|
الشعور الوطني والنشيد الوطني
أحمد عصيد
الحوار المتمدن-العدد: 5638 - 2017 / 9 / 12 - 23:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بعث السيد وزير التربية الوطنية المغربي إلى مدراء الأكاديميات والمدارس في مختلف جهات المغرب بمذكرة يدعوهم فيها إلى اعتماد تحية العلم الوطني وجعل التلاميذ يقومون كل يوم بتلاوة النشيد الوطني جماعيا، تبرير هذا القرار حسب المذكرة الوزارية هو أن "تحية العلم والنشيد الوطني، تخلف في نفوس الناشئة إحساسا بحب الوطن والاعتزاز بالهوية الوطنية والتشبث بالثوابت والمقدسات"، إضافة إلى "ما يتضمنه النشيد من عبارات الفخر بالتاريخ المجيد والحث على تلبية نداءات الوطن تحقيقا للتنمية والتقدم والعلى". ولست أدري وأنا أقرأ هذا الخبر كيف تبادرت إلى ذهني الرسالة المؤثرة للشاب الذي مات غرقا في قوارب الموت بسواحل ليبيا، إسمه رشيد مستور، غادر المغرب مكرها بعد أن أمضه اليأس وأتعبه الانتظار، انتظار الفرج الذي لم يأت، وكان من بين ما كتبه الأسطر التالية، التي تستحق أن نقرأها من جديد على ضوء مذكرة السيد الوزير، تقول رسالة الوداع:"سنغادر هذا الوطن عاجلا أم آجلا .. سنغادره ليس حبا في أوطان غيرنا، سنغادره لأننا مجبرون على المغادرة ..مجبرون لأن من يحكمنا بقوة الميتافزيقا أحكم قبضته على العقول .سنغادره أيضا لأن أفراده غارقون في السادية، وغير مبالين وغير مهتمين، كل يجري إلى تحقيق رفاه نفسه (...) مجبرون على المغادرة لأننا مهدّدون ..مهددون بالقهر من طرف مافيات السياسة (…) سنترك هذا الوطن حين ماتت فينا كل ملكات الإنسان ليحلّ محلها الأنا وبعدي الطوفان .. مجبرون على المغادرة .. قبل أن نغادر هذا العالم بشكل نهائي .. ". تذكرت كذلك نص الرسالة التي نشرتها "وكالة الأناضول”، والتي وجدها خفر السواحل في جيب أحد اللاجئين السوريين الذين انتشلت جثثهم بعد غرق مركبهم الذي كان يحوي المئات من المهاجرين غير الشرعيين في البحر الأبيض المتوسط خلال رحلتهم للوصول إلى الشواطئ الأوروبية ، ومن بين ما تقوله الرسالة: "لاتحزني يا أمي إن لم يجدوا جثتي، فماذا ستفيدك الآن إلا تكاليف نقل وشحن ودفن وعزاء. أنا آسف يا أمي لأن الحرب حلّت، وكان لا بد لي أن أسافر كغيري من البشر، مع العلم أن أحلامي لم تكن كبيرة كالآخرين، كما تعلمين كل أحلامي كانت بحجم علبة دواء للكولون لك، وثمن تصليح أسنانك (...) أنا آسف يا منزلي الجميل لأنني لن أعلق معطفي خلف الباب (...) شكراً لك أيها البحر الذي استقبلتنا بدون فيزا ولا جواز سفر، شكراً للأسماك التي ستتقاسم لحمي ولن تسألني عن ديني ولا انتمائي السياسي (...) شكراً لقنوات الأخبار التي ستتناقل خبر موتنا لمدة خمس دقائق كل ساعة لمدة يومين.. شكراً لكم لأنكم ستحزنون علينا عندما ستسمعون الخبر. أنا آسف لأني غرقت..”. هاتان الرسالتان المؤثرتان رغم بساطتهما أجد فيهما المعنى الحقيقي للوطنية، وللشعور الوطني، وهما تظهران بما لا يدع مجالا للشك بأن الوطنية لا يمكن أن تتحقق بمجرد ترديد النشيد الوطني.
