|
تعدد الزوجات بين فحوى النص المخصوص، وعدوى الواقع المفحوص. -2-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5651 - 2017 / 9 / 26 - 04:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تعدد الزوجات بين فحوى النص المخصوص، وعدوى الواقع المفحوص. -2- رابعا: هكذا يكون القرآن قد صحح وضع ظاهرة من الظواهر الاجتماعية، وركب مضمونها على ما تقتضيه مقومات قيمه، ومقاصده، وهي عملية المزج بين الفكر الأمومي والأبوي في علاقة مترابطة بمستوى عال من الحدود الأخلاقية، والاجتماعية، لئلا يستحوذ نمط على نمط، أو ظاهرة جزئية على حدث كلي، فيستبدل المجتمع الديني العدل بالظلم، والطيب بالخبيث، ثم تغدو العلاقة مبتورة بين الإنسان وربه، وبينه وبين ذاته، وبينه وبين خارجه الملتبس بأوضاع مختلفة في الفكر، والرأي، والموقف، لأنه بعدم تفاعله الإيجابي مع كل التوجهات القائمة في واقعه، سيكون في مسيس الحاجة إلى تلك الرابطة التي تضمن له بقاء الصيرورة، وتكسبه تمام الكينونة، إذ لو تخلى عن الاستقامة المكنونة في حقائق المعاني، وانحرف عن القصد الموروث في نظام الأشياء، لكان سبيله مرتعا للخيانة، ومرفأ للأخلاق التي تفقده صلة السماء، وتلطخه بأوساخ الأرض، وأدران ما فيها من غرائز فجة، وشهوات غضة. لكن إذا انقطع الخطام، أو انفلت الزمام، فكيف يمكن تدبير شأن اليتيم، وهو غير قادر على حفظ ماله في مجتمع متوحش، ومتغول، وتمتيعه بحقه في الوجود المكتسب بالقوة، والعصبية.؟ إن الأولى به كما قلنا أولياءه، أو أوصياءه، أو أقرباءه، أو الدولة، أو الجماعة، إذ هو جزء من المجتمع الذي لا تتكامل بناه إلا بالتعاطف، والتآلف. وإذا تعذر ذلك بسبب من الأسباب التي تعطل مفهوم الخير والإحسان إلى الآخرين، وانعدمت الصلات الاجتماعية في المجموع الكلي، وفقدت العلاقات الإنسانية بين مكونات المجتمع النفعي، وغدت الأنانية عقيدة مقدسة بين المناكب، والمجالب، وصارت حقيقة الجور متفشية بين الربوع، والأكوار، فكيف يمكن لنا أن نوجد حلا آخر، يجوز له أن يعوض اليتيم ما خسره في وضعه الأصلي من روابط، وصلات، ما دامت العائلة البشرية تحيى على حطام أحط دركات المسؤولية، وأخس تضحياتها في سبيل الالتزامات الأخلاقية.؟ إذا عدنا إلى ظلال سورة النساء، وتأملنا ما فيها من المعاني الإنسانية، والحقائق الأخلاقية، وهي في كبرى أهدافها الواقعية، تضع أساس لبنات مجتمع إنسي، وبشري، تتحرك فيه القلوب بحركات الأجساد، والعقول بانفعالات الجوارح، فلا محالة، سنجدها ترسم لنا طريقا يثمر فينا معنى الإحسان إلى الأيتام، والتكفل برعايتهم، والتضامن مع وضعهم الاجتماعي، وسواء ما تعلق في ذلك بحفظ الأموال، والتركات، أو ما تعلق بالتربية، وتأمين الحياة من الضياع، والفراغ، لأن ذلك مما يكسب المجتمع الإسلامي حصانة، ومناعة، ويمنحه قوة، وهيبة. إلا أن تتبع سياقات السورة، والاسترسال مع مفاهيمها المتسمة بالمرونة، والشمولية، يجعلنا نبحث عن سبب إدراج قضية التعدد في مقام الحديث عن الأيتام، وعن علة اقترانهما بالعدل المطلوب صوغه بمحددات أخرى، وعن