سعدون الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 5615 - 2017 / 8 / 20 - 00:19
المحور:
سيرة ذاتية
مُعاناةُ طالبٍ عراقيٍ مُغتربٍ و ذكرياتهُ
ما اقسى الغُربة, خاصةً عندما يصحو في نفسِكَ الحنينُ الى الحنينِ و الحنان. الحنينُ الى التي منحتك الحياة و الى الروحِ. الحنينُ الى الأهل و المنطقة و الناس و التواصل بين الناس, الحنين الى الذكرياتِ. في الغُربةِ, كُلُّ شيٍ حولكَ باردٌ و بلا روح. باردٌ مِثلَ برودةِ أوروبا.و تمُرُّ السنونَ و يتآكلُ العمر, و أنتَ تضيعُ في زحامِ هذا العالم المادي الكالح. نحنُ أحياءٌ مِثل أيِّ كائنٍ حيٍّ, نأكلُ و نشربُ و نسعى و نركضُ و نناضل و نسقط و نموتُ, مثل النمل و الزواحف. بلا روحٍ و لا طعم. لا يُغنيكَ عن الروحِ شيءٌ, لا المالُ يُغنيكَ و لا ملذّاتُ الحياةِ كُلِّها. كم حلِمتُ في سنواتِ العُمرِ الغابرةِ, و كم سعِدتُ و تونَّستُ. و لكن لو تعلم, كم عانيتُ و كم بكيتُ و كم قلِقتُ؟ يعتصرني الشوقُ و الحنينُ و الألم. اللهُ يعلمُ ذلكَ مثلما أنا اعلم. كُلَّما أذكرُ دموعَ والدتي و مُعاناتها و آلامَها, التي لا يعرفهُا إلا الله و هي, ورائي و بسببي. أذوبُ ألمآ. فأنا إنسانٌ رغم عصبيتي و سرعة غضبي و عنادي الذي أوصلني الى طريق الندم, أنبضُ بالأحاسيسِ المُرهفةِ التي لم و لن يُغيَّرها الدهر أبدآ. و وقفةُ والدتي, وقفةُ الرجولةِ و عزمِ الرجال. و هي تسندني خلف ظهري في لحظاتِ ضعفي و غِيابِ الوسيلة. عندما عُدتُّ ذاتَ مرّةٍ للبيتِ بعد ثلاثةِ أشهُرٍ أمضيتُها في دراسةِ اللغة الرومانية, و لم أُكمل بعد تِلكَ السنةَ الدراسية. قُلتُ لوالدتي, لا أُريدُ العودةَ ثانيةً, لأنكم لن تستطيعوا إحتمالَ تكاليفِ دراستي. فأجابتني بِكُلِّ عزيمةِ الرجال: عُد ياولدي و لا تتراجع, فيضحكُ الناسُ علينا و يشمت الشامتون. و الله لو إستدعى الأمرُ أن أقتطعَ لحمآ من لحمي, و أبيعهُ حتى تُكمِلَ مِشواركَ الذي إبتدأتهُ, فلن أتردد! هذا الموقف الشجاع, الذي وقَفَتهُ أُمي, تِلكَ المرأة القرويةِ البسيطة, في تِلكَ اللحظةِ الحاسِمةِ من مسيرةِ حياتي, كان حاسمآ جدآ في مواصلتي مشواري, بل قُلْ في مسيرةِ حياتي كُلِّها. و رغم إنَّ الأمرَ لم يصل الى درجةِ القطعِ, و هو لا شكَّ أمرٌ معنويٌّ, و لكن بعزيمةِ أهلِ العزم و التوفيق من الله, يصلُ المرأُ الى مُبتغاهِ و يطالُ الجِبالَ, رغم الصِعابِ الصِعاب ! و عندما عِدتُّ الى رومانيا, جلستُ أبكي في بوخارست, في محطَّةِ القطار, الذي سينقلني الى مدينة كلوج لأكمالِ دراستي في اللغة الرومانيةِ. كم بكيتُ, كُلّما كانت تحضُرني الذاكرةُ, و أرى أمامي دموعَ والدي التي تودِّعني في كُلِّ مرةٍ أودِّعُ الأهلَ في سفري. أذكرُ مرّةً, عندما جِئتُ الى الأهلِ من رومانيا في العُطلةِ الصيفيةِ. و كُنتُ قد إجتزتُ الصف الثاني في كُلّيةِ الطبِّ. كان ذلك صيف سنة 1983. و بينما كُنتُ في بغداد, أُراجعُ الدوائرَ الرسميةَ ذات الشأن في قوانةِ مُعاملاتِ السفر, أردتُ إن أُفاجىء والديَّ بمُفاجئةٍ سارَّةٍ. و ذلك, بأن أُصرِّفَ ألفَ دولارٍ من مُدّخراتي, و أُحوِّلُها الى الدنانير العراقية. و أُعطيها لهم. و كُنتُ أعرفُ بأنَّ هذا الأمرَ ممنوعٌ, و لكنني لم أكن أعرف, بأنَّهُ كان يُعتبرُ جريمةً كُبرى في زمن صدّام. و وَصَفَ ليَ العارفون منطقة باب الشرقي, عِندَ الأخوةِ المصريين. إستأجرتُ غرفةً في أحدِ فنادق باب الشرقي, ثم نزلتُ الى الأسواق الُمجاورةِ في المنطقة. وقفتُ أمام دُكانٍ يُديرهُ رجُلٌ مصريٌ, و سألتهُ إذا ما كان يُغيِّر عُملَّة, فأعتذرَ. و بعدَ مسافةٍ, وقفتُ بالقربِ من مصريٍّ ثانٍ يُديرُ دُكانآ آخرآ. فوافقَ على الأمر, و راح يتفاوضُ معي على سِعرِ التصريف, حتى إطمأنيتُ لهُ. فقالَ لي إنتظرني هُنا, و سأعودُ بعد بضعِ دقائقٍ. ثُمَّ ما لبِثَ أن عادَ, و خاطبني همسآ, قائلآ: يجب أن نذهب الى مستودعِ المحلِّ من الخلف. إصطحبتهُ, ففتح بابَ غُرفةٍ, فرأيتُ فيها إمرأةً بيضاء اللون جالِسةً على منضدةٍ و أمامها مكتب مُتواضع. هذهِ المرأةُ رُبَّما كانت في العقدِ الرابع من العُمر, و لكِّنها كانت سمينةً لدرجةِ إنني تصوَّرتها كأنَّها فيلٌ. قالت لي: هل تُريد أن تُصرّف ألف دولار؟ قُلتُ نعم. قالت: السعرُ, كما أخبركَ بِهِ العامل؟ قُلتُ نعم. قالت: أرني الدولارات. فأخرجتُ الدولارات من جيبي. فقالت: حسنآ. ضع الفلوس في جيبك, و إنتظرني هنا. سأذهبُ لأجلب لك الدنانير من شِقّتي. و قالت للعامل المصري: أبقى أنتَ معهُ يا فُلان. ثُمَّ قامت, و فتحت بابآ خلفيآ و إختفت. و إنتظرتُ وقتآ, رُبَّما ثلث الساعة أو أكثر, حتى إنني بدأتُ أشعرُ بالقلق. و ما لبِثت المرأةُ " الفيل " أن فتحت نفسَ البابِ, و أطلَّت بإبتِسامةٍ ماكرةٍ, و هي تحملُ كِيسآ أخرجت مِنهُ مبلغآ من الدنانير و وضعتها أمامي. ثُمَّ قالت لي: خذ و عُد الفلوس. و أمسكتُ حِزمة الفلوس, و كانت من الدنانير. و عدَّيت المبلغ. بعد ذلكَ أخرجتُ الدولارات, و بدأتُ أعد: مية إثنين, و إذا بالباب الخارجي المُغلق, يُفتح فجأةً و بِعُنف. و يدخل منهُ رجُلان لم أر منظرهُما جيدآ لحظتها. و لكِنَّ أحدهما أطبق على رقبتي بذراعهِ من الخلفِ بعُنف, بينما صرخ الآخر بوجهي: أمِنْ, لا تتحرّك من مكانك. ثم جمعَ الدولارات التي سقطت من يدي من هول الموقف و وضعها في الكيس مع الدنانير. و أعطى الأوامرَ لزميلهِ الذي لا زال يخنقني بذراعهِ القوية: جِيبَه