أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - شاكر النابلسي - نِعمَةُ الأُميّة في العالم العربي!















المزيد.....


نِعمَةُ الأُميّة في العالم العربي!


شاكر النابلسي

الحوار المتمدن-العدد: 409 - 2003 / 2 / 26 - 04:06
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


 

قبل أن ينتهي العام 2002 كان تقرير الأمم المتحدة عن "التنمية الانسانية في العالم العربي لعام 2002" قد نُشر. وبنشره أثبتت اللجان المحايدة التي أعدت هذا التقرير، وهم نخبة منتقاة من علماء ومفكرين وباحثين عرب لا ينتمون لسلطة سياسية عربية، كما لا ينتمون لأي نظام حكم عربي، بأن العالم العربي أصبح في ذيل القائمة ؛ أي في قاع العالم. وهذا وصف ليس مجازياً، ولا هو من شاعر ساخط على أمته، ولا هو من سحر البيان العربي المعتاد، ولكنه وصف حقيقي مُدعَّم بالأرقام والحقائق والوثائق، ونتائج البحوث العلمية المضنية.

فكيف انتقلنا – نحن العرب - من خانة "خير أمة أُخرجت للناس" إلى خانة " أتعس أمة تعيش بين الناس" ؛ أي في قاع العالم، ولا أحد من تحتنا على الاطلاق إلا الأعزاء في صحراء افريقيا الجنوبية، كما قال تقرير الأمم المتحدة للتنمية الانسانية في العالم العربي؟

 

شحمٌ أم وَرَمٌ ؟

نحن في العالم العربي، تعدادنا 280 مليون نسمة. وهذا العدد يعادل تقريباً عدد سكان الولايات المتحدة الأميركية، وحوالي ربع عدد سكان الهند، وخمس عدد سكان الصين. ولكن هل عددنا هذا شحم أم ورم؟ وما قيمة هذا العدد إذ لم يكن هذا العدد متقدماً تقدماً تنموياً بارزاً، بحيث يستطيع أن يكون له دور في المجتمع الانساني المعاصر.

فهل نحن أغنياء حقاً؟

أم أننا الأغنياء الفقراء؟

إن غنى الأغنياء منا يُقاس بفقر الفقراء منا، وليس بغنى فقراء الغرب.

فالعالم العربي (22 دولة) لا يتجاوز دخله السنوي مجتمعاً 531 مليار دولار. وهو أقل من دخل اسبانيا (40 مليون نسمة) السنوي وحدها التي تعتبر من فقراء الغرب. وأن سبعين بالمائة من هذا الدخل هو من انتاج النفط. وأن هولندا بلد الحليب والزبدة والشيكولاتة يزيد دخلها السنوي عن دخل الدول العربية  المنتجة للنفط مجتمعة!

فهل نحن قوم شحمٍ أم قوم ورم، وهل كان الشاعر المتنبي يتنبأ لنا بمثل هذا المصير، عندما خاطب سيف الدولة الحمداني قبل أكثر من ألف سنة قائلاً:

أُعيذها نظرات منك صادقةً

أن تحسبَ الشحمَ فيمن شحمُه وَرَمُ

كذلك، يقول لنا هذا التقرير أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد في مجمل البلدان العربية أقل من متوسط منطقة أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، وأن معدل نمو الناتج للفرد العربي في الربع الأخير من القرن العشرين كان من أقل المعدلات في العالم!

 انني اعتبر – كما اعتبر قليلون غيري – أن هذا التقرير أخطر وصف، وأدق مصدر لحال العرب صدر في تاريخ الأمة العربية منذ ظهور الإسلام حتى الآن!

فلم يسبق لتقرير "حُر" أن صدر في يوم من الأيام بحق الأمة العربية، يكشف عوراتها، ويعريها أمام نفسها وأمام العالم كما فعل هذا التقرير، بعيداً عن سلطة الخلفاء، وطغيان السلاطين، وتلفيق الديكتاتوريين، وأرقام وزارات الداخلية، وبيانات وزارات الإعلام، وتصريحات "مصدر مُطَّلع".

لقد اعتدنا منذ قرون طويلة حتى الآن أن نقول على لسان شعرائنا، أن لنا صدر العالمين أو القبر، وننتفخ أمام الآخرين كالطواويس البلهاء، وكأننا أرباب الأرض ولا أرباب غيرنا. ومن يرى الزعماء السياسيين العرب كيف يمشون، وكيف يجلسون، وكيف يتحدثون بثقة وبفخر واعتزاز وكبرياء وأنفة، يحسب أنهم فعلاً قد فتحوا السند وأخضعوا الهند، وملكوا الأرض وما عليها من معرفة وعلم وقوة وسؤدد، رغم أن تقرير التنمية الإنسانية يقول لنا أن متوسط معدل النمو في الدخل الحقيقي للفرد في البلدان العربية في الربع الأخير من القرن العشرين كان يُقدَّر بحوالي نصف في المائة في السنة. وهذا يعني  أن العالم العربي لو استمر بمسيرته "المباركة" على هذا المعدل ، فإن على المواطن العربي أن ينتظر 140 عاماً لكي يضاعف دخله!

 

لمن كُتب هذا التقرير؟

 

إن هذا التقرير لم يكتب للأنظمة العربية، لأنها غير مُعناةٍ بالأمر.

والعجيب المضحك المبكي، أن الذين أعدوا هذا التقرير قد قالوا بأن هذا التقرير مِلكٌ للشعب العربي عامة، لكل القوى الحيّة في المجتمعات العربية، للمؤسسات التمثيلية، ومؤسسات القضاء، ومؤسسات الرقابة المختلفة، وأيضاً إلى مؤسسات المجتمع المدني على تنوع أشكالها، وإلى القطاع الخاص، وإلى المفكرين المستقلين.

ولكن السؤال هنا هو:

أين هي القوى الحيّة في المجتمع العربي؟

وأين هو المجتمع المدني ومؤسساته؟

 

فالحكومات العربية امتعضت، وأصابها مغص شديد، وصداع مؤلم من هذا التقرير، وخشيت من تداعياته في أنها السبب الرئيسي في درجة سوء وشدة سواد هذا التقرير. ولكنها ارتاحت وانفرجت أساريرها عندما أيقنت أن هذا التقرير في وادٍ والشعوب في وادٍ آخر، وأن لا حياة لمن تنادي، وأن الشعوب لا تقرأ، وإن قرأت لا تفهم، وإن فهمت لا تتحرك، وإن تحركـت لا تفعل ما هو جذري ومجدٍ . وأن مسلسلاً تلفزيونياً جنسياً واحداً كافٍ لإزالة آثار هذا التقرير العدواني الشيطاني الملعون.

 فرغم الفاجعة الكبرى في هذا التقرير، إلا أن أحداً لم يلتفت إليه كثيراً، وكأن الموضوع لا يعني أحداً. ونظر إليه الناس نظرة استهزاء وعدم تصديق، واتُهم هذا التقرير بأنه "دسيسة" من دسائس الاستعمار على "منجزات الأمة المجيدة"، وأن مُعدّي هذا التقرير هم من "عملاء الاستعمار" الذين يسعون إلى تثبيط هِمَم الأمة، وتعطيل "مسيرتها المباركة"!

فلم نسمع أن حاكماً عربياً استقال من منصبة احتجاجاً على سواد هذا التقرير وسخامه. ولم نسمع من الحكومات العربية اعتذاراً لشعوبها عما جاء في هذا التقرير من فواجع، نتيجة تقصيرها واهمالها وفسادها. ولم نسمع بمظاهرات نزلت إلى الشوارع احتجاجاً على هذا التقرير، مطالبةً بالاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولم تتحرك الأحزاب العربية "المحترمة" من اليمين واليسار، لكي تضع برامج للحكومات العربية تدلّها على كيفية تحسين صورة الوضع العربي العام.

لم يتم شيء من كل هذا، وكأن التقرير لا يعني أحداً منا!

فما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ

ولله الحمد على نعمة الأُميّة!

 

 

فلسطين هي المشجب الدائم

 

وربما كانت المصائب المنظورة التي تنـزل على رأس الأمة العربية في فلسطين والعراق والمصائب غير المنظورة في نواحي أخرى من العالم العربي هي سبب هذه اللامبالاة. وهي المشاجب التي نُعلّق عليها دائماً ملابسنا القذرة. فما أن ظهر هذا التقرير حتى بدأت مبررات هذا التخلف تبرز. فمعظم الذين حاولوا تبرير سوء نتائج هذا التقرير، قالوا إن الصراع العربي الاسرائيلي في فلسطين كان هو السبب في تخلف العالم العربي، وخروج مثل هذه النتائج السيئة. فنحن أمة نميل في الغالب إلى رد المصاعب أو المشاكل التي تواجهها المنطقة العربية إلى ما هو خارجي أكثر مما نلتفت إلى الداخل وإلى أنفسنا، كما قال نادر فرجاني رئيس تحرير هذا التقرير.