الغاية التي يسعى إلى تحقيق قيمها في العقيدة، والسلوك. إن درك ذلك، يستلزم الكشف عن أسباب النزول، والفحص لكل الظروف المحيطة بها، والربط بين كل الفواعل الاجتماعية المكونة لها، لعلنا أن نهتدي إلى قنوات التواصل بين القضيتين، ونسترشد إلى معرفة المآلات التي يريد القرآن أن يرسخ مبادئها، وغاياتها. ولذا، نرى كتب التفسير تشير إلى سبب خاص، وهو إباحة التعدد عند الإضرار باليتيمة في حالة الصداق، وهو ما أورده كثير من المفسرين، اعتمادا على موقوف روته السيدة عائشة أم المؤمنين (ض). يقول الطبري في تفسيره: حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرنـي عروة بن الزبـير، أنه سأل عائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم، عن قول الله تبـارك وتعالـى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَاءِ } قالت: يا ابن أختـي هذه الـيتـيـمة تكون فـي حجر ولـيها، تشاركه فـي ماله، فـيعجبه مالها وجمالها، فـيريد ولـيها أن يتزوجها بغير أن يقسط فـي صداقها، فـيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلـى سنتهنّ فـي الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال يونس بن يزيد: قال ربـيعة فـي قول الله: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ } قال: يقول: اتركوهنّ فقد أحللت لكم أربعاً. إن هذا السبب على إمكانية خصوصيته، قد يحتمل أن لا يكون حكما عاما على جميع الحالات التي يجوز لنا أن نستجليها من ظلال النص، وتطورات محاضن تنزيله، وتأليفه، لأنه مقيد في تأويله بالأولياء والأوصياء الذين يتوسطون بالزواج إلى أكل مال اليتامى، وهي اليتيمة على القلب كما قال اللغويون، وسواء عني به الصداق، أو عني به عين ما ورثته من مال. وإذا كان تفسير السيدة عائشة (ض) يحتمل أن تكون قد أعجبته، فإنه يحتمل أن لا تكون قد أعجبته، وهي في حجره، وله عليها حق الولاية، فيضر بها، ويمنحها دون ما تستحقه من صداق، فيكون هذا الحيف سببا شرعيا يحث على الزواج بالغريبة، لما يظهره ذلك من قيم العدالة التي يجب أن تستولي على بنيات المجتمع الإسلامي. وهذا على اعتبار المقصود بالتعدد اليتيمة الجميلة أو القبيحة التي لوليها عليها وصاية، وقد ترك لها أبوها مالا، ويحتاج إلى من يصونه بالمحافظة عليه، أو الاستثمار فيه، فجار في تصديقها صداق مثيلاتها. لكن إذا قصدنا أن يعضلها وليها أن تنكح غيره، ويمسكها ضرارا إلى أن تكبر، لكي يتزوجها برغبة امتلاك مالها، فإن ذلك يعني أنه قد رخص له في التزوج بها، لئلا تفقد حضنها، ومالها. وذلك ما يفهم من كلام ابن حنيفة حين أجاز نكاح اليتيمة قبل البلوغ. وعلى هذا يكون هو الناكح، والمنكح، وتكون هي محلا للتعدد، وإن خولف في ذلك بأقوال نص عليها أئمة المذاهب، ويصار إليها في مظانها. لكن إذا اعتبرنا المقصود به الزوجة، وهي ذات الأرامل التي توفي عنها زوجها، فالأمر يختلف في فحواه عن الرأي السائد في كتب كثير من المفسرين، لأن إقصاء هذا النوع من التعدد، مع ما يحمله مفهومه الاجتماعي والإنساني من معان عظيمة، لا يغذي إلا