|
نحن والدين وخداع التأريخية
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5619 - 2017 / 8 / 24 - 06:36
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نحن والدين وخداع التأريخية
منذ أكثر من خمسة ألاف عام من عمر البشرية شاع الدين المدون في صحائف وقراطيس وكتب، ولم يعد هناك من وجود لفكرة لدين وتعاليمه التي تستمد من وجود الكاهن أو أجتهاداته الخاصة، بالرغم من أن كثير من الديانات السابقة كانت في بعض أجزاءها مدونة على منحوتات أو تشخيصات تصورية للألهة أو الأرباب أو حتى أنصاف الألهة والملوك والمحاربين، أو على رقم طينية أو منقوشة حجريا كجزء من منظومة التعبد والعبادة في ما يشبه التقنين الجزئي، ساعد التحول من النقش والنحت إلى الكتابة على ما متوفر من وسائلها في ضبط وتوحيد الأسس والنصوص الدينية وأتاح لها فرصة الأنتشار بين المعابد وأمكنة التعبد في صورية واحدة قلصت من دور الأختلافات المتعلقة بين النقل أو الأستحواذ المفرط عليها من قبل الكهنة ورؤوسهم الحاكمة، كما ساهمت هذه الأنتقالة ولو إلى مدى ما إلى ثبات الديانات المدونة والمكتوبة مع أنتشارها وأنتقالها من مجتمع إلى أخر. هكذا مثلا كان اليهود قبل السبي البابلي بأعتبار أن دينهم الموسوي هو أقدم ما عرف من الأديان المكتوبة تأريخيا، إلا أن واقعة السبي وأنتقال اليهود إلى العراق وبقائهم لفترة طويلة محرومين من صحفهم الأولى وأعتمادهم على الحافظة الشخصية لبعض الأحبار وعلمائهم مع تأثرهم بالديانة البابلية وسطوة التجبر الملكي عليهم بأعتبارهم أسارى، ساهم في ضياع الكثير مما كان مكتوبا ومدونا عن نسخ موسى وألواحه القديمة، وهكذا تسلل إلى الدين اليهودي الكثير مما وضع فيه أو أنتقل من حيث أما تطابق الفكرة أو تشابه الوقائع خاصة وأن بابل كانت مولد إبراهيم الخليل أبو الأنبياء وصاحب الصحف الأولى، والتي ما من شك هي الأخرى تعرضت للكثير من التبديل والتحريف نتيجة تبدل الملك والأمبراطوريات والغزو وسقوط مدن كانت تعد مراكز للتدين التوحيدي من قبل قوى منازعة ومنافسة، في الأخر وجد اليهود أنفسهم أمام خليط من الرواية التأريخية والأحداث التي تم تدوينها أو الأحتفاظ بها شفاهة ومع بقايا من شريعة موسى ليشكل ثنائي تأريخي ديني أمتزجت في الأسطورة مع الشرع الديني. وبحدود ما قبل ألفي عام تجددت الديانة اليهودية على يد أحد أنبياء بني إسرائيل أو هكذا يعد عيسى الموعود وبشارته القديمة ليعيد الكثير من قواعد الدين القديم وليخلص ما علق بها من شوائب الرواية التأريخية والأساطير، لكن مشكلة التدوين كانت إشكالية أخرى لم يتفق مؤرخي الدين ودارسيه على أن المسيح عيسى قد دون ما أنزل إليه أو ما أمره أن يبلغ الناس به، الأسباب التي تفسر ذلك أن ما واجهه كنبي من أذى وحرب من الكثير من الجهات الدينية والسلطوية وما كان يرقيه من عنت الأقوام التي عاش بها قد يكون السبب الرئيسي الذي لم يمنح الكتابة والتدوين الفرصة الكافية لجعل ذلك متاحا للمؤمنين، بعد غياب النبي قام تلامذته والبعض ممن كان يحمل أهداف مختلفة بتدوين الأنجيل وفقا لما كان يتناقل شفاها أو يمارس واقعا، لذا نجد هذا التفاوت بين الأناجيل التي تزعم كل منها أنها رسالة السماء للإنسان، إلا أن ورود بعض القضايا التتأريخية والأحداث اللاحقة بعد رحيل عيسى وقضايا خاصة بأقوال وأراء التلامذة نجزم معها أن الأنجيل الموجد الآن بين أيدينا ليس كل الرسالى العيسوية أو ليس هي تمام رسالة الرب للناس. بعد خمسة عقود ونيف ظهر النبي محمد في مكة مبشرا بدين جديد ودعوة لأعادة وضع قواعد الدين القديم مصححا ومصوبا للديانتين السابقتين في مجتمع بدوي أمي لا تتوفر به إمكانيات الكتابة والتدوين كما في العهدين السابقين، فلا مكة هي مجتمع الفراعنة وعلومهم ونبوغهم بالكتابة والتدوين ولا مجتمع فلسطين الذي كان جزأ من