 فلو افترضنا أن المشكلة الفلسطينية هي السبب فعلاً في سواد صورة الأمة العربية على هذا النحو، فما بال المناطق التي هي بعيدة عن القضية الفلسطينية والغنية كالمغرب العربي ودول الخليج؟

 وما بال العرب وهم على هذه الحال قبل القضية الفلسطينية، وقبل العام 1948؟

وما بال اسرائيل قد تقدمت، ولم تعيقها حروبها مع العرب؟

فلله الحمد على نعمة الأُميّة في العالم العربي!

 

 

أسباب هذه الكوارث

 

تقول ريما خلف الوزيرة الأردنية السابقة، ومساعدة الأمين العام للأمم المتحدة، والمديرة الإقليمية لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي، وأبرز المشرفين على اعداد هذا التقرير، أن نصيب الفرد العربي من الدخل الحقيقي في الدول العربية نما بنسبة 0.5? فقط سنويا بين عامي 1975 و 1998 مقابل متوسط النمو العالمي البالغ 1.3?. وأضافت خلف أن الدول الوحيدة التي حققت معدلات نمو أقل من الدول العربية كانت الدول الواقعة في جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى. فشكراً للأخوة الأعزاء في جنوب الصحراء الأفريقية الذين يشاركوننا الضرّاء والعزاء!

وتعزو ريما خلف أسباب هذه الأزمة التنموية في المنطقة العربية إلى نواقص ثلاث:

1- النقص في الحريات، حيث أن المنطقة العربية أو المواطن العربي هو الأقل استمتاعاً بالحرية مقارنة مع مناطق العالم السبع.

2- النقص في تمكين المرأة من ممارسة حياتها وحقوقها، حيث أن مشاركة المرأة السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية متدنية بشكل كبير.

3- نقص المعرفة.

ولذلك، فإن معالجة هذه النواقص الثلاث، هي المفتاح في معالجة الأزمة التنموية.

وهناك بعض الباحثين كعباس شبلاق من يزيد على هذه النواقص الثلاث بنقيصة أخرى وهي عدم وجود العامل البشري كعنصر أساسي في قضية التنمية. وبالتالي فهناك ما يبرر الاهتمام في إمكانية الإبداع في مجتمع من المجتمعات؛ أي الإبداع في داخل مجتمع إلى حد بعيد. وليس هناك من سبيل آخر توصلت إليه الإنسانية حتى تبدع غير الحرية والديمقراطية. وهذه المسيرة التاريخية ليست خاصية فينا في المنطقة. ويؤيد شبلاق في هذا محمود عبد الفضيل الباحث الاقتصادي المصري الذي يُركِّز على أثر العامل البشري، وتنظيمه، وحُسن استغلاله في التنمية.

 

الديمقراطية والتنمية

قال بعض من انتقدوا تقرير الأمم المتحدة عن التنمية الإنسانية في العالم العربي لعام 2002  كجلال أمين الباحث الاقتصادي المصري والأستاذ في الجامعة الأمريكية في القاهرة، ورافع لواء العداء للعولمة والعلمانية والحداثة في الفكر العربي المعاصر، من أن الديمقراطية لا علاقة لها في موضوع التنمية! وقال أمين، إن في أوروبا الآن نوعاً من عدم اللامبالاة في المشاركة السياسية، ومع ذلك فهذه المجتمعات تتقدم. ولكن عدم اللامبالاة هذه التي يتحدث عنها أمين، لا تعني أن الحريات والديمقراطية في هذه البلدان قد ضاقت، والمشاركة قد قلت. فالحرية تبقى عنصراً مهماً في التنمية البشرية، ولكنها ليست كل العناصر.

 ومن هنا اختلف الباحثون حول أيهما يأتي في المقدمة الرغيف أم صندوق الاقتراع؟

 والخبز أم الحرية؟

فالجائع يبحث عن حريته ليشبع، والحر يبحث عن رغيفه حتى لا يجوع ويُستعبد!

والعلاقة بين الخبز والحرية تظل علاقة جدلية.

ولكن العربي – واحسرتاه - لم يَطُلْ خبزاً ولا حرية!