العقلية الذكورية، ولا يزكي إلا الإرادة الجنسية المحمومة بسعير الشهوة، والرغبة الأكيدة في امتلاك عدد من النساء بمقتضى ذهني، وذاتي، إذ هو لا يدل عند كثير من الرجال إلا على خلل نفسي، أو مرض عقلي، أو قصور جنسي، لأن الوفاء للزوجة الواحدة أكمل في رسم صورة للجمال الإنساني الكامل العلامات، والأمارات، وهو في محل تعدده، لا يدل على هذا المعنى، بل يدل على الاشتراك الذي تنتفي به الوحدة العميقة الرمز، والإشارة، ثم يغدو طلب التنوع نزوة غير مهذبة التصور، ولا محددة السلوك. وإذا أضفنا إلى ذلك ما يستلزمه دور حماية الأبناء في واقع ثقيل الأعباء، وجسيم الأرزاء، فالقول بضرورة تقييد التعدد مستساغ، ومقبول، لأن هدف إنشاء الأسر، هو بقاء النوع الأصلح، إذ به تستمر صولة الخير، وجولة الصلاح. وإلى جانب هذا، نرى أن النص يعالج ظاهرة كانت سائدة في مجتمع التنزيل، وهي ميل قريش إلى التعدد من الزوجات، فإذا أفلس أحد منهم، وصار معدما، أخذ مال اليتيمة التي في ولايته لحاجته إليه، فيتزوجها رغبة في استحلال ذلك، أو يتزوج به من غيرها. ولهذا ورد النهي حاسما لسد هذه الذريعة، لئلا يحصل الظلم على اليتيمة، أو على زوجاته التي يعددهن زهوا، وافتخارا، لما في ذلك من استقواء، واستحواذ، لاسيما في مجتمعات تعتمد على عصبية العشيرة، والقبيلة، وعقلية تَصير الكثرة فيها حمية، وأنفة. فهذا غيلان الثقفي، أسلم وتحت يده عشر نسوة، وهكذا عميرة الأسدي، أسلم وعنده ثماني نسوة، ونوفل بن معاوية الديلمي، أسلم وعنده خمس نسوة، وهكذا غيرهم، وهم كثيرون في كتب التاريخ والأدب العربي. وحكاياتهم تروى للاستشهاد على وضعية المرأة في الزمن السابق لنزول القرآن، وتحكى للاستدلال على كيفية بناء الأسر في المجتمعات الجاهلية، وطرق تكوينها في الطبيعة. ومن هنا، فإن تعدد الزوجات، قد كان مباحا في العصور التي وجدت قبل الإسلام، وهو غير مقيد بعدد معين، ولا محدد بضوابط تنظم عملية الزواج، والطلاق، بل كانت المرأة محلا لوقوع الظلم، والجور، وموقعا لنزول الازدراء، والسخرية، لأن سلطة الرجل في المجتمعات الذكورية، ومحورية دوره في الأسرة، والجماعة، لا تتجلى إلا في الاتصاف بالوفرة من الزوجات، وسواء في ذلك الحرائر، أو الإماء، بل كان له الحق في أن يضيف إلى دائرة زوجاته ما يشاء من النساء، وأن يطلق منهن ما يشاء، ما دام ذلك يقوي شعوره بذكورته، وفحولته، إذ المنظور إليه، هو الرجل وحده في أشواقه المضمرة بين صور ذهنه المتضخم بالأنا المسعورة، وليس المرأة في ذاتها الاعتبارية، لأنها كيان مسلوب الإرادة، ومعدوم الحرية، لا قيمة لها إلا بوجود رجل معها، هو الذي يملك كليتها، وهويتها، ويقبض على مداخلها، ومخارجها. وله الحق في أن يطأها متى شاء، وأن يستنكف عنها متى شاء، ولا يضيره ما كمن فيها من إحساسها، وشعورها، بل هي غير مطلوبة إلا لذلك، ولا مرغوبة إلا لجر الذيل، وإثراء مجون السرير، ولا محبوبة إلا لطاعتها، وخضوعها لنزواته الحيوانية. هكذا تصورتها المجتمعات التي تولد من أحشائها الإسلام، وهكذا تحولت عاداتها وتقاليدها وأعرافها إلى الأسرة التي أراد القرآن أن يصوغها بمبادئه، وكلياته. لكن هل أفلح المؤولون للتنزيل في رسم تلك الصورة بأبعادها، وظلالها.؟ أم التبست المعاني في كثير من المحددات، فتنفست ما في جونها من لفح الذكورية، والفحولة.؟ إن الإجابة عن هذا، سيأتي عند التعرض للدوافع التي تجيز التعدد عند الفقهاء، لكن ما يمكن أن يشار إليه هنا، هو دور القرآن في تجاوز هذا الواقع المشين، وفعله في نقل تلك المجتمعات من نمط في العيش إلى ما هو أرقى منه، يفرض عليها تبعات تحد من تنوع الزوجات، وتعددهن، وينظم العلاقات الأسرية بقيود العدالة، والمساواة. خامسا: لعل هذا المنحى في التأويل، لا يفيدنا إلا من الناحية التأصلية للقضية في المقولات الفقهية، وهي ما تحدد به تعدد الزوجات التي انتهى إليها تأويل النص المفصول عن سياقه، وعن تتمته التي ختمت بها السورة. لكن إذا نظرنا إلى هذا السبب، وأضفنا إليه ما يحتمله النص من أسباب أخرى، لها وجهة في تحديد علاماته، ورسم أماراته، فإننا سنجد القرآن قد قارن بين اليتامى، والتعدد في النساء، لكون المحافظة على ماله أعسر على النفس المحتاجة. وهكذا التعدد في قصارى الجهد البشري، فإنه يعظم فيه الوفاء بكل القيم المكونة للزواج المتعدد، وسواء ما تعلق من ذلك بالجانب المعنوي، أو بالجانب المادي، لأنهما ضروريان في كل عملية زواج تربط بين ذكر، وأنثى، يكون اتصالهما ملاذا لأسرة تنشأ عنهما، وتتفرع منهما إلى محاضن متنامية، ومتناسلة. ومن هنا، فإن العدل في ذلك مع اشتداد الحاجة، والفاقة، مما يصعب وقوعه، ويعسر حدوثه، إلا إذا حصل اليقين باستواء النفس في حالتي الشدة، والرخاء، ولم يدهم الخوف ظنا، أو شكا، وتفتحت المدارك للتمييز بين ما حقه الثبات، وما حقه التغير، إذ الاحتياج اختبار للإيمان الشخصي، والجماعي، وامتحان يجتاز به الفرد إلى عالم السماء، وهو في حقيقته يتصف بالعدل المطلق الذي لا يرد عليه عارض فيغيره، أو يبدله. ولذا، يكون تأويل الآية؛ فإذا " خفتـم أن لا تقسطوا فـي الـيتامى، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا فـي النساء". إن الخوف من الجور في مال اليتيم إيمانا، ويقينا، وتعظيم ذلك في النفوس السوية احتسابا، وامتثالا، يسبب الخوف من الجور في تعدد الزوجات، والحرص على الوفاء لعهد الذمة الذي يفرض الأمانة، والعفة، لأن مفهوم العدل كلي، ولا يتجزأ، ولا ينفصل إلا للتقسيم، إذ لا يمكن التحرج من مال اليتيم، والتساهل في أمر تدبير الزوجات بمقتضى السوية، لأن كل ماصدق العدالة، لا يتقوم إلا بإقامة مفهومها في جميع ما ينشئ نواميس العلاقات الإنسانية، ويوطدها، ويجعلها قابلة لولادة مجتمع متجانس، ومتكامل. ولذا، يقول الطبري في توجيه رأيه، وهو الأولى عنده من جهة التأويل: وذلك أن معنى الكلام: وإن خفتـم ألا تقسطوا فـي أموال الـيتامى فتعدّلوا فـيها، فكذلك فخافوا ألا تقسطوا فـي حقوق النساء التـي أوجبها الله علـيكم، فلا تتزّوّجوا منهنّ إلا ما أمنتـم معه الـجور، مثنى وثلاث وربـاع، وإن خفتـم أيضاً فـي ذلك فواحدة، وإن خفتـم فـي الواحدة فما ملكت