لا شك أن الشابين اللذين تركا الرسالتين يعرفان النشيد الوطني لبلديهما ويحفظانه عن ظهر قلب، لكنه لم يسعفهما عند الحاجة، ولم يكن لهما نصيرا في لحظة المأساة الأخيرة. إن الشعور الوطني لا يتحقق بالنشيد الوطني لأن هذا الأخير مجرد كلمات منمقة قد تكتب على الجدار أو الورق، وقد تكون بلغة لا يعرفها غالبية السكان، بينما معانيها الحقيقية ينبغي أن يجدها الناس في قلوبهم وفي تفاصيل حياتهم اليومية على الأرض التي آوتهم وسيعودون إليها. إن الشعور الوطني يتلخص في الشعور بالكرامة، وبالأمان، وهما بالذات ما افتقدهما الشابان الراحلان في وطنيهما. الشعور الوطني هو أن تنعكس كلمات النشيد على حياة كل واحد منا فيجدها مجسدة في سلوك السلطة والمسؤولين تجاهه، فما معنى النشيد الوطني بالنسبة لشباب عاطل يقضي وقته متظاهرا متجمهرا أمام البرلمان ؟ وما معنى النشيد بالنسبة لمن وقع عليه ظلم عظيم فطرق أبواب المؤسسات فلم يجد من ينصفه ؟ وما معنى هذا النشيد بالنسبة لمن اغتصبت أرضه على أنها ملك للدولة بينما توارثها أهله أبا عن جدّ منذ قرون طويلة، ويتوفر على كل الوثائق التي تثبت ذلك ؟ وما معنى النشيد الوطني بالنسبة للسكان الذين تستخرج المعادن النفيسة من جوف أراضيهم دون أن يكون لهم منها نصيب، فيستمرون في معاناة شظف العيش بينما تؤخذ الثروات بالهيلكوبتر. هل يحفظ النشيد الوطني أولائك الذين يختلسون أموال الوطن ويخرقون كل القوانين ويخلفون وراءهم ضحاياهم الذين تغلق في وجوههم أبواب المؤسسات والمحاكم ؟ هل يعرف النشيد الوطني أولائك الذين استوردوا من "جوطية" الشرق أنماط التدين التي تهدم معنى المواطنة ومعنى القانون وتعلم احتقار الإنسان وتبخيس قيمته ؟ لماذا لا تفرض قراءة النشيد الوطني على البرلمانيين الذين ينسون معنى الوطن عندما يتغيبون أو ينامون أو يغرقون في هواتفهم المنقولة يتلقون الفيديوهات المضحكة والصور الغبية، أو داخل الإدارات العمومية التي تشهد وقائع مهولة كل يوم أبسطها الرشاوى وتزوير الوثائق والالتفاف على حقوق الضعفاء والمهمشين. إننا نحن بسطاء الناس، نحب وطننا لا لحفظنا النشيد الوطني وترديده، لأننا لا نحفظه ولا نردده، كما نجد كلماته في غاية الركاكة، بل نحب وطننا لأنه الأرض الوحيدة التي شهدت خروجنا إلى هذا العالم، وتعلمنا فوقها أبجدية العيش المشترك والتبادل وألم الكفاح من أجل البقاء، وهي الأرض التي ننتمي إليها ما دامت لشعوب الأرض امتدادات جغرافية تطبعها بطابعها وتمنحها ألفة الوجود على الأرض، وحلاوة الشعور بالانتماء إلى وطن. إننا نحب وطننا رغم السراق والمستبدين والمخابراتيين وتجار الدين والوطنية، لأننا ليس لنا وطن آخر سواء، ونعرف أن نميز بين الوطن وبين الذين يتماهون معه، وبين الذين حاولوا تهريب الوطنية في علب من مفاهيم صورية لا مقابل لها في الواقع الملموس الذي نعيشه. ما جدوى أن ندفع أطفالنا إلى حفظ كلمات النشيد الوطني إن كانوا سيُصدمون كل يوم بمشاهد تنطوي على النقيض من معاني تلك الكلمات ؟ متى ستنتهي التربية على التصنع والتمثيل ووضع الأقنعة ؟ ومتى ستصبح مدرستنا صورة لحياتنا ؟ ما جدوى تربية الأطفال بالنشيد الوطني على "حب الوطن" إذا كان الوطن رمزا للسلطة الغاشمة وللظلم والإهانة، وما جدوى التعريف بـ"الثوابت والمقدسات" إذا كانت معتمدة في كل أشكال التمييز والقهر والاستعباد ؟ وما الفائدة من تلقين عبارات "الفخر بالوطن والتاريخ المجيد" إذا كان تاريخ الوطن من المحرمات السياسية التي نخفيها كما نخفي الممنوعات ؟ وما جدوى الحديث عن التقدم والعُلا إذا كان واقع البلد سائرا نحو التردّي التام والانحطاط الكبير ؟ إن القيمة العليا المفتقدة في بلدنا هي الثقة، الثقة في المؤسسات وفي المسؤولين وفي أنفسنا، وهي قيمة لا يمكن أن تعود إلينا إلا بردم الهوة التي تفصل فكرنا عن واقعنا، وإنهاء مسلسل الفساد والإفساد، والتهميش والإقصاء، وإقامة دولة العدل والقانون، وذلك هو النشيد الأجمل الذي سيتغنى به من أعماقه كل مغربي ومغربية.
#أحمد_عصيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاقتتال بسبب الدين من مظاهر غباء البشر وانحطاطهم
-
التحرش الجماعي الأسباب والأبعاد
-
لماذا لا تنفع انتفاضات الشارع في تغيير واقعنا ؟
-
جمعيات -الطابور الخامس-
-
-الاستثناء المغربي- هل يخون نفسه ؟
-
عود على بدء
-
حياد المساجد هو الذي يقي من الفتنة
-
الفلسفة في درس التربية الإسلامية
-
-حتى لا تفقد الأمة روحها !-
-
ليسوا أشرارا يا زغلول النجار
-
تركيا: خطوات ثابتة نحو العودة إلى ترسيخ الاستبداد الشرقي
-
ترتيب البيت الداخلي أولا قبل نظرية المؤامرة
-
كيف نعيد للناس متعة القراءة ورُفقة الكتاب ؟
-
من يحمي منظومتنا التربوية من الإرهاب ؟
-
بين الصوفية والسلفية والإخوانية
-
-البرقع- بين الحقوقي، القانوني والسياسي
-
هل استوعب حزب -العدالة والتنمية- الدرس ؟
-
رسائل قصيرة إلى المغاربة
-
أزمة سياسة أم أزمة دولة ؟
-
توسيع مفهوم -إمارة المؤمنين- يقتضي تدبيرا عمليا للتعددية الد
...
المزيد.....
-
رصد طائرات مسيرة مجهولة تحلق فوق 3 قواعد جوية أمريكية في بري
...
-
جوزيب بوريل يحذر بأن لبنان -بات على شفير الانهيار-
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
لحظة هروب الجنود والمسافرين من محطة قطارات في تل أبيب إثر هج
...
-
لحظة إصابة مبنى في بيتاح تكفا شرق تل أبيب بصاروخ قادم من لبن
...
-
قلق غربي بعد قرار إيران تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة
-
كيف تؤثر القهوة على أمعائك؟
-
أحلام الطفل عزام.. عندما تسرق الحرب الطفولة بين صواريخ اليمن
...
-
شاهد.. أطول وأقصر امرأتين في العالم تجتمعان في لندن بضيافة -
...
-
-عملية شنيعة-.. نتانياهو يعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي في
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|