعة لزهر الشرايطي بعد ما انقلب عليه بورقيبة واتهمه بال"يوسفية"....التهمة التي كانت تطلق اعتباطا للتخلص من الخصوم.... والذي سعى نظامه إلى تهميشه وتحقير دوره وتجويعه وإخضاعه للإبعاد والمراقبة..... ثم هو والد المناضل القومي "عبد المجيد ساكري" الذي أعدمه بورقيبة في افريل 1980 على خلفية أحداث قفصة...
خالي محمد علي بن عامر لم يجد في طريقه هيئة بن سدرين لـ"تردّ له اعتباره" وتعوض له عن سنوات القهر والسجن وعن مقتل ولده....كان أيضا هناك معنا في تلك الليلة المدلهمة والتي شهدت مرور أكثر من ستة عشر مناوبة سحب ممطرة كأنها أنهار...هو كان عائدا من حمام المدينة ولم يجد في طريقه منزلا يستجير به سوى منزلنا....فاستقبله والدي حسنا...مكنه من ملابس جافة والاثنان من الذين يُشهد لهم بزينة اللباس التقليدي...استبشر والدي خيرا وقد وجد إلى جنبه رجلا جلمود صخر قوة وبأسا وشجاعة... "ما تخافوش مانيش وحدي" وفجأة انهار السياج الخارجي من الجهة الأمامية بالكامل...وقذفت المياه أكياس الرمل التي رصفناها في مدخل المنزل– يعني رصفوها حينها أنا كنت في العاشرة من عمري – واجتاحته بالكامل....
من هناك، كان "خالي التومي بن مقطوف" يراقب منزلنا عبر ضوء ينبعث منه...كان يقول "راقبوا الضوء، حين يغيب فقد انهار المنزل"... كانت تضرعات دادة عيشة تملأ المكان فتغطي على توسلات دادة وصراخ خالي محمد علي بن عامر...هو لم يكن صراخَ استغاثة بل كان صراخ شحذ عزائم وعلامة حياة...كان يقول لوالدي اجعلهم ينادون حتى نعرف أنهم أحياء... كان هو ووالدي كمن يوقد جذوة الحياة فينا...وكنا هناك فوق طاولة الأكل متمسكين بها ...وكانت غرفة الأكل على يمين المار بالممر وكان الماء يضرب بقوة فينحرف منه جزء ليدخل علينا كأنه الثعبان سرعان ما تفتر قوته وينزل ارتفاعه في الغرف... وكانت دادة وأختي فاطمة دوريا تضغطان على الطاولة لتثبت في مكانها بفعل الطين الذي جلبته المياه...
وكان على والدي وخالي محمد على بن عامر أن يجدا سريعا حلا: لقد انحصر الماء حين لم يجد متنفسا في اتجاه الشمال.. لا مفر من فتح ثغرة في سياج المنزل من الجهة الخلفية...تلك كانت اللحظة الموجعة...خرجا كل بفأس ورفش وقررا النجاح....فنجحا... وبدأ مستوى الماء داخل الغرف ينخفض تدريجيا وبدأت الوجوه تنفرج عن ملامح أمل وحياة... وكنا جميعا هناك... وكان هناك والدي وخالي محمد علي بن عامر...
#بلقاسم_عمامي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صدمة اختبار -الإيقاظ العلمي-...........ما هي الدروس؟
-
-السبورة السوداء- مخطط الأغنياء لتحطيم التعليم العمومي
-
-الشهيد منّا......والقاتل منّا-
-
خواطر حول العملية الإرهابية بتونس العاصمة هذا المساء
-
لنكسر السقف وننظر فيما وراء أزمة وزارة التربية مع المدرسين ف
...
-
قراءة في كتاب المفكر -محمد عمامي-: تونس: الثورة في مواجهة عو
...
-
في العلاقة بين الدّولة والتّعليم في تونس: رصد لسياقات التّحو
...
المزيد.....
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|