ولله الحمد على أُميّة العالم العربي!

 

 

الأُميّة مربط الفرس!

إن أهم ما طرحه تقرير الأمم المتحدة في مجال التعليم، كان عن وضع الأُميّة في العالم العربي. وقبل الخوض في هذا الموضوع، علينا أن نتذكر دائماً، ونضع هذا التذكار حَلَقاً في آذاننا، بأن الدول الأسيوية التي كانت تنتمي إلى نادي العالم الثالث، ثم قفزت فوق أسوار هذا النادي، ووقفت إلى جانب دول العالم الأول، لم تتقدم تنموياً إلا بعد أن قضت على الأُميّة قضاءً مُبرماً، وارتقت بمستواها التعليمي ارتقاءً نموذجياً. ومن هذا الدول سنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان، والآن التنين الصيني الرهيب على الطريق. ورغم أن كوريا الجنوبية واليابان ما زالتا محتلتين من قبل القوات الأمريكية ذات القواعد العسكرية هناك منذ نصف قرن، إلا أن ذلك لم يكن (قميص عثمان) الذي يُرفع عند كل منعطف تخلف.

أما في العالم العربي فما زلنا حتى الآن نعزو تخلفنا إلى الاستعمار وعوامل خارجية أخرى، لا إلى أُميّة العالم العربي التي تصل في بعض الدول العربية إلى نسبة 60? في الوقـت الذي لا تزيد فيه عن 3? فقط في بعض الدول الصناعية. وأن عدد الأُميين العرب يبلغ 65 مليون أُميّاً ثلثاهما من النساء. أما استخدام العرب لشبكات الإنترنت، فإنه لا يزيد عن 0.6? في الوقت الذي يصل فيه في الدول المتقدمة إلى ما نسبته 35?. ولا يتوقع أن يزول هذا التحدي سريعاً, فما زال حوالي عشرة ملايين طفل في سن التعليم غير ملتحقين بالمدارس. ولا يزيد الاستثمار في البحث والتطوير عن 0.5? من الناتج القومي الإجمالي؛ أي أقل من ربع المتوسط العالمي. كما توجد فجوة كبيرة بين النظم التعليمية السائدة واحتياجات سوق العمل. ويزيد من هذه الفجوة، التغير السريع في احتياجات سوق العمل الناجم عن العولمة ومتطلبات التقنية ذات التطور السريع.

إن التنمية الإنسانية لا تتم إلا بالاهتمام بمجموعة من القيم التي تدفع التنمية, كالتسامح، واحترام الثقافات المختلفة، واحترام حقوق المرأة ومختلف فئات المجتمع الأخرى. وكذلك حماية البيئة، ودعم قنوات الأمن الاجتماعي من أجل حماية الضعفاء، واعطاء المعرفة حق قدرها، ومشاركة الناس في اتخاذ القرارات والتخطيط, مشاركة سياسية واقتصادية واجتماعية.

فأية تنمية بشرية يمكن أن تتم في العالم العربي في ظل عشرين مليون شخص عاطلين عن العمل، وفي ظل هذا الجهل المطبق، وتدني مستويات التعليم ؟

وأية تنمية بشرية يمكن أن تتم في ظل إحصاءات اليونسكو في عام 2000 التي تدلّ على أن نسبة الأُميّة في العالم العربي أعلى من نسبة الأُميّة في المتوسط العام للعالم. وأن نسبة الأُميّة في العالم العربي بالمقارنة مع أوروبا تشير إلى  أن أوروبا تعتبر 1/20 من الأُميّة في العالم العربي.

إن الأُميّة الأبجدية التي يبلغ عدد أفرادها في العالم العربي أكثر من 65 مليون عربياً ليست هي فقط ما نعاني منه في العالم العربي، ولكن المصيبة تتعاظم عندما نضيف إليها الأُميّة الثقافية التي يبلغ عدد أفرادها أكثر من مائة مليون عربياً، والدليل على ذلك حال القراءة وحال الكتاب المشين في العالم العربي. فقد تراجع استخدام ورق الصحف في العالم العربي لكل ألف فرد من 3.3 كيلو جرام في العام 1985، ليصبح في العام 1995، 2.7 كيلو جرام فقط، في الوقت الذي ارتفع فيه في أوروبا في الفترة نفسها لكل ألف نسمة من 55.7 كيلو جرام إلى 82.2. ولم يعد الكتاب العربي الأكثر رواجاً يوزع أكثر من ثلاثة آلاف نسخة، حسب قول الناشرين إن صدقوا، وأصبحت معارض الكتاب في طول العالم العربي وعرضه معارض للنـزهة وليست للشراء، وللمتفرجين وليست للقراء.

