|
ضد التكريس
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1459 - 2006 / 2 / 12 - 09:55
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
يعم الركود الحياة الثقافية السورية. ركود على مستوى المؤسسات والمنابر، ركود على مستوى المعاني والحساسية، وركود على مستوى المثقفين والفاعلين الثقافيين، كما ونوعا. ركود أيضا على مستوى تصور مخارج من هذا الشرط. نفضل، وفقا لتقليد سوري راسخ، التذمر على العمل، والنق على النقد، والتذرع بـ"الظروف الموضوعية الصعبة" على المبادرة الذاتية. الثقافة تحتاج إلى حرية، هذا لا جدال فيه. لكن استنتاج أن الثقافة لا يمكن أن تزدهر دون حرية في غير محله (إلا حين تتخذ السلطات موقفا متطرفا ضد الاستقلال الثقافي والاجتماعي كحال سوريا بين عامي 1976 و2000). فالثقافة تسهم في إنتاج الحرية عن طريق الإبداع وطرق مسالك جديدة وتجريب لغة وأساليب جديدة. بل عن طريق الشغب والانشقاق والمغايرة وتحطيم الأصنام وقتل الآباء والخروج من البيت وتحطيم السياج. وكيف نفوز بالحرية أن لم نتعرف عليها في الفاعلية الإبداعية وتحدي العوائق ومقاومة القيود، إن لم ننتجها ونتعارك مع السلطات والمحرمات التي تصادرها؟ إن الحرية مادة الثقافة، قبل أن تكون شرطها، وقبل أن تكون نتاجها. قد يكون اكثر ما يلزم لنهوض الثقافة في سوريا اليوم هو توسيع قاعدة النشاط الثقافي، أعني ازدياد عدد الكتاب والشعراء والنقاد والروائيين والباحثين.. من جهة، لكن أيضا التوسع نحو مواضيع وانشغالات ومعان جديدة من جهة أخرى. ولا ريب أن وفرة المنابر من صحف ومجلات ودور نشر ومراكز ثقافية ومسارح من شأنه أن يساعد في هذا الاتجاه، لكن ليس لنا أن نتذرع بعدم وفرتها لإرجاء مبادرات وجهود قد تفشل، لكن نجاحها محتمل دوما. كثيرا ما يكون الخوف من الفشل هو ذاته الخوف من النجاح. توسيع القاعدة مرغوب بحد ذاته لأنه يحرر الثقافة من إسارها النخبوي الضيق، ويمثل من ثم خطوة على طريق ديمقراطية الثقافة، لكنه ضروري ايضا لأن فرصة بروز أصوات وأعمال ممتازة أكبر كلما كانت قاعدة النشاط الثقافي أوسع. البناء الأعلى تلزمه قاعدة عريضة خلافا لبناء واطئ. نحتاج أيضا إلى هزة ثقافية قوية تحطم العادات الثقافية المستقرة، وتشاغب على التكريس والمثقفين المكرسين، إن في السلطة أو في المعارضة. لا ريب أن المثقفين المعارضين والمستقلين قد صانوا كرامة الثقافة في سوريا في عصر أهين فيه المجتمع والعمل والثقافة، وحافظوا على بصيص من النقد والاعتراض حين كان النقد والاعتراض مكلفان، ولا ريب أنه من الظلم لهم مقارنتهم بمثقفي السلطة أو البين بين، لكن التكريس هو التكريس. والحرية ليست إبدال تكريس بتكريس، بل نزع التكريس ومقاومة أي تكريس. ذلك أن التكريس يولد النزعة المحافظة المكتفية بما هو منجز، والراضية عن المكانة والموقع القائمين. قد يكون المرء معارضا سياسيا لكنه ينزع بدرجة تتناسب مع تكريسه إلى المحافظة الثقافية والتوجس من المغامرة والحذر من الشغب الثقافي. والدفاع عن المعارضين ملزم أخلاقيا حين يكونون في السجن أو مضطهدين مباشرة فقط. ما عدا ذلك ليس للمعارضة، وكاتب هذه السطور منها، امتياز أخلاقي يعصمها من النقد والمساءلة باسم المعايير ذاتها التي تحكم انتقاد السلطة ومساءلتها. قد نتساءل: السلطة في سوريا معادية للثقافة، فمن أين تكريس المثقفين؟ وقد يقال ايضا: يا حرام! يا ريت عندنا شيء من التكريس، يا ريت عندنا شوية حصانة للمثقفين، ولم مثل مصر أو لبنان (قبل استباحة دم إعلاميين لبنانيين في سياق سياسي محدد) أو دول الخليج! هذا صحيح بالفعل. فالسلطات العقيدية هي دائما ظلامية، والسلطة السورية من أشدها ظلامية وارتيابا بالمثقفين. لكن تكريس المثقفين لا يقتصر على السلطة ومنابر الإعلام والنشر رغم أهميتها الحاسمة. ثمة التكريس الحزبي، والتكريس الإيديولوجي، والأشيع في أيامنا التكريس الذاتي. والمثقف الذي يكرس ذاته يميل عموما إلى الثناء على نفسه والنيل من