يحاول المثقفون في اوروبا واميركا تشخيص أزمة الحداثة منذ عدة سنوات. وتختلف التشخيصات والطروحات من مفكر الى آخر. ولكن هناك اجماعا على ان الحضارة الغربية تعاني من أزمة معينة، او حتى من مرض عضال. ويتجلى هذا المرض على هيئة انحرافات عديدة كالاغراق في الشرب وتعاطي المخدرات، او الانزلاق الى شتى انواع الشذوذ، او السقوط في احضان النزعة العدمية والنسبوية التي لم تعد تميز بين الصح والخطأ او بين الخير والشر. وهكذا ضاعت المعالم والصدى التي كانت تضبط سلوك الانسان وتهديه وتحميه من شتى انواع الانحرافات التي قد تدمره جسدا وروحا. وتبخَّرت القيم الكونية العامة التي تنطبق على جميع البشر. واصبح كل شخص يطالب بحقه في تشكيل اخلاق فردية تخصه دون غيره، ولا علاقة للمجتمع بها. فلا توجد اخلاق افضل من اخلاق أخرى، وكل شيء يتساوى مع كل شيء طبقا للنظرية النسبوية ولا اقول النسبية.
هذا الوضع، واشياء أخرى عديدة ايضا، اقلقت المفكر الفرنسي جان كلود غيبو، فألف كتابا تحت عنوان: «خيانة التنوير تحريات حول الهلع المعاصر في الغرب». فهناك أزمة معنى في الغرب، بل وعطش هائل الى المعنى: معنى الحياة والوجود. كل شيء يحصل كما لو ان الانسان الغربي بعد ان شبع من الماديات والشهوات الاستهلاكية راح يشعر بنقص ما في حياته، بجوع الى شيء آخر غير الأكل والشرب والمتعة الحسية والرفاه الاقتصادي وبالتالي فأزمته تختلف نوعيا عن أزمة الانسان العربي او المسلم، بل وتبدو مترفة او ناعمة اكثر من اللزوم.
ان الباحث المذكور يطرح المشكلة بكل جدية واخلاص، ويناقش مشاكل الغرب والشرق بنفس الروح المتفهمة والمنظور الواسع والمسؤول. بالطبع فإنه لا يخلط بين الاشياء ولا يقع في تلك النزعة التوفيقية او التلفيقية التي «تميّع» المشاكل او تطمسها بدلا من ان تطرحها بكل جدية، وجرأة، ووضوح.
فإذا كان ينقد الحداثة الغربية او المآل الذي صارت اليه اليوم، فإن ذلك لا يعني انه يدعو للعودة الى الآراء كما يرغب المحافظون او المتزمتون. وانما يريد ان يعيدها الى جادة الصواب، الى الفلسفة الكبرى التي أسستها وبلورتها قبل مائتي سنة على الاقل: اي فلسفة التنوير. فإذا كانت الحداثة تعاني من نواقص وثغرات واضحة حاليا، فإن ذلك لا يبرر بأي شكل التراجع عن المبادئ الكونية والحضارية. على العكس، ينبغي ان نتشبَّث بها اكثر فأكثر في هذا المناخ العالمي الذي انهارت فيه القيم او انحلّت ولم تعد هناك الا القيم التجارية الاستهلاكية من جهة، او القيم الاصولية المتعصبة من جهة أخرى.
في هذا الصراع الجاري حاليا، وعلى أوسع نطاق، بين العولمة الرأسمالية المتوحشة، والقوى الاصولية المتطرفة والارهابية، ينبغي ان نعود الى فلسفة التنوير التي أسست الحضارة والحداثة، ينبغي ان نحتكم الى صوت العقل والمنطق. يقول جان كلود غيبو بما معناه:
ان مشروع التنوير هو أعظم مكتسب حققته البشرية حتى الآن. فالحداثة الغربية هي التي توصلت بالانسان، ولاول مرة في التاريخ، الى مرحلة الفرد الحر والمستقل بذاته. لم تعد هناك اي قوة ظلامية، ولاهوتية، او استبدادية تستطيع ان تضغط عليه او تتحكم بحياته. لقد حررته الحداثة من الفقر والجوع اولا. فحتى الفقير او الانسان العادي في الغرب يعيش حاليا بشكل افضل من الملك او الوزير في القرن السادس عشر او السابع عشر! لقد تضاعفت قدرته الشرائية بنسبة خمس مرات خلال قرن واحد فقط. ونقصت في ذات الوقت ساعات العمل والجهد، وزادت ساعات الراحة والتسلية والترفيه عن النفس. واما المواد الاستهلاكية فقد تزايدت الى درجة ان الداخل الى أسواق الغرب او المار في شوارعه يصاب بالصدمة والذهول اذا كان آتيا من بلدان العالم الثالث للتو. ويقال بأن ابناء اوروبا الشرقية عندما زاروا اوروبا الغربية بعد سقوط الشيوعية مباشرة لم يكادوا يصدقون أعينهم. وجنّ جنونهم عندما رأوا كل هذا الغنى الفاحش الذي تتمتع به المجتمعات الرأسمالية في حين انهم هم ما كانوا يجدون شيئا لكي يأكلوه في متاجرهم وأسواقهم.
ولا يوجد اي انسان غربي يخشى على نفسه اذا ما اعطى رأيه في السياسة، او الدين، او شؤون الحياة بشكل عام. فلا احد يضغط عليك لكي تؤمن او لا تؤمن، لكي تمارس الطقوس والشعائر ولا تمارسها، لكي تذهب الى الكنيسة يوم الاحد او لا.. انت حر تفعل بحياتك ما تشاء بشرط الا تؤذي الآخرين.. المهم ان تكون مستقيما في سلوكك وحريصا على المصلحة العامة. والباقي مسألة شخصية بينك وبين ربك.. وبالتالي فعندما نتحدث عن أزمة الحضارة الغربية فإن هذا لا يعني ان هذه الحضارة على وشك الانهيار، او ان كل شيء خاطئ ومنحرف في الغرب كما قد يفهم القارئ من مقدمة هذا المقال. لا، ابدا. كل ما نريد قوله هو انه يمكن لهذه الحضارة ان تكون افضل. ثم نريد ان نقول بشكل خاص هو ان كل شيء ينتصر يتحول بالضرورة الى شيء امتثالي، معياري، وحتى قسري. بهذا المعنى فإن الحداثة تكلَّست وتحجرت وتحولت الى عكسها في بعض الاحيان. فبعد انتصار الغرب على الشرق، او الرأسمالية على الشيوعية راح الكثيرون في الغرب يتبجحون بحضارتهم الى درجة انهم نسوا نواقصها، بل ونسوا الشيء الاساسي الذي يميز فكر الحداثة عن كل ما سبقه: اي الروح النقدية او الحرية النقدية بالأحرى. يقول المؤلف بالحرف الواحد: اذا كان الغرب يعاني من أزمة حاليا فلأنه لم يعد يطبق النزعة النقدية على ذاته. وهذه النزعة هي التي تشكل جوهره، بل وهي التي أدت الى تفوقه على كل النطاقات الحضارية الأخرى: كالنطاق البوذي، او الكونفوشيوسي، او العربي ـ الاسلامي... الخ.
هذا يعني انه لولا الحرية النقدية لما كان الغرب، ولما كانت الحداثة، ولما كانت الحضارة. وهذه الحرية ليس لها حدود كما ينص على ذلك مؤسس العقلانية التنويرية في الغرب: ايمانويل كانط. فهو يقول بما معناه: «ان قرننا ـ اي القرن الثامن عشر، قرن التنوير ـ هو قرن النقد الذي ينبغي ان يخضع له كل شيء، بما فيه العقائد الدينية المسيحية الاكثر قداسة بالنسبة للشعوب الاوروبية». ولكننا نلاحظ ان الحداثة بعد مرور مائتي سنة على تأسيسها خانت كانط ولم تعد تضع نفسها على محك الشك والنقد. لقد تحولت الى يقينيات مطلقة بعد ان كانت تساؤلا مفتوحا على المطلق: مطلق التجربة والحرية. واصبح الكثير من مثقفي اوروبا واميركا يعتبرونها بمثابة الامتياز الذي يمتلكونه دون غيرهم من بقية البشر. لا ريب في انه امتياز، ولكن لا داعي لهذه النزعة الأنانية والانغلاقية التي تريد ان تحتكر الحداثة وان تتقوقع على الذات، والامتيازات، والثروات.
ثم اختُزِلت الحداثة الى ابعادها التكنولوجية، والمصرفية، والعسكرية وفُرِّغت من روحها الحضارية والانسانية. هنا تكمن خيانة الغرب للمبادئ التي شكلت حضارته وحداثته قبل ثلاثة او اربعة قرون.