 

 

هل الأُميّة نعمة أم نقمة؟

 

لا شك بأن الأُميّة الأبجدية والأميّة الثقافية هي أكبر داء يمكن أن يُبتلى به شعب من الشعوب. ولقد حاولت الشعوب مكافحة الأُميّة، وجنّدت لها المبالغ الطائلة والجهود المستمرة، لأنها كانت تعلم علم يقين أن هذا المرض الخبيث (السرطان الثقافي) هو العثرة الكبرى في طريق التقدم والازدهار. ومع هذا كله، ورغم هذا كله، فقد كانت الأُميّة في العالم العربي "نعمة" يحمد البعض الله عليها، وذلك  للأسباب التالية:

 

1-  أن الأُميّة "نعمة" للأنظمة العربية التي تحكم شعوباً لا تقرأ، وبالتالي لا تعرف الحقيقة أين هي، وما هو لونها. وأن كل ما يقال لهذه الشعوب من أجهزة الاعلام الرسمية مُصدّق وصحيح. وأنه غير صحيح  - كما قال تقرير الأمم المتحدة - من أن مدى ونسبة التمتع بالحريات المدنية والسياسية في مناطق العالم المختلفة أعلى بكثير مما هو في العالم العربي الذي يعتبر في ذيل القائمة ؛ أي في قاع العالم. ومن هنا فإن الأنظمة العربية التي بيدها الزيت ومفتاح البيت، هي التي تتحكم بالانفاق على التعليم والعلم، ولهذا تدنى مستوى التعليم العربي إلى قاع العالم. فهناك أرقام تشير مثلاً أن العالم العربي أبعد ما يكون عن "مجتمع المعرفة". ففي تقرير صدر في العام 1998 عن هيئة اليونسكو يقول أن العرب أنفقوا 0.14?  فقط في العام 1996 من الدخل القومي على البحث العلمي، في الوقت الذي أنفقت فيه إسرائيل 2.53? على البحث العلمي، واليابان 2.9? وكوبا 1.62? .

2-    إن مكافحة الأُميّة في العالم العربي يعتبر بمثابة ردّ اعتبار للمعرفة، واعتبار أن المعرفة قوة كما حصل في معظم دول العالم. والأنظمة العربية لا تريد للعارفين أن يكونوا قوة. فلا قوة غير قوة الأنظمة السياسية. ومعرفة العارفين يعني أنهم يدركون تغير الواقع الاجتماعي، وأن لا ثوابت في المجتمعات، وأن نتائج التحليل العلمي هي الحكم والفيصل، وضرورة احترام العمل الإنساني المبدع، واشاعة روح التحدي في الإنسان، وتأهيله لصنع مصيره بنفسه، والانفتاح على ثقافة الآخر. وأخيراً تكافؤ الفرص التعليمية أمام الجميع.

 

فهل هذا كله من مصلحة الأنظمة العربية القائمة؟

3-   إن عدم القضاء على الأُميّة من الوطن العربي في المستقبل القريب، ودوام نعمة الأُميّة سيكون من مصلحة المنتفعين بالأوضاع العربية السائدة والقائمة الآن نتيجة لأنظمة التعليم القهرية المتخلفة، كما قال لنا رئيس تحرير "تقرير الأمم المتحدة عن التنمية الإنسانية في العالم العربي لعام 2002" ، والذي أكد بأن نظام التعليم القائم في العربي الآن هو نظام متخلف وقهري، والأسرة لدينا قهرية، والجامعة قهرية، والدولة قهرية. ولو أننا تخلصنا من الأُميّة الأبجدية في المستقبل القريب، فاننا نحتاج إلى سنوات وسنوات للقضاء على الأُميّة الثقافية. 

4-   إن من نِعَم الأُميّة علينا، أن العالم العربي قد أُتيح له أن ينفق انفاقاً هائلاً على التسليح (40? من ميزانيات الدول العربية تذهب للدفاع، ولا هجوم ولا دفاع، وإنما جزء كبير من هذه الميزانية يذهب عمولات ورشاوى). وهذا الإنفاق المجاني الرهيب على الجانب العسكري، يقابله عدم وجود أية رؤية استراتيجية للحكومات العربية للقضاء على الأُميّة والالتفات إلى أهمية التعليم، اضافة إلى كلفة التعليم الباهظة والمتزايدة الآن، مما يجعل الأُميّة "ليست حلاً سيئاً"، كما يقـول الروائي عبد الرحمن منيف في كتابـه (رحلة ضوء، ص199).

