محمد عبد الرضا شياع
الحوار المتمدن-العدد: 1463 - 2006 / 2 / 16 - 11:24
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
تقدم الكاتبة المغربية زهور كَرام في روايتها جسد ومدينة_ الصادرة عن مؤسسة الغني للنشر, الرّباط, الطّبعة الأولى، 1996_ عملاً حافلاً بالمتعة والإثارة عبر الأسئلة المتدفقة بلا انقطاع، والتي تشد القارئ إليها من اللحظة الأولى. ذلك من خلال الكتابة المتسمة بالنّفحة الشّعرية وببراعة الكاتبة وقدرتها المعرفية على الفعل الرّوائي، باعتبارها أستاذة لمادة الرّواية، والذي تعده بالتالي, هماً من همومها الحياتية..
من هنا تعثر القراءة على لذة المصاحبة ومتعة الاندهاش, ذلك ما يدركه المتلقي وهو ينصت بدواخله للرّاوية وهي تسرد الأحداث المليئة بالغواية والانبهار. إذ يُعَدّ الإنصات, هنا, شرطاً من شروط قراءة هذا العمل، لأنّ القراءة العاجلة قد تأخذ صاحبها إلى دائرة المتاه، كون هذا العمل لم يُكتب للمتعة فحسب، وإنّما كُتب لإثارة قضايا وطرح أسئلة تتداخل الأصوات فيها وتتشابك، حتى إنّ مَنْ يقرأ جسد ومدينة يحس بالألفة معها، لأنّها تحمل قضية بها تتعدد القضايا وتلتقي. والذّوات التي تشغّلها, لغة وحدثاً, قد تجد مثيلاً لها في أكثر من مكان وأكثر من زمان.. هذا ما يمكن أن نلمسه في خطاب الكاتبة وهي تمهّد للدخول إلى عالم روايتها المتعدد الأضلاع. حينما تقول: " القضية واحدة لأنّ الحلم الذي يكبر في الدّاخل يتكرر في ذوات مختلفة ولكنّه يبقى واحداً "، لذلك يكون " الخطاب.. خطابات "...
نحفل بقول المؤلفة على اعتباره نصّاً موازياً للعمل الإبداعي به يمكن إضاءة النّص وإيجاد منفذ للولوج إليه. من هنا يمكن أن ندرك من هذا التّمهيد الإشكالات التي تزرعها الكاتبة بكلّ تأن، وبكلمات مقتضبة جداً، لكنّها ملتهبة ومنذورة بالتّحولات، وكأنّ لسان حالها يردد ما قاله هيراقليس إنّ " الماء هو التّحول الأول للنار ".
هكذا تأتي القراءة مغامرة لاقتحام فضاء النّص الحافل بالماء المنهمر " من وحي المطر " _عنوان الفصل الأول_ حيث " من بعيد يجتمع الضّباب " الذي به تتعين نقطة العبور التي ستكون " بهجة..." لنطفة ستشرق عن لقاء يتيم, منه تتناسل التّيمات وتتعدد, فكلما نقول هذه هي التّيمة المحورية التي عليها يتأسس النّص تظهر تيمة أخرى أشد تواصلاً وأكثر ضياء, وكأنّ بناء الرّواية يقوم بفعل تيار عاصف ينداح في كلّ اتجاه دون أنْ يفقد المركز.
بداية تحمل، إذن، إشكالية القراءة, مع النّطفة الأولى؛ الجنين الذي سيكون شخصية محورية من شخصيات الرّواية الأساسية: سعيد, آمال, إبراهيم, أم آمال بالإضافة إلى الرّاوية التي تحمل هذا الجنين وكأنّه أصل كلّ الأشياء، بحضوره تنوجد وبغيابه تزول.