فالغرب الأناني يشبه الآن شخصا غنيا جدا، ولكنه محاط بالاقرباء والجيران الفقراء. وهو يحاول ان يغلق عليه أبواب بيته او حتى يسوره بالأسلاك الشائكة او الجدران العازلة لكيلا يدخلوا عليه ويأكلوا بعض الفتات من عنده. يقول المؤلف جان كلود غيبو بما معناه: هناك هوس يسيطر على الغرب حاليا هو هوس الغزو. وهذا الغزو يتجلى على عدة اشكال. فهو اولا يتمثل بغزو المغاربة والسود او الغرب والمسلمين بشكل عام لمجتمعات اوروبا عن طريق الهجرة. ولذلك اتخذت قوانين صارمة لمنع دخول اي شخص غير مرغوب فيه الى جنة اوروبا. وهو يتمثل ايضا بغزو البضائع والسلع المصنوعة بأسعار رخيصة جدا في تايلاند او ماليزيا او دول النمور الآسيوية الى اوروبا. فهذه البضائع تستطيع ان تنافس بسهولة بضائع اوروبا ومصانعها، بل وتقضي عليها.
والآن بعد (11) سبتمبر اصبح الغرب يخشى من خطر آخر هو الارهاب الاصولي. وبالتالي فهو يخشى الا يكون قادرا على الدفاع عن حضارته الى الأبد. ولذلك فإنه يشعر وكأنه قلعة مسيَّجة ومحاطة بالأعداء او «بالبرابرة»! بالطبع فإنه يعتمد على قوته التجارية والتكنولوجية والعسكرية، وكذلك على جيوشه ومخابراته ورؤوسه النووية لكي يردع الغزاة وينقذ هذه الحداثة التي صنعها والتي تشبه المعجزة في بعض جوانبها. ولكن الى متى يستطيع ان يظل على هذا الموقف الأناني والجشع؟ وما معنى الحداثة ان لم تكن خيرا مشتركا لجميع البشر؟ وهل كان الرواد الاوائل الذين بلوروا مشروع التنوير والحداثة يفكرون على هذا النحو الضيق والبائس؟
نحن نعلم ان كوند ورسيه، وسان سيمون، واوغست كونت، وجان جاك روسو، وارنست رنيان كانوا من أشد المدافعين عن القيم الكونية. وما كانوا يميزون بين انسان وانسان بحسب اصله وفصله، او دينه ومذهبه. كانوا يحترمون الكرامة الانسانية في كل تجلياتها لدى البيض، او السود، او لدى المسلمين والمسيحيين، والبوذيين... الخ. كانوا يحلمون بمستقبل بشري زاهر يسيطر عليه العقل ويلغي كل انواع التمييز العنصري او الطائفي. وبعدهم جاء غوته لكي يقول باننا ننتمي جميعا الى الجنس البشري. وبالتالي فلا داعي لأن نحقد على بعضنا البعض لاننا لا ننتمي الى نفس الدين، او نفس العرق، او نفس اللغة. فوحدة الجنس البشري تجمعنا، وهذا يكفي.
وكان فلاسفة التنوير الاوائل يعتقدون بأنه يحق لجميع البشر، وليس فقط لسكان اوروبا واميركا الشمالية، ان يستمتعوا بالحداثة والحضارة، والتقدم والرقي. وقد كتب كوندورسيه مرة يقول عام 1780: كما ان الحقيقة هي واحدة بالنسبة للجميع، فإنه يحق للبشر كلهم ان يعيشوا في ظل نظام يحكمه العقل، والعدل، وحقوق الانسان، والحق في الملكية الفردية والحرية والصحة... الخ.
واما جان جاك روسو فقد كتب عام 1872 يقول بما معناه: عندما يتعلق الأمر بالتفكير في الطبيعة البشرية فإن الفيلسوف الحقيقي ليس هنديا، ولا تتريا، ولا سويسريا، ولا فرنسيا، وانما هو انسان.
وبالتالي فلا يوجد عرق أفضل من عرق، ولا جنس اعلى من جنس، وانما جميع الاعراق سواسية من حيث الطبيعة البشرية. وقد وصل الامر بمونتسكيو الى حد القول: انا انسان، ولست فرنسيا الا بالصدفة. فلو ولدت في ايران لكنت فارسيا، او في الجزيرة العربية لكنت عربيا. وبالتالي فحذار من النزعات العنصرية او الشوفينية او الشعوبية. فلا احد أفضل من احد الا بالعمل، والاخلاص، وخدمة البشرية.
ولكن هل لا يزال الغرب وفيا لهذا المنظور الواسع لفلاسفة التنوير؟ ام انه انحرف عنه وخانه من اجل خدمة مصالح قومية او حتى فئوية ضيقة؟ التجربة التاريخية اثبتت انه حصل انحراف في لحظة ما. ولذلك شهدنا انتشار الآيديولوجيا الفاشية او العنصرية او اليمينية المتطرفة في المانيا، وفرنسا، وايطاليا، بل واستمرت هذه النزعة مسيطرة في اسبانيا حتى نهاية عهد فرانكو، وفي البرتغال حتى نهاية عهد سالازار، وذلك قبل الدخول في العصر الديمقراطي، والانضمام الى الركب الاوروبي الحضاري.
في الواقع ان الحداثة الغربية مزدوجة الوجه، فهي اولا ذات وجه تحريري، انساني، عقلاني. ولكنها في ذات الوقت تميل الى التوسع، والهيمنة، وقمع الآخرين اذا لزم الأمر. وقد تجلى هذان الوجهان على مدار التاريخ طيلة المائتي سنة الماضية. فعندما كانت الطائرات الاميركية تقصف فيتنام كان المثقفون في شوارع باريس، وفرانكفورت، وجامعة كاليفورنيا يتظاهرون ضد هذه «الحرب القذرة» وينددون بالامبريالية الاميركية. وعندما كان الجيش الفرنسي يرتكب اعمالا بشعة في الجزائر، كان جان بول سارتر وعشرات المثقفين الفرنسيين يقفون الى جانب الشعب الجزائري ونضاله من أجل الحرية.
وعندما كان سارتر وليفي ستروس وفوكو وسواهم يكتبون مؤلفاتهم الكبرى، كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يهيمنان على العالم. في الواقع ان الغرب يتحدث باستمرار عن تأنيب الضمير الذي يشعر به تجاه الشعوب الأخرى بسبب الحروب الاستعمارية، ولكنه يتصرف سياسيا وفعليا وكأنه لا يشعر بأي تأنيب ضمير! وهكذا تبدو طبقته السياسية في جهة وطبقته الثقافية في جهة أخرى. وهنا تكمن ازدواجيته ايضا، وربما نفاقه.
مهما يكن من امر فإن الحداثة الغربية بحاجة الى مراجعة ونقد لكي تصبح أقل غطرسة وعنجهية، واكثر عدالة وانسانية. واما المثقفون العرب والمسلمون فهم مدعوون الى نقد الاصولية والتعصب الديني من أجل التوصل الى تفسير تحريري او تنويري للتراث العربي ـ الاسلامي. وبعدئذ يمكن للطرفين ان يلتقيا مع بعضهما البعض على ارضية الفلسفة التنويرية التي تمثل الكنز الأعظم والمشترك للبشرية.
* خيانة التنوير La Trahison des Lumieres* المؤلف: جان كلود غيبو* الناشر: سوي ـ باريس
------------
2003.1.5
ما فعلته الأصولية المسيحية على مدار ثلاثة قرون
على المثقفين الأوروبيين والأميركيين الذين يطالبوننا بكبح التطرف الديني أن يعرفوا أنَّ هذه المسألة لا تحل بين ليلة وضحاها
هناك اختصاص في الجامعات الغربية يدعى: علم الاديان المقارن. وربما كان ينبغي ان نضيف اليه اختصاصا جديدا هو: علم الاصوليات المقارن. فالواقع ان من يدرس تاريخ الاصولية المسيحية في الغرب وكيف اشتبكت مع الروح العلمية الحديثة بدءا من لحظة غاليليو وحتى لحظة داروين وما بعدها، ثم يلقي نظرة على ما يجري حاليا في العالم الاسلامي لا يملك الا ان يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة! فالخوف من العلم الحديث واكتشافاته مشترك لدى كلتا الاصوليتين. وبالتالي فلا يحق للغرب ان يتهمنا بالتزمت والتعصب ويحصر ذلك بالاسلام، ثم ينسى ما فعلته اصوليته هو بالذات على مدار ثلاثمائة سنة تقريبا.