لِلسيارة. فراح رجلُ الأمن يجُرني بعُنف, ثُمَّ, فتح لهُ زميلهُ بابَ السيارةِ الخلفي, فأمراني بالدخول في السيارة. جلس أحدهما على يميني و الآخر على يساري. و إنطلقت بِنا السيارةُ التي كان يقودها شخصٌ آخر. بصراحة, فأنا حالي حالُ كُلِّ العراقيين, نكرهُ دوائرَ الأمنِ و منتسبيها, الذين كانوا يدَ النظامِ المُرعبة. فما بالُكَ إذا ما وقعتَ ضحيةً في أيديهم؟ أقولُ لكم بصراحة, أنا كُنتُ في تلكَ اللحظةِ غائِبآ أو مُغيّبآ عن كُلِّ ما يحصل معي, كُنتُ أرتجِفُ خوفآ. بعد وقتٍ قصير, لستُ ادري عنهُ شيئآ, رأيتُ سياجآ عاليآ, و مدخلآ عريضآ مغلقآ بِبوابةٍ تعلو إرتفاعآ بقدرِ السياج. فُتِحتْ البواّبةُ العالية ثُمَّ دخلت السيارة. أُغلِقتْ البوابةُ, فُتِحتْ أبوابُ السيارةِ, فأمرني أحدهم بالخروج. و سارَ أحدُ الرجُلين اللذين جاءا بي, أمامي, و الآخرُ خلفي. و أمراني بالسير معهُما. فتح الأولُ بابَ غُرفةٍ يتوسّطها مكتبٌ أنيق, و يجلسُ خلفهُ شابٌ طويل القامة, حسَن المنظر و الهِندام. راقبتهُ و هو ينهضُ من مكانهِ و يتقدّمُ نحوي. و دونَ أي ِّ كلامٍ, صفعني صفعةً قويةً على خدّي اليمين, ثُمَّ ألحقها بثانيةٍ على خدّي اليسار. ثُمَّ عاد الى مكانهِ, و خاطبني بِحِدةٍ: ما أسمُك؟ وضع رجلُ الأمن كيس النقود أمام الضابط و خرج هو و زميلهُ. نظر الضابط في وجهي بِحِدةٍ, ثُمَّ قالَ لي: إعطني هويتك. فأعطيتهُ, جوازي و بقيّةُ مُستمسكاتي الشخصية و الدراسية. ثُمَّ خاطبني بِحدةٍ أيضآ و هو يتصفَّحُ جوازي: إحكي لي موضوعك من الألفِ الى الياء, و إلا و الله ما راح تشوف عينك النور الى الأبد. أقولُ و أنا أُقسِمُ بالله, هذهِ أول مرّة و آخر مرّة, يضربني بها رجلُ أمنٍ أو شرطة, في حياتي. سِواء أ كانَ ذلك في العراق أو في أيِّ مكانٍ في العالم. و أنا لم أُسجن و لو لِساعةٍ واحدةٍ طيلةَ حياتي, و الحمدُ للهِ. ثُمَّ إنني إنسانٌ مُسالِمٌ جِدآ و أخافُ ربي, و لم أُأذي بشرآ أو حيوانآ أو حجرآ قط, و لم أعتدِ على حقوق أحدٍ و لم أسرق مالَ أحد. كُنتُ دائمآ, أنا الذي يُسرق و أنا الذي يُعتدى عليهِ. و دائِمآ كُنتُ أنا المُدعي و لستُ المُدّعى عليهِ, و خاصةً مع اللصوص, و ما أكثرهم في هذهِ البلاد!! الحمدُ لله, على كُلِّ حال. المُهم, في دائرةِ الأمنِ تِلكَ, كُنتُ ساعتها خائفآ جدآ و أنا أقفُ أمامَ ضابطِ الأمنِ. حكيتُ لهُ القصة كما هي. فأجابني قائلآ: إقرأ السلام, على الطب و كُلّية الطب و مُستقبلُكَ, سنُحيلُكَ الى محكمة الثورة " و تروح دفن الى الأبد ". لستُ أدري, كيف تمالكتُ نفسي, و قلتُ لهُ: أنا أخطأتُ دون قصدٍ أو معرفة. و على كُلِّ حالٍ, فأنا أعترفُ بخطئي. و إذا كان هذا هو القانون, فلا