تتجلى الأحداث ولغة الحكي من خلال العلاقة الجدلية التي تربط هذه الشّخصيات بالمكان وبالذّات المكان المغلق_الدائري: " المكان يسكننا نحن..والمدينة بكاملها..دون أنْ نجزئها..نار تغلي بداخلنا.." ( ص: 24 )
إنّ المكان منظومة ثقافية, قبل كلّ شيء، يتفاعل فيها المادي والمعنوي.. لذلك منه سيكون الانطلاق وإليه ستكون العودة، باعتباره مثاراً لإشكالية تظلّ هاجساً أساسياً من هواجس الشّخصيات التي تحاول التّخلص والانفلات من عتمة دائرته المغلقة إلى فضاء أرحب، حيث تعثر الذّوات على ماهياتها المفتقدة لتشيد من هناك حلمها المنتظر.
هكذا رصدت الكاتبة حركات الشّخصيات وسكناتها من الدّاخل ليتأسس عالم الرّواية وفضاؤها على صور الاستدارة كون هذه الصور الكاملة " تساعدنا على التّماسك، وتسمح لنا أنْ نضفي مزاجاً مبدئياً على ذواتنا، وأنْ نؤكد وجودنا بحميمية، في الدّاخل، لأنّ الوجود حين تعاش تجربته من الدّاخل، ويصبح خالياً من كلّ الملامح الخارجية، يكون مدوراً." ( غاستون باشلار_جماليات المكان_ص: 209 )
من الوهلة الأولى وهذه الصور تتجسد بحميمية مطلقة بعلاقاتها مع شخصيات الرّواية، وذلك من خلال المواقف والمواقع، ومن حيث الهموم والرّؤى متجلية عبر الكلمات والجمل:
" منذ زمن ونحن نختفي بالمظلات..." ( ص10 )
"... ألم يتم صنع الشّكل الدّائري! إنّه دليل الغربة والعزلة هنا في هذه المدينة..." (ص19)
"والشّكل الدّائري يطوق المقاهي في هذا المكان " .(ص20)
"والسّور... غريب أمر هذا السّور الذي يحيط بالحي ". (ص23)
" بل إنّه يدور حولها في صمت وكأنّّه يحاول تلمس حفريات تمثال في متحف ".( ص30 )
هذه بعض نماذج صور الاستدارة في الرّواية التي تظلّ تتدفق باستمرار من البداية إلى النّهاية. إنّها صور الحياة المحمية داخل هذا الحي المهمش الذي تابعت فيه الكاتبة منابع الحياة في هذه المدينة_الجسد التي تشبه كثيراً من المدن مادام الحلم واحداً، والقضية واحدة وفي هذا دلالة واعتبار.
من هنا تبدأ الصّرخة، صرخة الصّراع بين الشّخصيات، وبين الدّوائر المغلقة لمعانقة فضاء أرحب. وكان لابد من المجاهدة والحلم وتحقيق تلك الرّؤيا التي كانت تطارد سعيد في صحوه، وهو يتأمل كلّ يوم من النّافذة تلك الخطى المتعثرة التي تشبه أمواج السّراب في صحراء العدم... يحلم بالأطفال الذين تُعَلّم أجسادهم أوحال ذلك المستنقع اللعين الذي يتسع باستمرار، حتى إنّ هذا المستنقع أضحى هماً من همومه الكثيرة، وكانت روائحه صرخات دائرية تلوث الأفق " حتى المستنقع شكله دائري والأطفال يطوفون حوله... أشعر بالاختناق... بالدّوار من كثرة الطواف... كيف نفك الدّائرة..." (ص18)
لكنّ سعيداً لم يفلح ولم يحقق شيئاً مما كان يتغيا، لأنّه غُيب بفعل فاعل، لينتقل من دائرة إلى أخرى... ربما هي أكثر انغلاقاً من سابقاتها... وحتى آمال بات حلمها مهدداً هي الأخرى. حلم تجسّد بحبّ إبراهيم والزّواج منه؛ " حبّ إبراهيم رهان جديد أتمسك به كما يتمسك الغريق بيد تطفو على سطح الماء.." ( ص44 ) تقول آمال. لكنّ غياب سعيد سيبدد كلّ شيء لأنّ آمال وإبراهيم اتفقا على أن يقوم سعيد بتزويجهما.