هذا من جهة. واما من جهة اخرى فإنه ينبغي علينا نحن مثقفي الحداثة ان نعترف بخطورة الموضوع والا نسخر من الاصوليين كثيرا اذا ما قاموا بردود فعل عنيفة تجاه العلم الحديث. فالواقع انه يصعب على الوعي الايماني التقليدي ان يهضم في بضع سنوات ما لم تهضمه اوروبا الا بعد مائتي سنة من المعارك الداخلية والمناقشات الحامية. وهذا الكلام موجه ايضا الى الرئيس بوش والمثقفين الاميركان والاوروبيين الذين يحثوننا على فعل شيء ما لكبح جماح التطرف الديني في جهتنا. لا ريب في انه يحق لهم ان يطالبوا بذلك بعد كل ما حصل من اعمال طائشة وحماقات اجرامية، ولكن ينبغي ان يعرفوا ان هذه المسألة لا تحل بين عشية وضحاها. ولا يوجد اي مسؤول عربي، مهما كبرت هيبته، يستطيع ان يحجِّم المدّ الاصولي بقرار يتخذه من فوق. لا ريب في انه يستطيع ان يشجع التيار المعتدل والوسطي على حساب التيار المتطرف واللامسؤول، وذلك عن طريق اتخاذ بعض التدابير والقرارات المناسبة. ولكن حسم المسألة يتطلب وقتا طويلا، كما تدلنا على ذلك تجربة اوروبا ذاتها. وبالتالي فنحن نطلب من الغرب ان يعاملنا بالمثل: اي ان يعطينا الوقت الضروري والكافي لخوض معركتنا الجدلية الخصبة مع الحداثة. وبعدئذ نستطيع ان نصالح بين تراثنا العربي الاسلامي العريق من جهة، وبين قيم الحداثة العلمية والفلسفية من جهة اخرى. اننا لا نستطيع ان نحرق المراحل، ولا ان نحقق هذه المصالحة التاريخية دفعة واحدة، ففي الحالة الراهنة للامور لسنا مهيئين لها ولا قادرين عليها.
لماذا اقول هذا الكلام؟ لأني اطلعت مؤخرا على الكتاب القيم الذي اصدره البروفيسور «جورج مينوا»، عن قصة ذلك الصراع الرهيب الذي جرى بين الاصولية المسيحية والحداثة في اوروبا. والباحث المذكور هو عضو في المركز الدولي للبحوث والدراسات المتعددة الاختصاصات، كما انه احد كبار الاختصاصيين الفرنسيين في مجال دراسة العقليات الدينية. وفي هذا الكتاب المؤلف من جزءين كبيرين يستعرض الباحث موقف الكنيسة المسيحية والفاتيكان من العلم بدءا من القديس اوغسطينوس في القرن الرابع الميلادي وحتى غاليليو في القرن السابع عشر (الجزء الاول)، ثم يستعرض المؤلف في الجزء الثاني قصة هذا الصراع من غاليليو وحتى البابا الحالي يوحنا بولس الثاني الذي اصبح يقبل بالمكتشفات العلمية الحديثة بعد ان كان اسلافه من البابوات الآخرين يدينونها على مدار القرون.
انها قصة ملحمية من اعلى طراز. وهي تتكرر تحت اعيننا اليوم في الجهة الاسلامية بشكل شبه حرفي تقريبا. وبالتالي فربما كان من المفيد ان نعرف كيف جرت هذه المعركة في الجهة الاوروبية لكي نستخلص منها الدروس والعبر فيما يخصنا نحن بالذات. فمن الواضح اننا لن نستطيع الافلات من هذه المواجهة العويصة التي اصبحت تفرض نفسها علينا بشكل ملح وعاجل. وهي ما ادعوه بالمواجهة الصعبة والحاسمة للذات العربية ـ الاسلامية مع ذاتها.
يقول المؤلف منذ بداية الجزء الأول ما معناه:
طيلة الألفيّ سنة التي تفصل القديس بولس عن يوحنا بولس الثاني، كم من الصراعات والانتقادات والادانات حصلت بين الطرفين! فالكنيسة رفضت اولا العلم اليوناني والارسطو طاليسي بحجة انه وثني. ثم عادت وقبلت به طيلة العصور الوسطى عندما استطاع القديس توما الاكويني ان يتوصل الى مصالحة ناجحة بين العقيدة الدينية والفلسفة الارسطو طاليسية، واستمر الأمر على هذا النحو حتى ظهر كوبر نيكوس وغاليليو، وعندئذ اندلعت المعركة الكبرى بين الفاتيكان والعلم الحديث القائل بدوران الارض حول الشمس وليس العكس على الرغم من كل المظاهر. وعندئذ حوكم غاليليو كما هو معروف وادين من قبل علماء اللاهوت المسيحيين. ولم يسلم برأسه الا بعد ان تراجع عن موقفه. ولكن «جيوردانو برينو» الذي جاء قبله بثلاثين سنة لم يعرف كيف يتراجع فاتهم بالكفر وقطعوا لسانه وقتلوه قتلة رهيبة في كهوف الفاتيكان المظلمة ودهاليزها المعتمة. وبعد معركة غاليليو حصلت معركة اخرى بين العلماء ورجال الدين. وقد دارت حول المفهوم الذري للمادة، ثم المفهوم الميكانيكي للكون، وبعدها حصلت معركة اخرى اشد هولا بعد ان كان داروين قد اعلن نظريته الشهيرة عن التطور. ثم يردف جورج مينوا قائلا:
صحيح ان العلاقات بين الطرفين لم تكن دائما صراعية. فالكنيسة كانت تعلن باستمرار عن وجود توافق بين الايمان والعقل. بل وخرجت احيانا بعض العلماء الكبار، وساهمت في تقدم بعض الاختصاصات العلمية، ولكن يبقى صحيحا القول ان العلاقات كانت في الغالب صراعية متوترة. وقد بلغت ذروة الصراع في القرن التاسع عشر، قرن المكتشفات العلمية الكبرى، عندئذ اصبحت الكنيسة المسيحية كالقلعة المسيحية التي يحيط بها العلم الحديث من كل جانب. وظلت متشبثة بالمواقف القديمة المضادة لأبسط حقائق العلم والمنطق. وقد دفعت الثمن غاليا، حيث اتهمت بالرجعية، ومحاربة التقدم، وانصرف عنها معظم الناس في اوروبا، حتى اصبحت الكنائس خالية من المؤمنين تقريبا، وتحولت الى ما يشبه المتاحف.. ولكنها استدركت الامر بعد عام (1960)، عندما قبلت بالانفتاح على العلم الحديث والروح التنويرية. وهكذا قبلت بما كانت ترفضه طيلة قرون عديدة. وعندئذ انفصل عنها الجناح المتزمت او الاصولي واتهمها بالخروج على المبادئ المقدسة والابدية للعقيدة المسيحية. ولكنه جناح ضعيف من حيث العدد ولا يشكل خطرا على المسيرة العامة للأغلبية. وقد اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني مؤخرا اكثر من مرة عن المواقف المتحجرة التي وقفتها الكنيسة من العلم الحديث طيلة القرن السابع عشر، فالثامن عشر، فالتاسع عشر، والغى الفتوى التي تكفر غاليليو، ولكن بعد موت هذا الاخير بأكثر من ثلاثمائة سنة! ثم دعا الى الحوار والتعاون بين رجال الدين من جهة، والعلماء والمثقفين العلمانيين من جهة اخرى.
وهذا موقف منفتح ورائع، ويدل على مدى النضج الفكري الذي وصلت اليه المسيحية الاوروبية مؤخرا، ولكن كم من الدماء جرت، وكم من المعارك حصلت قبل ان يتوصلوا الى هذا الموقف المتوازن ويعترفوا بروح العصور الحديثة وانجازاتها.
في عام (1985)، صرح مطران باريس جان ماري لوستيجر قائلا: «حاليا لم تعد هناك اي مشكلة بين العلم والدين. فقد اصبحا يعترفان ببعضهما البعض بعد طول صراع وعراك». ولكنه في ذات الكتاب يحاول ان يخفف من حجم الاخطاء التي ارتكبتها الاصولية المسيحية عندما تصدت للعلم الحديث وعرقلته، بل ويصل به الامر الى حد القول بأن الاوساط الكنسية هي اصل نشوء العلم التجريبي! وهذا كلام غير صحيح ويصعب اثباته تاريخيا. ثم يقول ايضا: لا. ان الكنيسة لم تعرقل مسيرة العلم ابدا.. انظروا الى باسكال، لقد كان مؤمنا كبيرا وعالما كبيرا في ذات الوقت.