حولَ لي و لا قوَّة. و لكن سيموتُ أبي و ستموتُ أُمي بسببي و سيتركونَ وراءهم أطفالآ يتامى لا مُعيلَ لهم. هذا الكلام, رُبَّما كان لهُ تأثيرآ ما على الضابط. إذ بعد بعض الأسئِلةِ الحادّةِ, حول موضوع تصريف العُملة الصعبة. و إنَّ مِثلَ هذا الفِعل, يُعتبرُ جريمةً يُرسلُ مُرتكِبُها الى محكمةِ الثورة. أصبح الرجلُ أكثر هدوءآ بأسئِلتهِ, خاصةً بعد أنْ نادى أحدَ رجالهِ و طلبَ منهُ تدقيق أسمي في السِجِلاّت. و الذي عاد لهُ بعد بعض الوقت و نفى لهُ أمامي عن وجودِ أسمي في سِجِلاّتهم. و راح يسألني عن دراستي و ضروف الحياة في الخارج. و لقد إكتشفتُ أمامي إنسانآ مُثقفآ, من خلالِ ما يملكهُ من معلوماتٍ و إسلوبهِ في إنتقاء الكلمات. و هذا الأمر هو عكس ما نعرفهُ عن مُنتسبي الأمن. ثُمَّ أضافَ الضابط, بأَنهُ سيعفو عني هذهِ المرّة, و لكنَّهُ أقسمَ بِأنَّهُ لن يكونَ ذلكَ في المرّةِ القادمة, لأنَّهُ ستكون فيها نهايتي. أعطاني الدولارات و قالَ لي عدّها. شكرتهُ على تَفَهُمهِ لأمري. و قلتُ لهُ: سيُجازيك الله خيرآ, عن عفوكَ عنّي, فأنا أراكَ إبنَ حلال.. كُنتُ أُدركُ جيدآ, بأنَّ إحالتي الى محكمة الثورة, تعني نهايتي و قد تعني الإعدام. و في أحسن الأحوال, السجن و التعذيب, و فقدان الدراسةِ الى الأبد. و رُبَّما سأخرجُ مُعاقآ من شِّدةِ التعذيب. و نادى الضابطُ أحدهم لِيصطحبني الى خارجِ الدائرة. لقد شعرتُ عند خروجي من دائرة الأمن تلكَ, بأنني قد وُلِدتُ من جديد. و كُنتُ لا زلتُ في حالةٍ من الصدمةٍ و الذهول. و لم أنم ليلتها, و كُنتُ أرتجفُ بين وقتٍ و آخر. إذ كان شريطُ تلكَ الواقعةِ السوداء لا يُبارحُ رأسي. و لقد إكتشفتُ بعدَ حينٍ, شخصآ غريبآ يجلسُ قُربَ بابِ غُرفتي و يُراقبني بشكلٍ غير طبيعي. رأيتهُ عندما خرجتُ للحَمّام. ثم بعدَ ساعةٍ خرجتُ الى الحمّامِ ثانيةً, فوجدتُ نفسَ هذا الشخص, يجلسُ على كُرسيٍّ بالقُربِ من بابِ غرفتي. مِمّا زاد خوفي و رعبي و قلقي, من أن أُعتقل ثانيةً. و لقد نَدِمتَ بأنني لم أُسافر في ذلكَ المساء الى الرفاعي. و عندما إستيقضتُ في الصباح الباكر, وجدتُ نفسَ هذا الشخص, يجلسُ في مكانهِ قُبالةَ غرفتي, فشعرتُ بالرُعب. إذ كان ينظرُ لي بعينين يتطايرُ منهما الشر. و عندما ذهبتُ الى الحمّام رأيتهُ يقف قرب الباب. كُنتُ أراهُ خلفي في مرآة المغسلة. كُنتُ خائفآ جدآ و كُنتُ أُحاولُ أن أُخفي حالتي عن الناظرين. فقرّرتُ أن أخرجَ بهدوءٍ من الفندق, وأن أُسافرَ فورآ الى الرفاعي. بالرغمِ من إنني كُنتُ أنوي إكمال مُعاملاتِ سفري في بغداد, و ذلك خوفآ من إعتقالي ثانيةً. لقد تابعني رجلُ الأمنِ ذلك مِثلَ خيالي عن قُربٍ, من باب الشرقي و حتى موقف