غيره، مساهما في تلويث الحياة الثقافية وتسميم أجوائها وبث عدم الثقة بين الفاعلين الثقافيين. والأهم من كل ذلك أن الثقافة بحد ذاتها، وبوصفها سلطة مستقلة نسبيا، منتجة للتكريس والنفوذ (هذا لا ينطبق على سوريا في ربع القرن الأخير من القرن العشرين حين كان أي ضابط أمن أفهم من أفهم مثقف؛ لكنه ينطبق بدرجة ما على السنوات الأخيرة بفضل مناخ عام أقل سعارا أمنيا، وبفضل الانترنت، وبلا شك بفضل تضحيات جيل سابق). وغالبا ما تنتهي نزعات انشقاقية ثقافية مناهضة للتكريس إلى إنتاج تكريسية جديدة. فالسلطة الثقافية، بحكم تكوينها ونوعية "الرساميل الرمزية" التي تعمل بها، أعصى على الديمقراطية من السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية. وليس ثمة ما يحد من استبدادها أكثر من توفر سلطات ومرجعيات ثقافية أخرى، وربما مكرسون آخرون. مكرسون آخرون؟ قد يبدو هذا خضوعا لمنطق التكريس باسم محاربته. ربما. لكن توهم التحرر الفوري والكامل من التكريس الثقافي هو نوع من العدمية التي قد تقود إلى تكريس أشد خطر، أعني على استيلاء البعض على سلطة نزع التكريس، وتكريس أنفسهم باسم محاربة التكريس. إن نزع التكريس الكامل يقتضي حرية كاملة، بالمعنى السياسي والقانوني للكلمة، لكن ايضا بالمعنى الثقافي: الحرية تجاه المطلقات جميعا، السياسية منها والدينية والوطنية. ذلك أن مناهضة التكريس لا تقف عند مناهضة المثقفين المكرسين بل تتعداه إلى القيم والأفكار المكرسة، إلى المقدسات المسورة بالتحريم والرهبة والخوف. كاتب هذه السطور ليس ميالا بذوقه الشخصي إلى الاستهتار بمقدسات الإيمان، لكن لا جدال في أننا في حاجة إلى تنظيم حضور المقدس في حياتنا السياسية والثقافية. التعثر بالمقدس في كل مكان يعسر الانطلاق الثقافي كمن يمشي في الوحل....هذا موضوع حساس وصعب. أعتقد أن واحدا من أهم أسباب الإخفاق في مقاربته بصورة ناضجة هو أن مواقف المثقفين حياله قصوى: إما استهتار طائش يتسبب بردود فعل عنيفة من الأجهزة الدينية، أو تسليم سلبي يترك لهذه الأجهزة سلطتها المطلقة دون مساءلة. تطرف المواقف هذا يعكس تطرف المواقع أو هامشية المثقفين الاجتماعية. وبدورها الهامشية هذه تتسبب في هامشية الثقافة اجتماعيا، أي ضعف أو حتى انقطاع تأثيرها على الحياة الاجتماعية والعامة. من الممكن أن نقاوم التكريس ونحرص على دور اجتماعي فعال في الوقت نفسه. بل إن الحرص على جمع الاثنين هو الذي ينقذ كل منهما. فالتمرد على التكريس دون دور اجتماعي قد يفضي إلى العدمية كما أشرت فوق، والتركيز على الدور الاجتماعي دون نقد ودون سخرية قد يفضي إلى الامتثالية. كيف يمكن الجمع بين الحريات الفكرية والدفاع عن المجتمع في الوقت نفسه؟ هذه مهمة جيل كامل، قد لا يكون جيلنا للأسف.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسطين وإسرائيل: اختيار شراكة مفروضة!
-
صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري: مقاربة نقدية
-
سوريا ولبنان: تاريخ هويتين أم هوية تاريخين؟
-
تخطيط لمراحل العلاقة العربية الغربية بعد الحرب العالمية الثا
...
-
الامبريالية، الشمولية، السلفية؛ وماذا بعد؟
-
غياث حبّاب
-
عام سوري قصير ومليء!
-
ريجيم، نظام، سلطة: تعليق لغوي سياسي
-
عودة الولايات المتحدة عن «الثورية الطفولية» إلى سياسة أكثر و
...
-
في أزمة الدكتاتوريات ومستقبل العمل الديمقراطي
-
مغزى سياسة -شارع ضد شارع-
-
الوطنية السورية: طرح المشكلة
-
من أجل جبهة ثقافية ضد الموت
-
من الداخل غير ممكن، ومن الخارج غير ديمقراطي؛ كيف التغيير إذن
...
-
السياسة الأميركية في -الشرق الأوسط-: من الاستقرار إلى الفوضى
...
-
في ذكرى خالد العظم: رائد القومية الاقتصادية في سوريا
-
الثالث المأوساوي أو فرص التركيب الوطني الديمقراطي
-
تمرين في التربية الشمولية
-
نزع مدنية المجتمعات يقوي التطرف والطائفية
-
بيان في نزع القداسة عن السياسة
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|