ولكن باسكال نفسه كان يقول: «البابا يكره العلماء ويخشاهم لأنهم لا يطيعونه طاعة عمياء!..» وبالتالي فيصعب الدفاع عن كلام لوستيجر الذي يبدو احيانا اكثر تعصبا من البابا الحالي واقل انفتاحا على الحقيقة الموضوعية. والواقع انه يصعب على لوستيجر ان يعترف بالاخطاء التي ارتكبتها الكنيسة فيما مضى. وهذا موقف مفهوم. فالنقد الذاتي أمر شاق وصعب على النفس، وليس كل الناس بقادرين عليه. ولذلك نشكر البابا الحالي على موقفه الجريء.
هناك نقطة اخرى مهمة جدا وهي ان المسيحيين في اوروبا لم يستطيعوا التوفيق بين العلم والدين الا بعد ان تخلوا عن القراءة الحرفية لنصوصهم المقدسة. فالتوراة تقول شيئا عن اصل العالم ونشأته وتكوينه، والعلم الطبيعي والفيزيائي يقول شيئا آخر، وبما ان المسيحيين في العصور السابقة كانوا عاجزين عن تأويل النص الديني بحرية او قراءته قراءة مجازية، فإنهم اصطدموا بالعلم الحديث ورفضوه وحاربوه. عندئذ دخل الوعي المسيحي في تلك الازمة الشهيرة والرهيبة التي تدعى «بأزمة الوعي الاوروبي». وكنت قد كتبت عنها مقالات عديدة هنا، على صفحات «الشرق الاوسط» بالذات. فالمسيحي الاوروبي في القرن السابع عشر او الثامن عشر او التاسع عشر او حتى بداية العشرين كان متمزقا بين موقفين: اما ان يصدق ما يقوله له النص الديني، واما ان يصدق ما يقوله العلم الحديث. وبما انه لا يستطيع ان يتخلى عن نصه المقدس، او قل عن التفسير الحرفي للنص المقدس، فإنه لا يستطيع ان يقبل بما يقوله له العلم الطبيعي عن نشأة الكون، وطبيعة المادة، وكيفية تشكل الرياح، والامطار، والثلوج، الخ. ولكنه في ذات الوقت كان يشعر بأن التفسيرات العلمية اقرب الى العقل والمنطق لأنها قائمة على التجريب والملاحظة العيانية. ومع ذلك فكان يخشى انه اذا ما تبناها فسوف يخسر دينه وايمانه وآخرته! وهذا موقف حرج الى اقصى حد. وبالتالي فعلى هذا المستوى من العمق ينبغي ان نموضع الامور لكي نفهم سبب تلك الازمة الرهيبة التي وقع فيها الوعي الاوروبي بدءا من لحظة تشكل العلم الحديث على يد كوبرنيكوس، وغاليليو، وكيبلر، وديكارت، الخ. انها أزمة لم يقم منها إلا بعد ثلاثمائة سنة من الصراع والعراك، والتقدم، والتراجع، والمخاضات الأليمة والتفاعلات العديدة.
وهي نفس الأزمة التي يشهدها الوعي الاسلامي حاليا. فالمواقف الاصولية المتشنجة من الحداثة وعلومها لا تختلف في شيء عن مواقف الاصوليين المسيحيين في عصر ديكارت، او نيوتن، او داروين. الفرق الوحيد بيننا وبينهم هو انهم شهدوا الازمة قبلنا بمائتي او ثلاثمائة سنة، وهذه هي مسافة التفاوت التاريخي التي تفصل بين المجتمعات الاسلامية والمجتمعات الاوروبية. هذا لا يعني بالطبع اننا سوف ننتظر ثلاثمائة سنة لكي نحل مشكلتنا مع العقلية الاصولية! ولكن الامور سوف تستغرق بعض الوقت بدون ادنى شك. ولا يمكن ان «نبلع» في عشر سنوات او عشرين سنة ما كان قد استغرق منهم مائتي سنة لكي يهضموه ويستوعبوه.
لذلك قلت ينبغي على الرئيس بوش والقيادة السياسية والثقافية في الغرب ان تفهم الوضع الصعب الذي تعيشه الجماهير الاسلامية حاليا. فهي ليست ضد الحضارة او الحداثة لسبب عرقي، او جوهري، او وراثي.. على العكس ان فيها الكثيرين ممن يطمحون الى العلم والحقيقة والنور. هناك مئات الجامعات في العالم العربي والاسلامي. وهناك ملايين الطلاب والطالبات الذين ينهلون العلم على الرغم من كل الظروف الصعبة. وهؤلاء ليسوا جميعهم اصوليين متطرفين او ارهابيين!! على العكس تماما. ولكن يبقى صحيحا القول بأن المشاكل المعرفية الاساسية لم تحل بعد بسبب الوضع المأساوي الذي تعيشه معظم المجتمعات الاسلامية والعربية، ثم بسبب انهيار نظام التعليم من ادنى مستوياته الى اعلاها.
هناك فصول عديدة في هذا الكتاب القيم الذي يتجاوز الالف صفحة بجزءيه. ومجرد تعداد بعضها يعطينا فكرة عن خطورة الموضوعات المطروقة واهميتها. نذكر من بينها: «غاليليو، والكنيسة، والعلم الحديث. القطيعة الكبرى التي حصلت بين الطرفين في القرن السابع عشر»، ثم: «المنعطف الكبير الذي حصل بين عامي 1680 ـ 1720، وكيف رفضت الاصولية المسيحية تطبيق النقد اللغوي والتاريخي على التوراة والانجيل». فالكنيسة لم تحارب فقط العلوم الفيزيائية والطبيعية والفلكية وانما حاربت ايضا العلوم التاريخية والانسانية ورفضت مناهجها ونتائجها. بل واتهمتها بالزندقة والخروج على الدين، ثم نذكر بشكل خاص الفصول الاخيرة التالية: «الكنيسة تشن الحرب على العلم الحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين وتتهمه بأنه مزيف او خاطئ»، ثم: «الكنيسة تنشئ علما مضادا باسم العلم المسيحي الكاثوليكي. ولكن محاولتها فشلت»، ثم: «الصراع العنيف بين الحداثة والتزمت الاصولي» (نهاية القرن التاسع عشر)، ثم: «زمن الحوار والانفتاح»، ثم: «زمن المناقشات الكبرى بين اللاهوتيين والعلماء المحدثين»، الخ.
ثم يختتم جورج مينوا كلامه بالقول:
في الواقع انه حصلت قطيعتان اساسيتان في القرن السابع عشر لا قطيعة واحدة. فحوالي عام (1720)، اعلن غاليليو الاستقلالية الذاتية للعلم الفيزيائي والفلكي بالقياس الى تصورات الكنيسة وكتبها المقدسة. وحوالي عام (1670) اعلن ريشار سيمون ان هناك قراءة اخرى ممكنة للتوراة والانجيل غير القراءة التقليدية او الايمانية التسليمية الموروثة منذ مئات السنين. وهكذا أسس ما ندعوه بالقراءة التاريخية واللغوية للنصوص المقدسة. وهي قراءة سوف تربط النص بتاريخيته، او تكشف عن تاريخية النص المقدس. ولم يكن عمله هذا بأقل ثورية او خطورة من عمل غاليليو. ولذلك ادانته الكنيسة ايضا وعزلته واضطهدته. فالاصولية المسيحية كانت تعتقد ان نصوصها وعقائدها وطقوسها ازلية سرمدية لا تتغير ولا تتبدل. انها فوق التاريخ وفوق الزمن. انها تعلو على التاريخ الارضي ولا تحتفظ به وانما تكتفي بتوجيهه من فوق. وبالتالي فان ريشار سيمون ارتكب «جريمة» حقيقية عندما كشف عن تاريخية التوراة والانجيل، او ارتباطها بالعصور القديمة التي كتب فيها. لقد صعق الوعي الايماني، او التسليمي الغيبي، عندما ألف كتابه الشهير: الدراسة التاريخية النقدية للعهد القديم (1687)، (اي للتوراة)، ثم اردفه بعد فترة بكتابه التالي: الدراسة التاريخية النقدية للعهد الجديد (1689). عندئذ دشن ريشار سيمون التفسير العلمي للنصوص المقدسة واحدث ثورة كوبرنيكية في هذا المجال الحساس جدا.
وقد شكل ذلك بداية الفهم العقلاني للدين المسيحي في اوروبا، وبالتالي بداية العصور الحديثة. فعصر التنوير الذي جاء بعده مباشرة لم يفعل الا ان عمَّق هذا الخط واستخلص منه كل النتائج الممكنة. وهذا الشيء ابتدأ بالكاد يحصل في العالم الاسلامي (انظر محاولات اركون او نصر حامد ابو زيد، وسواهما..)، وهو يثير نفس ردود الفعل الهائجة التي اثارتها محاولة ريشار سيمون في الاوساط المسيحية الكاثوليكية. ولذلك قلت بأن حجم التفاوت التاريخي بين اوروبا والعالم الاسلامي او العربي يصل الى ثلاثة قرون، على الاقل فيما يخص هذه النقطة بالذات.