أيـمانكم، فترك ذكر قوله، فكذلك فخافوا أن تقسطوا فـي حقوق النساء بدلالة ما ظهر من قوله تعالـى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ}. وعلى هذا الرأي، فإن جواب الشرط محذوف، وينوب عنه فانحكوا، لأنه لازمه، ومسببه، والمعنى؛ وإن خفتم عدم العدل فى اليتامى، فخافوا أيضاً عدمه فى النساء. وهكذا، فإن في الخوف من عدم الإقساط مدعاة إلى رفض التعدد، ومندوحة عن الوقوع في سبته، ومعرته، لأنه تلطف في صرف المكلفين إلى ما يطاق فعله، ويقع الجزاء عليه ثوابا، أو عقابا، فيصير الاقتصار على الواحدة مطلبا ضروريا، إذا انتفى الظلم، وحصل الإنصاف، لكونه أوفى في تحقيق مراد العدل، وأقرب إلى كسب ما يرجوه التنزيل في صياغة كليات العقل، والفكر، والنظر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يجوز أن يكون النص معالجا لوضع قائم في بدايات الإسلام، وهو متصل بما كان سائدا وشائعا في الجاهلية، فيصير معناه مقيدا بما هو متفش في زمن نزول الرسالة، وقد كانوا يتزوجون العشر من النساء، كما في قصة غيلان بين سلمة الثقفي حين أسلم، وقد كان تحته عشر نسوة، فخيره الرسول الأكرم في الإبقاء على الأربعة، وتطليق البقية، واقتضى ذلك أن يعدل الحكم مع تطور الأحداث بالخلوص لواحدة، والاستغناء بها، إن خيف عدم العدل في الأربعة، إذ ذلك أقرب إلى الحصول عليه في الطبيعة البشرية، وإن لم يتم العدل معها، وكان الجور ساريا في الصلة الرابطة بينهما، فالأولى عدم الزواج، لكونه رابطة وثيقة، تفرض مسؤوليات جسيمة، والتزامات عظيمة. وهكذا، فإن قوله تعالى "فانحكوا" جري مجرى النهي، وإن كان قد خرج مخرج الأمر، ومعناه كما قال الطبري: "الدلالة علـى النهي عن نكاح ما خاف الناكح الـجور فـيه من عدد النساء، لا بـمعنى الأمر بـالنكاح". ومن ثم، يتضمن الأمر معنى التهديد، والتشديد، لأنه زجر عن الفعل، وهو لا يتأتى إلا مع وجود شرطه، وهو ما يتحقق به السكن في بيت الزوجية من أمانة، وعدالة، ومساواة. فهل العدل مطلوب هنا في القيم المعنوية، لكي ينصرف إلى الشعور الباطني، والإحساس الوجداني.؟ أم هو سار فيما كل ينشئ هذه العلاقة، ويربطها بعقد له حقوق في الذمة، يجب الوفاء بها في حدود الطاقة، وعلى جهة الكمال في المنزلة.؟ إن القول بأحدهما ناف للآخر، وكلاهما يحققان مفهومه، إذ لا يمكن تخصيصه بحد من حديهما، وإلا، صار العدل مقدورا عليه في مرتبة، ومستبعدا في مرتبة أخرى، لأن ربطه بالمأكل، والملبس، والمشرب، والمنكح، يبعده عما هو مرتبط بالقلب من حب، وغيرة، وعفة، وله أثر في تمام حياة الزوجين، إذ لا يمكن أن تعتبر الزوجة كائنا ناميا، ما لم نوقن بأنها كائن روحي، يحق له أن يكون مشاركا في كل ما يرتبط بالعاطفة، والشعور، والإحساس، والبيت، والذرية، والثروة، ولذا، فإن فهم الآية بمتقضى ما تمليه جهة واحدة في التأويل، يصرفه عما عداه من المعاني التي تلتئم جميعها لبناء تصور حقيقي للعلاقات الزوجية. ومن هنا، يصعب التفريق بين ما هو روحي، وما هو مادي، لما بينهما من ترابط وتواشج في كسب الحقوق، والواجبات، إذ لا يفصلهما