سيارات النهضة. و عندما جلستُ في مقعدي في حافلةِ رُكّاب مدينة الرفاعي, رأيتهُ يقفُ في مكانٍ ما و يُراقب الحافلة حتىَ إنطلقت السيارة. و لا شكَّ بأنَّهُ لم يكن مُتتَّبِعآ سريّآ, بل تمّ إرسالهُ لأراهُ جيدآ و كي يزرع الرُعبَ في نفسي. و إلا فليس من المعقولِ أن يكونَ رجالُ الأمنِ بهذا المستوى من السذاجةِ و التفاهةِ في مُراقبةِ الناس. و من يومها لم أتجوّل في منطقة باب الشرقي قط. و كانت تلكَ الحادِثةِ المُخيفةِ, هي أول مرَّةٍ و آخر مرَّةٍ, أُغيِّرَ فيها الدولارات الى الدنانير أو بالعكس بالسوقِ السوداء, في العراق. طبعآ, لا يحتاج الأمر الى توضيحٍ, بِأنَّ ذلكَ المصري و المرأةَ " الفيل " معهُ, كانا يشتغلان مع الأمن, رُبَّما إتِقاءآ للشرِّ و كي يعيشا بسلام أو رُبَّما عن قناعةٍ. و لم يكونا هما حالةً مُنفرِدةً في العِراق في زمنِ صدّام. إذ يُقالُ؛ بِأنّ ما يُقارب 25% من العراقيين على الأقل, كانوا يخدمون أجهزةَ نظام صدّام الإجرامية, بشكلٍ أو بآخر, و ذلك إتقاءآ لشرِّهم. و على ما يبدو فإنَّ الدنانيرالتي أعطتني إياها المرأةُ الفيل, كانت على الأغلب من ضابطِ الأمنِ ذلك. أنا هُنا لم أحكي هذهِ الحكاية, إلاّ لأروي لكم ما حدث مع والدي فيما بعد بِسببها و بسببي. عِدتُّ في اليوم التالي الى بغداد لإكمالِ مُعاملاتي. و لقد إستدعى الأمرُ أن أبيتَ في بغداد ليلةً كي أستمرُّ في مراجعةِ الدوائر الرسمية. و لم أكن قد أخبرتُ الأهلُ بأنني سأبقى ليلةً في بغداد. كما لم يكن في الإمكان إخبارهم, إذ كان أهلي يسكنونَ في القرية. و بسببِ ما حدث لي معَ الأمن قبل يوم, لم ينم والديَ ليلتهم. و في الصباح الباكر, كان والدي بصحبةِ أحدِ أشقائي, في طريقهِ بسيارةِ النقل الى بغداد, كي يبحثُ عني. و ذلكَ ظنّآ مِنهُ بِأنني قد أُعتِقُلتُ ثانيةً من قِبلِ الأمن. و راحِ والدي و هو يبكي, يبحثُ عني في مراكز الشرطة, و دوائر الأمن في منطقةِ باب الشرقي. بينما كُنتُ أنا أدورُ بين الدوائرِ لإكمالِ معاملة التجنيد أو البعثات, كي يُسمحُ لي بالسفر من العراق الى بلدِ الدراسة. و في المساء عاد والدي و أخي يلُفَّهما الحزن, فوجداني قد سبقتهما الى البيت. ففرحنا و شكرنا الله على السلامة. و في آخرِ مرّةٍ, جِئتُ فيها الى العراق, كان ذلك في مُنتصفِ الشهر الأخير من سنةِ 1986. أذكر كيفَ كُنا نجلسُ ليلة نهاية سنة 1986/ 1987 في البيت, أنا و الأهل, حيث يلُفُنا الحزن. ذلك إنّ أوراق سفري التي سلَّمتُها لمُديريةِ الأمن في قضاء الرفاعي, و ذلكَ للحصولِ على الموافقةِ التي بدونها لا يمكُنني الحصولِ على موافقةِ دائرة التجنيد و البعثات و الجوازات, لا زالت عند الأمن مُنذُ إسبوعين دون جواب. و