ثم يستغربون لماذا يحصل الصدام المروع بيننا وبينهم، ولماذا يظهر بن لادن وجماعته! فالامور تبدو منطقية تماما لمن يقرأ التاريخ العميق للفكر، ولمن يعرف عمق الهوّة السحيقة التي تفصل بين تقدمهم وتأخرنا.. ولكن كما يقول المثل: اذا عرف السبب، بطل العجب.. هذا لا يعني بالطبع ان الله خلقهم من طينة اخرى غير طينة البشر! وانما هناك ظروف تاريخية معينة ادت الى تقدمهم وتأخرنا. وعندما تتغير ظروفنا سوف نتقدم نحن ايضا ونشكل حضارة عربية اسلامية جديدة لا تقل عظمة عن حضارتنا السابقة.
* عنوان الكتاب: الكنيسة والعلم. قصة سوء تفاهم L"E"glise at la Science. Histoire d"un umalentandu.* اسم المؤلف: جورج مينوا Georges Minois * دار النشر: فايار، باريس Fayard - PARIS
--------
2003.1.12
المتطرفون مصابون بانفصام الشخصية.. عقلهم «حديث» وروحهم تنتمي للعصور الغابرة
* كل اصولي يعتبر ان دينه هو وحده الصحيح، وبقية الاديان الاخرى على ضلال ولا يخطر على باله لحظة واحدة ان الاصوليين الآخرين يفكرون مثله بالضبط ولكن في الاتجاه المعاكس: فالاصولي الكاثوليكي مثلاً يعتقد بأن عقيدته هي وحدها الصحيحة المقبولة عند الله. وقل الأمر ذاته عن الاصولي اليهودي، أو الهندوسي، أو البوذي، أو الكونفوشيوسي.. الخ.
* يعتبر بنيامين باربير احد المثقفين الاميركان النافذين حالياً. وهو لا يقل أهمية من حيث الصيت والشهرة عن فوكوياما، أو صموئيل هانتنغتون، أو حتى شومسكي. ولكن ربما كان اسمه لم يشع بعد في العالم العربي كما حصل لهؤلاء. وهذا شيء مؤسف لأنه لا يقل عنهم أهمية. وهو يقف في الجهة المضادة لصموئيل هانتنغتون من حيث تركيزه على نقد الامبريالية التجارية والتوسعية لاميركا، وليس فقط الاكتفاء بنقد الاصولية الاسلامية. انه لا يعتبر ان الخطأ موجود في طرف واحد وانما في طرفين. فالحضارة الغربية ليست خالية من العيوب كما قد يزعم هانتنغتون أو حتى فوكوياما. والفوضى العالمية الحاصلة حالياً ليست ناتجة فقط عن انفجار العصبيات الدينية والعرقية والطائفية في انحاء شتى من المعمورة. وانما هي ناتجة ايضا عن توسع العولمة الرأسمالية الجشعة التي لا تعرف أي قيمة اخرى غير قيمة الربح، والاستهلاك المادي المسعور، وازدهار الاسواق التجارية.
بقي ان نقول بأن البروفيسور «باربير» هو استاذ العلوم السياسية في جامعة نيويورك وأحد المثقفين المقربين من الرئيس السابق بيل كلينتون. وبالتالي فهو ينتمي الى الجناح المستنير من المثقفين الاميركان لا الى الجناح اليميني المحافظ الذي ينتمي اليه هانتنغتون مثلاً، او الاتجاه الليبرالي اليميني الذي ينتمي اليه فوكوياما. وللنكتة فان باربير كان يلقي درسه أمام الطلاب في جامعة نيويورك عندما نطحت الطائرتان برجي مركز التجارة العالمي وقد شاهد المنظر من النافذة بالصورة الحية. وأكد هذا الحدث تحليلاته السابقة عن وجود صراع كوني بين قوى الجهاد، وبين الثقافة الرأسمالية الكونية الغربية. ويقصد بالجهاد هنا مجمل القوى المضادة للحداثة وفي طليعتها الاصولية الاسلامية بالطبع، ولكن ليس فقط هي. ففي رأيه ان الاصولية اليهودية، او المسيحية، او الهندوسية، أو غيرها تكره الحداثة وفلسفة التنوير، مثلها في ذلك مثل الاصولية الاسلامية، ولكن ربما بدرجات متفاوتة، أو بطرائق مختلفة.
ولكن اذا كان هناك صراع بين الاصولية الجهادية والعولمة الرأسمالية الكاسحة على الطريقة الأميركية، فهناك تداخل ايضا. وهنا يكمن وجه التناقض والغرابة حقاً. فنحن كنا نتوقع ان الاصولية المتزمتة تقع في جهة، والعولمة الرأسمالية تقع في الجهة الاخرى. ولكن الواقع غير ذلك. فالذين هاجموا نيويورك وواشنطن مثلاً برهنوا على مهارتهم العالية في السيطرة على التكنولوجيا. فقد عرفوا كيف يستخدمون الانترنيت، ووسائل المعلوماتية الحديثة، والطائرات السريعة، وتقنيات الملاحة الجوية، والهاتف النقال.. الخ. انهم ليسوا اطفالاً أغبياء او يائسين، وانما هم اشخاص يتمتعون بكفاءات عالية وذكاء حقيقي. وبالتالي فهم يعرفون كيف يستخدمون ادوات النظام الرأسمالي الغربي الذي يريدون تدميره او الاطاحة به.
ثم يخلص «باربير» الى النتيجة الاساسية التالية: وهي ان «عقل» الاصوليين ينتمي الى العالم الحديث، ولكن روحهم تنتمي الى العصور الغابرة والقرون الوسطى. وهنا يكمن وجه الغرابة والتناقض الذي يصعب علينا فهمه او استيعابه. ولكن يمكن تفسيره عن طريق القول بأنهم يحبون التكنولوجيا الغربية ولكنهم يكرهون الفلسفة العلمية او التنويرية التي ادت اليها، وبالتالي فإنهم يحللون استخدامها فقط من اجل نشر ايديولوجيتها اللاهوتية او الظلامية التي يعتبرون ان كل الوسائل مباحة من اجل نشرها في العالم بأسره.
واحيانا نستغرب ولع الاصوليين المتزمتين بكل وسائل المعلوماتية والتكنولوجية الحديثة، وكرههم في ذات الوقت لكل الافكار الحديثة الآتية من جهة الغرب. ونعتقد عندئذ ان الأمر يتعلق بانفصام في الشخصية او بالشيزوفرينيا. ولهذا السبب يقول باربير بان «عقلهم» في جهة، وروحهم في جهة اخرى.
فقد كان من المنطقي ان يرفضوا الحداثة كلها جملة وتفصيلا باعتبارها ناتجة عن الكفر والكفار. ولكنهم قبلوا بوعائها الخارجي ـ اي الآلات التكنولوجية ـ ورفضوا روحها: اي الفكر الفلسفي والعلمي الذي يرون فيه خطراً جسيماً على عقيدتهم اللاهوتية. ولذلك فإنهم مستعدون لاستخدام كل أدوات الحداثة التكنولوجية من اجل ضربه والقضاء عليه.
ولكن للانصاف والعدل ينبغي القول بأن العولمة الرأسمالية المفرغة من اي حس انساني او اخلاقي مسؤولة ايضا عن هذا الوضع. ولذلك هاجم المؤلف منذ العنوان كلا الطرفين دون ان يضعهما على مستوى واحد. فأمركة العالم يرافقها الفقر، واللامساواة، والشعور بأنك ضحية السوق العالمية. ثم تشعر بأن قدرك محسوم سلفاً من قبل قوى لامرئية تتحكم بمصير العالم من خلف الستار، او من خلال الضغط على الأزرار.. وبالتالي فإذا لم نصحح مسار العولمة فإن المعركة ضد الحركات الاصولية المتطرفة لن تنجح. وهذا ما لم يفهمه بوش حتى الآن، على عكس كلينتون.