عُين إبراهيم في الجنوب، وكان هذا التّعيين بمثابة الدخول إلى دائرة من العزلة، إذ " الشّيء يصبح مدوراً حين يصبح منعزلاً، عندها يتخذ شكل وجود مكثف منطو على ذاتـه ". ( باشلار. ص: 213 )
هكذا سيكون الاتصال بينه وبين آمال عن طريق الرّسائل التي تفتح أمامها باباً للهجرة. لكنّ الطّريق للسفر سيؤدي إلى متاه آخر إلى دائرة أخرى. سينتهي بدخولها إلى صالون الحلاقة " صندوق العجائب ". هذا العالم الغريب عليها بطبعه وبطبيعته سيسلب منها كلّ شيء. ثم تنتهي علاقتها بإبراهيم بانتحاره ليدخل بدوره إلى دائرته النهائية..
من هنا تكون العلاقة جدلية بين الشخصيات وبين المكان الذي يرمي شباكه الدّائرية على طول مسار الأحداث. وكلما حاولت هذه الشّخصيات الانفصال عن فضائها عادت إليه. لكن لابد للدائرة من أن تنفتح، ولابد للحلم من أن يلامس الواقع، ذلك ما تعد به الرّاوية لتحقيق حلم سعيد من خلال جنينه الذي تركه نطفة في أحشائها، مجسّداً عشقه للمدينة من خلالها في لقاء يتيم ليستمر الحلم، وليكسر الصّمت ويتم الحديث عن هذا الجنين الذي كان له حضور بارز في الأحداث، في الحوار، في لغة الحكي. بل كانت له ذاكرة يسأل وينتظر الإجابة: " لكن، هذه المرة قررت أنْ أتحدث عن الوليد المنتظر، وأنّ سعيداً لم يمت، إنّي أحمله بين أحشائي، أكلّمه كلّ مساء، وأصبّح عليه كلّ صباح، ويسألني عن آمال وأم آمال، عن إبراهيم والمدينة، عن الأطفال والمستنقع..."( ص88 )
لقد ترك سعيد، من حيث لا يدري، حلمه ينمو ويكبر، وعشقه للمدينة سيرى النّور، ويتأمل المارة عبر النّافذة، لأنّه أودعه الرّاوية التي تحمل الهم نفسه، ولها التّطلعات ذاتها، هذا ما تقوله أفعالها: " بقيت جاثمة في السّرير... أنصت بنشوة إلى الأمطار... الأمطار التي جاءت من غير موعد. بعد أيام المخاض انتفضت من فراشي وأسرعت إلى النّافذة، لا، مباشرة إلى الباب، كان حلم المدينة يؤرّقني وكانت أمطار أيام المخاض قد أعانتني على المخاض، تدفقت فتدفق خيار من أحشائي، لم يترك أثراً على بطني. كأنّ شيئاً لم يحدث. كأنّ جسدي لم يتكور".( ص91 )
هكذا تنفتح الدّائرة، ويتجدد عشق المدينة وتنتفض الأجساد من جديد حتى تكون المدينة جسداً والجسد مدينة. وتستمر التّحولات المنذورة بتحولات أخرى تجسدت عبر لغة أتقنت الرّوائية تنظيمها، لغة أقل ما يمكن وصفها بلغة شاعرة مليئة بالإيحاءات والدّلالات التي يستشف من خلالها بأنّ زهور كَرام أرادت لقرائها أن يتأملوا "جسد ومدينة" وأنْ يقولوا كلّ شيء يبدأ من جديد. ثم يقرؤون العمل ويبتسمون...
#محمد_عبد_الرضا_شياع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