عما يلزمان به من تكافؤ بين الطرفين، وتوافق في عمل القلب، والجوارح، إلا من خال الزواج آلة نكاح، وإنجاب، لا مصنعا للقيم النفسية، والأخلاق الاجتماعية. وحقا، إن العدل ليس كامنا في امتلاك القدرة الجنسية، ولا في إيجاد بيت خال من التراضي بين مكوناته الطبعية، بل في توزان العلاقة بين الزوجين، ومراعاتها لكل الدوافع الطيبة والخيرة فيهما، وربطها بما يستوجبه مقصدها الذي يحدد وجهة التزاوج في الإيالة الإنسانية، لأن التزام حدود جوهر العدل، ورسوم نسبية مصاديقه في محمول الجهد، والمكنة، هو الذي يحقق تمام المعاشرة بالمعروف، والحسنى، ويمتع الأبناء بنفسية منفتحة على عالمها الذاتي، ومحيطها الجماعي، ومنبسطة مع الأحداث التي تطرأ على الحياة البشرية، ويقتضيها عنصر الزمان، والمكان، ويفرضها تراكم السياقات في تجربة الحضارة الإنسانية، إذ لا غاية في الزواج أسمى مما نتقصده بالفعل عند بناء الأسرة، وهو ما نكابد الصعاب لكسب حقيقته، ونيل وظيفته، لكونه يجسد قيمة سقفنا الفكري، والمعرفي، ويبين طرق تصورنا لمقتضيات الخلافة على الأرض، وسبل إنتاجنا للمعاني التي تضمن صيرورتنا في النماء، والبقاء، ووسيلة صناعتنا لمهاد التآلف مع غيرنا، والتآزر معه من أجل بناء مجتمعات إنسانية، تحترم الآخر، وترضى به شريكا في الوجود. ومن هنا يكون العدل عاما، وسواء في ذلك الزوجات، والأبناء، أو فيما تعلق بالخصوصية من أفراد، وجماعات، وهو كل ما ينجز اسس الاستقرار، والاستمرار، ويبعد أسباب النفور، والقلق، والاضطراب، والتمرد، ويفرض علاقات متسمة بالعفوية، والتلقائية، وملتزمة بالاحترام، والتقدير.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تعدد الزوجات بين فحوى النص المخصوص، وعدوى الواقع المفحوص. -1
...
-
نفض الغبار عما بين الخيال والمثال من مدار
-
أسفار سيدي بوهوش (السفر الأول)
-
شوارد الفكر -10-
-
شوارد الفكر -9-
-
شوارد الفكر -8-
-
شوارد الفكر -7-
-
شوارد الفكر -6-
-
شوارد الفكر -5-
-
شوارد الفكر -4-
-
شوارد الفكر -3-
-
شوارد الفكر -2-
-
شوارد الفكر -1-
-
سوانح البيان (3-4)
-
سوانح البيان (1-2)
-
موارد العنف -8-
-
موارد العنف -7-
-
موارد العنف -6-
-
موارد العنف -5-
-
موارد العنف -4-
المزيد.....
-
شاهد: لحظة إطلاق سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود وتسليمه
...
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
-
مستعمرون يقطعون أشجار زيتون غرب سلفيت
-
تسليم رهينتين في خان يونس.. ونشر فيديو ليهود وموزيس
-
بالفيديو.. تسليم أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يونس
-
الصليب الأحمر يتسلم المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وجادي
...
-
القناة 13 العبرية: وصول الاسيرين يهود وموسيس الى نقطة التسلي
...
-
الكنائس المصرية تصدر بيانا بعد حديث السيسي عن تهجير الفلسطين
...
-
وصول المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وغادي موزيس إلى خان ي
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|