الاصولي الجهادي يكره الآخر لأنه لا ينتمي الى عقيدته او دينه او مذهبه. انه يحلل الغاءه ـ او حتى قتله ـ لمجرد انه لا ينتمي الى الحقيقة المقدسة التي يعتنقها هو. انه في رأيه شخص غير موجود لأنه «ليس في صدره دين» كما تقول العامة. انه نكرة، او حشرة، أو لا شيء على الاطلاق. ولذلك فإن قتله فرداً أو جماعة لا يشكل اي مشكلة. على العكس فإنه حلال ومرض عند الله.. وبالطبع فإن كل اصولي يعتبر ان دينه هو وحده الصحيح، وبقية الاديان الاخرى على ضلال ولا يخطر على باله لحظة واحدة ان الاصوليين الآخرين يفكرون مثله بالضبط ولكن في الاتجاه المعاكس: فالاصولي الكاثوليكي مثلاً يعتقد بأن عقيدته هي وحدها الصحيحة المقبولة عند الله. وقل الأمر ذاته عن الاصولي اليهودي، أو الهندوسي، أو البوذي، أو الكونفوشيوسي.. الخ.
واما الرأسمالي العالمي فلا ينظر الى الانسان الا بصفته آلة استهلاكية او رقماً بين ارقام، وكل همه يكمن في توسيع تجارته او شركاته في شتى انحاء العالم اذا امكن. واما ما ينتج عن كل ذلك من دمار وخراب وجوع فلا يعنيه. وفي كلتا الحالتين هناك الغاء للانسان، وان كان الالغاء الثاني يختلف عن الالغاء الأول من حيث انه لا يحلل القتل، نظرياً على الأقل، وذلك لأنه ليس ايديولوجيا لاهوتيا، وانما هو مادي محض.
في الواقع ان الفلاسفة الذين نقدوا الحداثة الغربية مؤخراً كانوا قد رأوا الامور بوضوح عندما قالوا ما يلي: لا ريب في ان العقل والعلم والتكنولوجيا، كلها اشياء تولد التقدم حقاً، ولكنها تولد ايضا الاستغلال والامبريالية. فالفضائل، تولد الرذائل المرتبطة بها بشكل لا ينفصم. هذه حقيقة واقعة. وهذا يعني ان الحداثة هي عبارة عن ظاهرة جدلية او صيرورة. ولكن الصفة الاساسية للأصولية الدينية المتزمتة هي انها ليست جدلية او ديالكتيكية. فهي لا ترى الاشياء الا من منظور الابيض او الاسود. انها لا ترى في التنوير مثلا الا عبارة عن فلسفة علمانية كافرة. وبالتالي فالحضارة الغربية كلها مدانة بالنسبة لهم، ما عدا مخترعاتها التكنولوجية بالطبع.
ثم يضرب المؤلف عدة امثلة على التداخل بين العقلية الاصولية والعولمة الاميركية التي تكتسح العالم منذ عدة سنوات بآلاتها المعلوماتية، ومطاعمها، وصورها، ومسلسلاتها، وموسيقاها الشعبية، ... الخ. فالملأ الايراني الذي يهيج اتباعه على الجهاد من جهة هو نفسه الشخص الذي يشاهد مسلسل «ديناستي» الاميركي على شاشة التلفزيون من جهة اخرى.. والكنيسة الارثوذكسية الروسية التي تحاول بعث الايمان القديم والاصولي بعد سقوط الشيوعية، هي نفسها التي تتعاون مع الرأسماليين الاميركان من اجل استغلال المياه المعدنية وتعليبها في زجاجات مباركة تحمل اسم «مياه الينابيع المقدسة»! وكل ذلك لكي يقبل عليها الشعب البسيط «المؤمن» ويشتريها دون غيرها.. وهكذا تختلط الرأسمالية بالاصولية، والحداثة بالرجعية، والمادية بالروحانية، اذا جاز التعبير. والمتعصبون الصربيون كانوا يلبسون ثياب التنس «اديداس» ويستمعون الى اغاني «مادونا» من جهة، ثم يقصفون المدنيين البوسنيين في سراييفو من جهة اخرى. واما اليهود المتعصبون والنازيون الجدد فإنهم يشتركون في صفة واحدة: وهي انهم جميعاً يستخدمون موسيقى «الروك» الاميركية لنقل رسالتهم «المقدسة» الى الاجيال القادمة! واما الاصوليون الاسلاميون فقد برعوا في استخدام مكبرات الصوت او شرائط التسجيل او حتى الانترنيت واحدث وسائل المعلوماتية من اجل نقل افكارهم العظيمة وخطبهم النارية الملتهبة الى الجماهير الشعبية... هذا الخليط الغريب العجيب بين احدث انواع الوسائل التكنولوجية واعتق انواع الافكار واكثرها تخلفاً هو احدى سمات عصرنا الراهن بدون شك.
فقد وصلنا على ما يبدو الى عصر يشبه العجب العجاب، ولا مستزاد بعده لمستزيد.. وبالتالي فكلمة «الجهاد» المستخدمة في عنوان الكتاب لا تعني فقط الجهاد الاسلامي وانما تعني ايضا كل الاصوليات الدينية الرافضة للحداثة. ولكن متى؟ ربما بعد عشرين او ثلاثين سنة.. ولكن ليس قبل ذلك. ونرجو ان نكون مخطئين.
ويصل الأمر بالمؤلف الى حد التحدث عن «الجهاد الاميركي» ومقارنته بالجهاد الاسلامي. فاكبر تفجير ارهابي في تاريخ اميركا ـ ما عدا (11 سبتمبر) هو ذلك الذي قام به اليميني الاميركي المتطرف في «اوكلاهوما سيتي» وذهب ضحيته مئات الاشخاص. وكانوا يرفعون نفس شعارات المتطرفين الاسلاميين. وبالتالي فلماذا لا تتحدث وسائل الاعلام الغربية الا عن «الارهاب الاسلامي» والتطرف الاسلامي؟ ولماذا تخلط بين الاقلية المتطرفة العنيفة، وبين اغلبية المسلمين المسالمة والمعتدلة؟ ومن الذي يحرض على المسلمين بهذا الشكل؟ ولمصلحة من؟.
يقول «بنيامين باربير» بما معناه:
حوالي عام (1920) كان الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الاخوان المسلمين، يندد بموجة الالحاد والفسق والفجور التي تتدفق على مصر. وقال بأنها ابتدأت تقوض أسس الاخلاق والدين بحجة الحرية الفكرية والفردية. وعاب على الغربيين تصديرهم لنسائهم شبه عاريات الى مصر! كما وعاب عليهم تصديرهم للمشروبات الكحولية، والافلام السينمائية، والرقص العاهر، والصحف، والروايات، والعابهم السخيفة ورذائلهم. وهكذا استبق الشيخ البنا على عصر العولمة الاميركية ورآه بأم عينيه قبل ان يصبح حقيقة واقعة ويعم العالم. ورأى في غزو الثقافة الاوروبية لمصر ـ والعالم الاسلامي كله ـ خطراً أكبر من الحملات العسكرية والاستعمارية. وعرف بحدسه الثاقب ان ما عجز عنه الاستعمار المباشر سوف يحققه التغلغل الثقافي. فالجيوش قد تستطيع ايقافها عند الحدود، ولكن الافكار لا حدود لها.