بالتالي لا يمكنني مُغادرةِ العراق. و كان المُعتاد أن تأتي موافقةُ الأمنِ خلالَ يومٍ أو يومين. قُلتُ لِلأهلِ ساعتها, بأنني سوف لن أعود ثانيةً الى العراق, فزادَ حزنهم حُزنآ. كُنّا في حالةٍ يُرثى إليها. إذ إن الموضوع ليس موضوع تأخير سفري, خاصةً و إنَّهُ لم يبق لإمتحاناتِ الفصلِ الأولِ في الكُليةِ, إلا أقلُّ من ثلاثةِ أسابيع, كما لم يبقَ لي للتَخَرُّجِ من كُلِيةِ الطبِ, إلا الفصل الدراسي الثاني, بل إنَّ الأمرَ هو ما تُخفيهِ دائرةُ الأمنِ من خفايا, قد أروحُ فيها في ألفِ داهيةٍ. و لا يبقى لا مُستقبلٌ و لا طِبٌّ, بل رُبَّما ستَحِلُّ عليَّ و على أهلي المصائبُ. خاصةً, و إنني رُبَّما كُنتُ قد أخطأتُ في بعضِ الأمور, التي قد لا تُرضي عيونَ النظام في رومانيا, بينما كان أبناءُ الحرامِ من كُتّابِ التقاريرِ و الحاقدينَ الحاسدين, لا يرحمون أحدآ. إضافةً لتقاريرِ الداخل, و ذكريات الماضي. كما سأشرحُ ذلكَ في مكان إخرٍ. و في اليوم التالي, و بينما كُنتُ أتمشّى بدونِ هدفٍ معَ أخي عادل, في الشارعِ الرئيسي المُحاذي للغراف في مدينةِ الرفاعي, و إذا بِأخي يُفاجئني بالقولِ؛ نسيتُ أن أخبركَ بِأنَّ فُلانة " زميلة سابقة ", ألحَّتْ بأنَّهُ لابُدَّ أن تَمُرَّ بها عندما تأتي الى العراق, تُريدُ أن تُسَلِّمْ لك, و عندها كلامٌ تُريدُ أنْ تقولهُ لكَ. فأجبتهُ بِبُرودٍ: آنَه بيا حال و يني وَّ وَينهَ. ثُمَّ قالَ لي؛ كما طلبت منّي أن أعطيها عنوانكَ و رقم تلفونكَ . فقُلتُ لهُ: لا تُعطيها شيء. و أقولها لِله, بِأنني كُنتُ أحلمُ أن يُربطني اللهُ بهذهِ الإنسانةِ المُحترمةِ الطيبة, برابطٍ ما على سُنةِ الله و رسولهِ. كُنتُ أحلمُ بها. و لكِنَّي كُنتُ لحظتها في حالةٍ نفسيةٍ يُرثى لها. أمضيتُ حياتي كُلَّها, و أنا أُضيِّعُ الفُرصَ المصيريةَ. مئاتُ الفرصِ أضعتها, واحدةً تلوَ الأُخرى لغبائي. فلم أحصد سِوى الندم, و ما الحياة إلا الفُرص!؟. و في مُحاولةٍ مِنهُ لِتلطيفِ الأجواء, إستطردَ أخي بالقولِ, بِأنَّهُ قد ظهرَ في الساحةِ الفنيةِ مُغني جديد, بِأُغنيةٍ جميلةٍ إشتهرت بين الناس, يقولُ فِيها: " مراسيل آنهَ وديت مراسيل و لا مرّت على البيت مراسيل. ييُومَّهَ آنهَ أحبهم, شكد قاسي كلبهم! "
و بعدَ أكثرِ من الإسبوعين من الإنتظارِ, أُفرِجَ عن مُعاملتي من دائرةِ الأمنِ البغيضةِ, دون أن يقولوا لي شيئآ عن سببِ هذا التأخير. كما أنا لم أسألهم أيَّ شيءٍ, بل شكرتهم. و تنفّستُ الصعداءَ, و أنا أخرجُ مِن بابِ هذهِ الدائرةِ المشؤمةِ. و لم يبقَ لي سِوى إسبوعٍ للسفرِ. إذ سابقتُ فيها الريح, كي أُنهي مُعاملاتي. هذهِ المُعاملات, كانت تتكرَّرُ في كُلِّ مرةٍ يزور العراق