أمبراطورية عريقة تأريخيا في العلم والفلسفة والمعرفة خلا عن أن الكتابة كانت شبه متاحة للجميع، هذه الإشكالية تضعنا مرة أخرى أمام أحتمالات الخلط والمزج شئنا أم أبينا، ومع تطور ما يتلوه النبي على الناس وخاصة بعد الأنتقالة المحورية المهمة من مكة إلى المدينية ووجود الرسول في مجتمع أدمن الحفظ شفاها، ساهم إلى حد بعيد في الحفاظ على الإرث المكي من النصوص، هذا أضافة إلى ما فرضة من قانون تعليم أبناء الديانة الجديدة القراءة والكتابة على أسرى الحروب والمعارك، ولوجود قبائل يهودية في المدينة والطائف لها باع كثير في التدوين وصناعة أدواتها، ساعد على أنتشار سريع للقراءة والكتابة وإن كان أولا بما تفرضه واقع اللهجات القبلية قبل أن يجمع القرآن صورة واحدة للغة العربية الحديثة التي ولدت مع ولادة الدين الجديد وأعتبارها اللسان المبين. هنا عرف المسلمون أهمية الكتابة والتدوين الآني في حفظ نصوص دينهم خاصة وأن الكثير من الجيل الأول ممن كان يحمل في صدره إرث مكة وإرث الفترة الأولى من حياة المدينة قد غادر الحياة لأسباب عديدة، فقد حفظ بعض رجالات المسلمين الأوائل نصوصهم الدينية كما سمعوها من النبي في مصاحف خاصة بهم بقيت وإلى فترة ما تسمى زمن جمع القرأن في عهد الخلفاء هي المصدر الكتابي الوحيد الذي يرجعون إليه في التوثيق من النصوص أو حسم الأختلاف بالمفردات أو المقاطع النصية، في أواخر فترة حكم الخليفة الثاني وبداية عهد الثالث كان مشروع التدوين قد أكتمل كما هو اليوم بين يدينا، بعيدا عن المزاعم بفقدان نصوص أو زيادتها أو نقصانها أو طريقة القراءات التي عمق أختلافها بعض من ساهم في تشويش الفكرة والعقل الإسلامي تحت مسوغات أو علل وأسباب عديدة. قد يكون الإسلام هو الدين الوحيد الذي أحتفظ بالكثير من الأفكار من الديانتين القديميتين وزاد عليها مما عرف لا حقا بالدين الإسلامي، لذا فأن كثيرا من مؤرخي الأديان والمشتغلين بالمقارنات بين الديانات الإبراهيمة يشيرون إلى هناك نسخ وتطابق وأحيانا يسمونه سرقة أفكار أو أحداث ذكرتها الديانة اليهودية القديمة وحتى المسيحية من قبل الدين الإسلامي ويعيبون على المسلمين أن دينهم محاولة جديدة لكتابة دين يتلائم مع البيئة العربية ومجتمع الجزيرة، والحقيقة التي لا ينكرها القرآن ولا نبي الإسلام أن الدين من إبراهيم الخليل ولما وصل إليه أخيرا هو منظومة واحدة، وما الإسلام إلا أستكمالا لمشروع الدين الرسالي وتصحيحا وضبطا له، ما يحسب لهذا الدين أنه حافظ على جوهرية الركائز الأساسية مثلا في الشريعة الموسوية ومنها التوحيد والحساب والنبوة ورسم العبادات وعلاقة الإنسان بالسماء، مما يشكل مصداقية وتوحد مع أصل الشريعة دون أن يأت بما يخالف نهج الأديان السابقة أو يعارضها بالأساسيات. ولو كان الإسلام بصيغته التي دونت في القرأن كدين سماوي تختلف في أساسيات البناء في الفكرة الدينية عن المسيحية اليهودية، لقيل أن هذا الدين الجديد هو أختراع خارج منظومة ما جاء به الرسل والأنبياء من قبل، أو أنه محاولة لنسفها والتعمية على كون الدين جميعا من مصدر واحد وإن أختلفت الأزمنة أو الأمكنة إلا أن الروح الدينية هي المعول عليها في التفريق بين البدعة وبين إصالة الدين من حيث هو رسالة السماء، هنا نعود إلى إشكالية الخلط بين الديني والتأريخي خاصة مع أتفاق غالبية من درس الإسلام كحركة تأريخية وكدين حافظ على شكلية ووحدة نصوصه، أنه بقي عصيا على الأختراق أو هكذا هو واقع حاله محفوظا بنسخ متشابة لا فيها زيادة ولا نقص، ومع هذا الحال نجد اليوم المسلمين أشد أختلافا وتعارضا في التعاطي مع هذا الدين تعبدا وفهما وممارسة، حتى وصل أن البعض منه يتهم خصومه ممن لا يشاركونه في الإدراك والتعاطي بالكفر أو الخروج من الإسلام. الإشكالية التي وقع بها المسلمون لا تشبه الإشكاليات القديمة التي تعرض لها