ولكن كلامه لا يختلف في شيء عن كلام رجال الدين المسيحيين في اوروبا أو اميركا. ولا يختلف عن كلام الباباوات في الفاتيكان. نضرب على ذلك مثلاً، احد قادة الحركة البروتستانتية المتشددة في انجلترا، ويدعى «براين». فقد ادان المسرح بعنف لأنه يشجع على الرذائل والفجور، وقال بأنه مليء بالمشاهد الالحادية والعواطف المائعة التي تفسد الاخلاق. واعتبر ان الحياة الحديثة مليئة بالمظاهر المضادة للحياة المسيحية الفاضلة. وضرب على ذلك مثلاً: رقص الرجل مع المرأة. واستعاذ بالله منه وقال بأنه رجس من عمل الشيطان. واضاف اليه العاب الحظ، والصور الخلاعية، اي صور النساء الحاسرات المتبرجات، والموسيقى الشهوانية، وهدايا رأس السنة، ومآدب عيد الميلاد المليئة بالأكل والشرب، والضحك أو بالاحرى الاغراق في الضحك والسرور. وكلها اشياء تبعد عن الله او تنسينا ذكره. ولا يختلف كلامه كثيراً عن كلام زعماء الاصولية الاميركية من امثال «باث روبيرتسون»، أو «باث بوكانان» المرشح السابق للرئاسة الاميركية والذي يشبه جان ماري لوبن في فرنسا. وجميعهم يدعون للعودة الى القيم العائلية التي كانت سائدة في اميركا في القرن التاسع عشر، والى الذهاب الى الكنيسة لأداء القداس، والى اعادة الصلاة الى المدارس الاميركية بعد ان حذفها النظام العلماني، وباختصار فإنهم يدعون للعودة الى العصر الذهبي لاميركا المسيحية البروتستانتية ويختتم المؤلف كلامه بالقول: نعم ان للحداثة اعداء ألداء حتى في اميركا، القلب النابض للرأسمالية، والعولمة، والحداثة! انهم يكرهون الثقافة الدنيوية العامة التي تهيمن على المجتمع الاميركي والتي يعيشون داخلها شاؤوا ام أبوا. وهي الثقافة التي يبثها الراديو والتلفزيون، والتي تهيمن على الفضاء العلماني كله، ثقافة السياسيين الليبراليين من امثال كلينتون وسواه. وهؤلاء الليبراليون هم الذين فرضوا تدريس نظرية التطور لداروين في المدارس الاميركية ومنعوا اداء الصلوات المسيحية بحجة الحياد والعلمانية. ولذلك فإن كلينتون مكروه جداً من قبل اليمين المسيحي وذلك على عكس بوش المحبوب جداً.. واليوم ينجزها التحالف المسيحي. ولذلك يمكن اعتباره نسخة معتدلة عن المتطرفين الاسلاميين لأنه لا يلجأ الى الضرب، على الأقل حتى الآن. والسبب هو انه يشكل اقلية داخل مجتمع تسيطر عليه افكار التنوير والحداثة والتسامح الديني عموماً. وذلك على عكس افغانستان او الباكستان او ايران او مختلف المجتمعات الاسلامية والعربية حيث نجد ان النسبة معكوسة تماماً. وحيث لا يستطيع احد ان يتنفس خوفاً من ان يتهم بالخروج على الدين والمعتقدات المقدسة.. ولكن ما الحل للتخلص من مخاطر الاصولية الدينية من جهة، والعولمة الرأسمالية الفاحشة الثراء والظلم من جهة اخرى؟
على عكس ما نتوهم فإن الحل لا يكمن في الانسحاب من العولمة وانما في جعلها اكثر ديمقراطية، وعدالة، وانسانية. فالرأسمالية ليست كلها سلبيات، وانما فيها ايجابيات لا تنكر، والا لما استطاعت الانتصار على كل الانظمة الاخرى. فقط ينبغي تصحيحها أو التخفيف من تجاوزاتها وشططها، واما بالنسبة للدين فإنه ينبغي التفريق بين جوهره الروحاني والاخلاقي الذي يتعالى على كل شيء، وبين الايديولوجيات المتطرفة التي تدعي الانتساب اليه وهي في الواقع تخون جوهر رسالته وتشوهها.
* الجهاد ضد أمركة العالم: العولمة الرأسمالية والتزمت الاصولي ضد الديمقراطية. Djihad Versus Mc world: Mondialisation et Int"egrisme Contre la de"mocratie * المؤلف، بنيامين باربير Benjamin Barber * دار النشر: هاشيت. باريس Hachette - Paris
------------
03.1.19
وزير وفيلسوف فرنسي يبحث في سرّ الحياة الناجحة
«ما الحياة الناجحة؟» للوك فيري هو ضربة معلم ومن الضروري أن يترجم الكتاب إلى العربية فورا
لا ريب في ان لوك فيري قد حقق نجاحات صارخة في السنوات الاخيرة. فكتبه منذ عشر سنوات تباع بمئات الآلاف وتترجم الى عشرات الملفات العالمية. وفي ذات الوقت اصبح نجما ثقافيا على شاشات التلفزيون او في الندوات والمؤتمرات العالمية. ثم توج كل ذلك أخيرا بأن اصبح وزيرا للتربية والتعليم والبحث العلمي في حكومة جاك شيراك الحالية! فما الذي ينقصه بعد كل ذلك؟ ان يؤلف كتابا بعنوان: ما معنى الحياة الناجحة؟
ولكن العنوان قد يضلل القارئ في الواقع. فالفيلسوف ـ الوزير لا يقصد بذلك النجاح المادي في الحياة، او تجميع السيارات من مختلف الماركات في فناء البيت، او امتلاك رقم حساب خيالي في البنوك، او التوصل الى مرتبة مدير عام في شركة كبرى، الخ. وانما يقصد شيئا آخر. فكل منا يعرف ان حياته سوف تنتهي يوما ما، وقبيل ان تنتهي ربما راح يتساءل: هل عشت حياة ناجحة، موفقة؟ او بالاحرى: هل عشت حياة طيبة؟ ولكن حتى قبل ان تنتهي، وربما في بداياتها، راح يتساءل: كيف سأصنع حياتي ومستقبلي؟ كيف سأنجح في الحياة وأبرر وجودي؟ وعلى هذا السؤال أجابت كل الاديان والفلسفات منذ اقدم العصور. فكلها كانت تقدم لنا الوصفات الجاهزة ـ او النصائح ـ التي تمكننا من السير على هدي من أمرنا، من ان نحيا حياة طيبة مستقيمة، سعيدة، وهذه «الأجوبة» هي التي يستعرضها لوك فيري في كتاب ضخم وكثيف يحاذي الخمسمائة صفحة. انه كتاب مهم على اكثر من صعيد، ويشكل «ضربة معلم» كما يقال، انه كتاب «ناجح» بدون ادنى شك.
ولا اقصد بذلك ان لوك فيري استطاع التوصل الى سرّ الحياة، هذا السرّ الذي استعصى على كبار فلاسفة الماضي. نقول ذلك على الرغم من ان الرجل يتنطح لمهمة ضخمة لم يتجرأ عليها أحد أخيرا بحسب علمي، وانما اريد القول بأن المؤلف عرف كيف يستعرض «عضلاته الفلسفية» على مدار الخمسمائة صفحة بكل أستذة واقتدار. انها لمتعة حقيقية ان يقرأ المرء هذا الكتاب من أوله الى آخره. فعشاق الفلسفة والفكر العميق لن يخيب أملهم بعد كل هذه الرحلة الطويلة التي تمتد منذ ارسطو واليونان وحتى يومنا هذا، مرورا بفلاسفة القرون الوسطى كابن رشد وتوما الاكويني، ثم فلاسفة الحداثة مع وقفة طويلة عند «اللحظة النيتشوية». لا استطيع بالطبع ان اتوقف عند جميع محطات هذا الكتاب الكبير الذي ينبغي ان يترجم فورا الى اللغة العربية، وانما سأكتفي بالاشارة الى بعض محاوره الفكرية، او بالاحرى الى الفكرة الاساسية التي تخترقه من أوله الى آخره، وتشكل عموده الفقري. سوف اقول باختصار شديد بأن لوك فيري يريد ان يؤسس دينا جديدا للغرب! وهذا طموح مغرور جدا، كما قد يقول البعض. لنحاول توضيح الامور بشكل آخر. هذا الفيلسوف الشاب الذي لا يتجاوز عمره الخمسين الا قليلا ـ اي من جيلنا ـ يريد ان ينقذ الغرب من ازمته الحضارية، او بالاحرى من تخمته الحضارية، فهو يعرف ان الغرب المعاصر يعاني من أزمة روحية او معنوية. انه يشعر بفراغ كبير في الداخل، ويجد امامه حلين: اما ان يغرق في الفلسفة المادية الاستهلاكية حتى النخاع كما تفعل الاغلبية ولا يعود يطرح اي سؤال على معنى الوجود. فالوجود لا معنى له الا في اشباع الحواس والشهوات المادية من اكل وشرب وجنس وتسلية والعاب.. وهذا هو المشروع الحضاري الذي حققته المجتمعات الاوروبية المتقدمة والغنية التي بلغت ذروة الرأسمالية.
واما ان يعود الى دينه الاصلي الذي خرج منه بعد انتصار التنوير والحداثة والفلسفة المادية، ونقصد به بالطبع المسيحية. ولكن قد يبحث عن العزاء او الاشباع المعنوي لدى أديان الشرق الاقصى وبالاخص البوذية. ولكن لوك فيري يقترح على الفرنسيين ـ وعموم البشر في نهاية المطاف ـ حلا ثالثا. ولهذا السبب قلت بأنه يطمح الى تأسيس دين جديد للبشرية، ولكن قد لا يعجبه هذا المصطلح، فلنقل اذن بأنه يؤسس فلسفة جديدة تتجاوز الفلسفة المادية المحضة، والاديان التقليدية في آن معا.
هل نجحت محاولته أم فشلت؟ هذا ما سيجيب عنه المستقبل. في الواقع ان الشيء المهم في الكتاب ليس فقط جواب المؤلف نفسه، وانما اجوبة الفلاسفة الذين سبقوه والتي يستعرضها بكل وضوح ومنهجية دقيقة متماسكة، فجميع الفلاسفة الكبار طرحوا تصورهم لمعنى الوجود. ومن الممتع جدا ان نعرف جواب افلاطون مثلا، او ارسطو، او الرواقيين، او الفلسفة اليونانية بشكل عام. وبعد ذلك من الممتع ان نعرف جواب ديكارت، او سبينوزا، او فلاسفة التنوير، او نيتشه، او فرويد، الخ. كل فلسفة كبيرة هي بمعنى من المعاني جواب على هذا السؤال: ما معنى الوجود؟ من اين جئنا؟ والى اين المصير؟ هذا هو السؤال الحارق الذي يؤرق الانسان على مدار الازمان. وكل فيلسوف يقدم جوابه الخاص. ولكن الاجوبة تتوالى ويظل السؤال صامدا، وسوف يظل صامدا ما دام الموت موجودا ودورة الحياة مستمرة.