5-  إن من نِعَم هذه الأُميّة علينا أنها كانت سبباً في انتشار (الأفيون العربي الرخيص) وهو الدراما التلفزيونية التافهة التي حلّت مشكلة الأُميّة في العالم العربي حلاً هستيرياً مضحكاً، بحيث أصبحت هي الثقافة "الرفيعة" التي تصل إلى المتلقي الأُمي، دون حاجته لتعلّم القراءة والكتابة لجني المعرفة والحصول عليها. وبذا ازداد انتاج الدراما التليفزيونية، وكثُر أغنياؤها، وازداد الاستثمار المادي في الفضائيات العربية، وانتشرت تبعاًَ لذلك بحيث أصبحت الآن (يخزي العين) 140 فضائية!

6-  إن وجود أكثر من عشرين مليون عاطل عن العمل في العالم العربي، وترشيح هذا الرقم للزيادة المضطردة في ظل انتشار الفساد السياسي والمالي والإداري في العالم العربي، يرفع القبعة عالياً تحيةً لنعمة الأُميّة في العالم العربي. إذ ما فائدة أن نتعلم ما دامت لا توجد هناك فرص للعمل والعيش الكريم؟

7-  إن من نِعَم الأُميّة الخاصة بالمرأة (45 مليون انثى عربية أُميّات) أنها أرضت غرور المجتمع الذكوري العربي الفحل وأسعدته، باعتبار أن تقرير الأمم المتحدة "سيئ الذكر"، قد قال وصرّح بأن وضع المرأة العربية التعليمي والصحي في قاع العالم ، وليس أسوأ منه إلا فئة واحدة من النساء في العالم فقط، وهي الفئة التي تعيش في جنوب الصحراء الأفريقية. وقد أدى هذا الوضع المزري للمرأة العربية أن النساء أصبحن يعانين بدرجة أعلى من الحرمان من توظيف قدراتهن في المجالات الاقتصادية وفي المجالات السياسية.

8-  وأخيراً، فإن "بركة" الأُميّة في العالم العربي تتجلّى في هذا الرضا العام عن ما يدور في العالم العربي، وحمد الله ليلاً ونهاراً، وصبحاً ومساءً على دوام الحال وحُسن المآل، ونعمة الاستقرار وحُكم الاستمرار. وهذا الرضا هو رضا الغالبية الصامتة المسبِّحة الحامدة. ولو كان هذا الرضا غير موجود – كما يقول "الغُلاة الخوارج المرتزلة" ويدّعون – لوجدتَ أن الأرض العربية قد زُلزل زلزالها، وأخرجت أثقالها، ورمت أحمالها، وتساءل الحكّام مالها. وأن العالم العربي قد تحوّل إلى حمم بركانية ثائرة عنيفة، لا تهدأ ولا تهجع إلا إذا قام الحساب، ونُفِّذ العقاب، وانتصبت الموازين، وأخذ كل ذي حق حقه.

 

كاتب من الأردن، ورئيس الرابطة الجامعية الأمريكية- دينفر - أمريكا

 

خاص بأصداء



#شاكر_النابلسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الحوثيون يزعمون استهداف قاعدة جوية إسرائيلية بصاروخ باليستي ...
- إسرائيل.. تصعيد بلبنان عقب قرار الجنايات
- طهران تشغل المزيد من أجهزة الطرد المركزي
- صاروخ -أوريشنيك-: من الإنذار إلى الردع
- هولندا.. قضية قانونية ضد دعم إسرائيل
- وزيرة الخارجية الألمانية وزوجها ينفصلان بعد زواج دام 17 عاما ...
- حزب الله وإسرائيل.. تصعيد يؤجل الهدنة
- مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين مقاتلي -حزب الله- والقوات الإسر ...
- صافرات الانذار تدوي بشكل متواصل في نهاريا وعكا وحيفا ومناطق ...
- يديعوت أحرونوت: انتحار 6 جنود إسرائيليين والجيش يرفض إعلان ا ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - شاكر النابلسي - نِعمَةُ الأُميّة في العالم العربي!