المجتمع اليهودي كوحدة، كما لم يتعرض لطريقة الأختلاف في تدوين الأناجيل مما تسبب في تفريق الديانة المسيحية إلى مذاهب وملل، الإشكالية مختلفة تماما وتعود في الجزء الغالب منها إلى ما دون على أنه سيرة وسنة النبي، والتي يؤمن غالبية المسلمين أنها الركن الثاني في بناء منظومتهم الدينية، لقد كا إيمان المسلمين بأن سنة النبي من قول أو فعل أو تقرير هي جزء من مجمل الدين وجزء من الرسالة، وهنا وقع المجتمع الإسلامي فريسة الروايات التأريخية وأختلافها بالدس أو الزيادة أو التحريف أو النقص أو حتى الكذب على رسول الله، لقد وقع المجتمع الإسلامي فريسة فكرة أن السنة تفسر القرآن وتوضحه وما لا يتوافق مع السنة فهو أما مفسوخ أو معطل أو ساقط العمل به، بدل قاعدة أن ما تعارض مع القرآن المدون من كل السنة أو يخالفه في الشكل والوجوهر هو الساقط الذي لا يعمل به، بأعتبار أن القرآن هو المعيار المدون والقياس المنطقي للرواية التأريخية ومدى ثبوتها أو سقوطها في العمل والعبد. لذا فإن ما يواجهه المسلمون منذ أربعة عشر قرنا ولليوم من أختلاف وتمزق مرده الرواية التأريخية وتوظيفها في أزمة العلاقة السياسية والسلطوية في المجتمع الإسلامي، وليس لأن القرآن المدون بين أيدينا فيه زيادة أو نقص أو تحريف أو إدخل ما ليس فيه كجزء منه، الأختلاف أذن مصدره شيوع الخبر التأريخي وأعتماد المسلمون القدامى على الواية الشفهية والذاكرة في الحفظ والتدوين لاحقا في القرن الثاني لرحيل النبي وغياب الطبقة الأولى والتي عاصرت زمن الرسالة وكانت من شواهد العصر، من هنا يتبين لنا أن لأعتماد المسلمين من السلف المتأخر على السنة والتي دونت لاحقا على أنها الصحيح مما تعاطى به الرسول كتجسيد لفكرة الدين وتقديمها على النص القرآني الموحد، هي الإشكالية الكبرى في الفكر الإسلامي والسبب الرئيس الذي أطاح بوحدة المعتقد واليقين، بأن ما جاء به الرسول من وحي السماء إنما هو الأساس الكلي والجمعي كمرشد لبيان الأختلاف أو التعارض بين اليقينيات والثوابت والممارسات التي إلحقت بالدين كضرورة.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقدمة ديواني الجديد ....... رسائل مهملة
-
التغيير من وجهة نظر فلسفية ح1
-
تعريف المقدس أستدلالا بالقصد المعنوي النصي
-
أنا رجل بلا .......
-
النداء الأخير لسباق الأحلام
-
في وحدة عالم المقدس الغيبي
-
رأي في وحدة الأسماء و(الصفات) ومكانتها في الفكرة الدينية
-
الشخصية العراقية بين التمرد والثورة مشروع بأنتظار القدر
-
إلى صديقي ذياب أل غلام وكل رفاقه وأصدقائه ومحبيه ومن شاركه ا
...
-
دور التنمية الأقتصادية و المال في بناء مجتمع إنساني
-
تحالفات جديدة أم إعادة انتاج التحالف القديم
-
الدين بين طبيعة العقل ووظيفة النقل طريقان للإدراك أم نتيجة و
...
-
في فهم الغيبي والحضوري
-
وحدة الجماهير المدنية والديمقراطية هي الطريق الأوحد لبناء دو
...
-
حقية المحمدية كما نقرأها في سلسلة دين الإسلام
-
الموقف المعرفي من حقيقة وجود الفروع في الدين
-
الأختلاف الفكري والفلسفي في مفهوم الوعي الفردي وعلاقته بالوع
...
-
هل لعب الفكر الديني دورا في التحولات الوجودية في عالم الإنسا
...
-
مفهوم أولي الأمر وجدل الأشتقاق اللغوي
-
المعيارية القياسية للتفريق بين منطق المحكم وشبهة المتشابه
المزيد.....
-
اللواء باقري: القوة البحرية هي المحرك الأساس للوحدة بين ايرا
...
-
الإمارات تكشف هوية مرتكبي جريمة قتل الحاخام اليهودي
-
المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
-
أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال
...
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
-
قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب
...
-
قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|