ولكن لوك فيري يميز بين ثلاثة اجوبة كبرى ـ ومتتالية ـ في تاريخ الفكر الاوروبي. وهي تتمثل باللحظة اليونانية، فاللحظة المسيحية القروسطية، فلحظة الحداثة. وهو يدعو الاولى باللحظة الكوسمولوجية، اي الكونية، التي يصفها، ايضا بالتعالي الموضوعي. ففلاسفة اليونان ما كانوا يتحدثون عن الحياة الطيبة او الجيدة الا بالقياس الى النظام الكلي للعالم بأرضه وسمائه وكل ما فيه. فحياة الانسان لم يكن لها معنى الا بالقياس الى شيء خارجي عليها، شيء يتجاوزها ويعلو عليها. وهذا الشيء هو الكون المتناسق البديع الصنع والذي يحيط بنا من كل النواحي. وبالتالي فالانسان الاغريقي كان يعتقد انه من هذا العالم واليه يعود. وكل معنى حياته مستمد من هذه العلاقة مع نظام العالم الذي يتعالى عليه. وهذه العلاقة العضوية او الاحتضانية اذا جاز التعبير هي التي كانت تخفف من قلقه امام الموت، فالكون الكلي الشمولي يحتضنه في نهاية المطاف لأنه يفنى فيه: اي في الكل الكبير اللانهائي.
ثم جاءت بعدئذ اللحظة اللاهوتية المسيحية وهيمنت على اوروبا طيلة الف وخمسمائة سنة: اي حتى القرن الثامن عشر او حتى التاسع عشر. وعندئذ دخلت البشرية الاوروبية في مرحلة التعالي الالهي المشخص. لا ريب في ان الاغريق كانوا يعرفون معنى التعالي والتأليه، ولكنه لم يكن مشخصا بالنسبة لهم. فالكون كله كان يمثل العظمة والألوهة والجبروت. واما بدءا من المسيحية والاديان التوحيدية بشكل عام فإن تصورهم لله اصبح مختلفا. فالله اصبح خارج الكون كله لأنه صانعه، هذا في حين انه كان مختلطا بالكون لا منفصلا عنه بحسب تصور فلاسفة الاغريق. ولذلك دعوا بالفلاسفة الوثنيين من قبل آباء الكنيسة ومفكري المسيحية. وعندئذ اصبحت الحياة الطيبة او الناجحة هي تلك التي تخضع لمفهوم آخر للتعالي، مفهوم مختلف جذريا عن المفهوم الاغريقي. فلم يعد الامر يتعلق بأن تجد مكانك المناسب داخل هذا الكون الشاسع الواسع وتندمج فيه كما كان الاغريق يتصورون. وانما اصبح معنى الحياة كلها هو ان تضع نفسك تحت النظرة الرحيمة لله وان تخضع لمشيئته وتلتزم بأوامره ونواهيه. فإن فعلت نجوت وكانت حياتك طيبة او ناجحة او مرضية عند الله. لا ريب في ان التصور الاغريقي للتعالي اقل تدينا من التصور المسيحي لماذا؟ لأنه يعتبر ان النظام الالهي للعالم ملتصق بالعالم لا منفصل عنه كما هو عليه الحال في الاديان التوحيدية التي تنص على ان الكون مخلوق من قبل الخالق وليس أبديا او ازليا. ثم لا توجد «آخرة»، اي حياة بعد الموت في التصور الاغريقي. يضاف الى ذلك ان الايمان لدى المسيحية حل محل المعرفة لدى الفلسفة اليونانية او الارسطو طاليسية، وكذلك فإن الوحي حل محل العقل. ولكن على الرغم من كل هذه الاختلافات فإن حياة الانسان في كلا النظامين ما كان لها معنى الا بالقياس الى شيء خارجي عليها ويتجاوزها. وهذا الشيء هو الذي دعوناه بالتعالي.
ثم جاءت لحظة الحداثة لكي تلغي التعالي تماما، ولكي تقيس حياة الانسان ومدى نجاحها واخفاقها بالقياس الى الماديات فقط: اي بالقياس الى هذا الوجود المحسوس الذي نعيشه بشكل يومي بكل افراحه واتراحه، وملذاته ومنغصاته. فلا شيء يوجد خلفه او وراءه. ولا حياة بعد الموت!.. هنا تكمن قطيعة الحداثة الرهيبة بالقياس الى الفكر الديني السابق لها. وهي قطيعة لم تستطع اوروبا ان تهضمها الا بعد مرور ثلاثة قرون. وهناك شرائح لم تهضمها حتى الآن ولا تزال مصرة على التصور الديني المسيحي وتأمل بوجود حياة اخرى غير هذه الحياة: حياة الأبدية والخلود.
لقد فكك فلاسفة الحداثة كل الانظمة اللاهوتية والميتافيزيقية السابقة ولم يبق من تلك الاعتقادات الراسخة الا ركام وانقاض. ولهذا السبب فإن الانسان الاوروبي يشعر الآن بفراغ في المعنى وخيبة في الروح. فالحياة الناجحة بالنسبة لمنطق الحداثة لم تعد تقاس بالاخلاص لعقيدة دينية معينة او لمبدأ ميتافيزيقي، وانما تتلخص بكلمة واحدة: الكثافة والامتلاء. هل عشت حياة كثيفة، غنية، مليئة بالملذات والسعادات؟ اذن فإن حياتك ناجحة او موفقة. هل عشت حياة تعيسة مليئة بالهموم والاحزان والحرمان من المباهج المادية والمتع الاستهلاكية؟ وإذن فإن حياتك لا تساوي قشرة بصلة.. هذا التصور المنفعي والمادي للحياة البشرية هو الذي يهيمن على المجتمعات الاوروبية او الغربية عموما. انه تصور خاضع كليا للفلسفة المادية المحضة. ولكن حتى الحيوان يأكل ويشرب، وفي النهاية يموت. فما الفرق إذن؟
لقد قضى فلاسفة الحداثة على مفهوم التعالي من أصوله واجتثوه من جذوره الى درجة انه غاب عن الانظار تماما واختفى من أفق الحياة اليومية للشعوب الاوروبية. وهذا اول ما يصدمنا، وفي العمق، نحن ابناء الشعوب الاسلامية والعربية القادمين الى جامعات اوروبا من الشرق لأول مرة. فديدرو فكك اللاهوت المسيحي باعتبار انه خرافات واوهام، ونويرباخ هاجم المسيحية باعتبار انها استلاب، وماركس قال بأن الدين هو افيون الشعوب، ونيتشه استخدم مدفعيته الفلسفية الثقيلة من اجل تحطيم كل العقائد السابقة باعتبار انها من صنع البشر لا من صنع السماء! (انظر كتابه: بشري، بشري اكثر من اللزوم..). وفرويد عرّف الدين المسيحي او اليهودي باعتبار انه عصاب هوسي للبشرية.
ولكن اذا كان هؤلاء الفلاسفة قد هاجموا المسيحية فلأنها كانت تشكل في وقتهم قوة قمعية تهدد حرية الفكر من خلال هيمنة الكنيسة الكاثوليكية والاصولية المتزمتة. واما الآن فقد اختلف الوضع تماما. فلم يعد للدين اي وجود تقريبا في مجتمعات الغرب. وبالتالي فالسؤال المطروح هو: ألم يصل الغرب في تطوره الناجح والصاعد الى الباب المسدود؟ ألا ينبغي عليه ان يعود الى التعالي بطريقة اخرى؟ الا يمكن ان نعطي معنى لحياتنا يتجاوز الماديات والنجاحات الفارغة؟
ما هو هذا المعنى؟ وكيف يمكن التوصل اليه؟ على هذا السؤال يجيب كتاب لوك فيري. وعلى الرغم من ان اجابته لم تقنعني تماما، الا انها جديرة بالتأمل والتمعن. ولكن ذلك يتطلب وقفة اخرى.
* ما الحياة الناجحة؟* Qu"est- Ce qu"une Vie re"ussie? * المؤلف: لوك فيري Luc Ferry* دار النشر: غراسيه ـ باريس Grasset - Paris
---------------
03.1.26