فيها, طالبُ عِلمٍ مُغترب في عهدِ نظام البعث, أو أيُّ مُغتربٍ يعيشُ خارجِ العراق!! إذ تضع مُعاملاتكَ أولآ عند مديريةِ أمن المنطقة لتأشيرها. بعد الحصول على موافقة الأمن, تذهب للحصولِ على موافقةِ مديريةِ البعثات في شارع السعدون. بعدها تعود الى مدينتك و تذهب الى مديرية التجنيد فيها, و التي بدورها ستُرسلُكَ بِكتابٍ الى مديريةِ التجنيد العامَّة في باب المُعظَّم للحصولِ على موافقتها. و بعد إنتظارٍ قد يطول, تعود الى مدينتكَ ثانيةً, لمراجعةِ مديريةِ التجنيد فيها ثانيةً, و ذلك لتأشيرِ صفحتكَ و إعطاءك الموافقة النهائية. عندها تستطيع الذهاب الى مديريةِ جوازات المُحافظة, بِكُلِّ الموافقاتِ السابقةِ, كي يتّمُ منحكَ موافقة السفر و تأشيرِ جوازك. و كي يُسمح لكَ بِمُغادرةِ العراق الى بلدِ الدراسةِ فقط. هكذا تكتب مديرية الجوازات في جوازِ السفر. و هكذا, فعندما تنوي أن تزور العراق, عليكَ أن تعرف, بأنك ستُمضي إسبوعآ أو إسبوعين في المُراجعات. و هكذا فلقد أمضيتُ سفرتي تلكَ كُلَّها بالخوف و القلق و سباق الزمن في المراجعات...
نحنُ المُغتربون, كُنّا نعيشُ حالةَ القلقِ الأمني, حتى في خارج العراق أيضآ. سأروي لكم مثلآ و احدآ على هذا القلق و الرعب الأمني. دعكَ من المُخبرين و تقاريرهم, سأحكي عن ذلك في وقتٍ إخر. ذات مرَّةٍ زار مدينتي تيمشوارة, سفيرُ العراق في يوغسلافيا. كان ذلك سنة 1984. إذ إنَّ مدينة بلغراد عاصمة يوغسلافيا قريبةً جدآ من تيمشوارة. و كُنّا نحن العراقيون ندخل الى يوغسلافيا, متى نشاء, بدونِ فيزة. كانت شرطةُ الحدودِ اليوغسلافية, لا تضع حتى ختم تأشيرة الدخول أو الخروج في جوازات العراقيين. طبعآ, كُنا نحصلُ أيضآ على الفيز بسرعةٍ من سفاراتِ الدول الأوربية الأخرى, الشرقيةِ منها و الغربية, عند رغبتنا بزيارةِ أيٍّ منها. بينما كان الناسُ في الدولِ الإشتراكيةِ مُحاصرين في كِتلتهم الشرقية. كانت علاقات العراق و يوغسلافيا تيتو, مُمَّيزةً جدآ. و كُنّا نحن نذهب الى يوغسلافيا للتسوّق في بلغراد بين فترةٍ و أخرى, أو نُسافرُ عن طريقها الى بغداد, بدلآ من السفرِ الى بوخارست البعيدة عنّا. و ذات مرَّةٍ كُنت مُسافرآ الى العراق عن طريق بلغراد. فنزلتُ من القطار قرب الحدود اليوغسلافية الرومانية, داخل يوغسلافيا. و ذلك لتناولِ وجبةٍ في البوفيت. و عندما إنتهيتُ, إكتشفتُ إنَّ القطارَ قد غادرَ المحطّة. فإستأجرتُ سيارةَ أُجرة لتُوصلني الى محطةِ القطار الدولية في بلغراد. و في محطة بلغراد وجدت حقائبي جميعها في مكانها, بينما كان القطار فارغآ. هذا كان من فضائلِ الشيوعية. إذ كانتَ الشيوعية قد دجَّنتْ الناس على الطريق المُستقيم. أمّا اليوم و في تلكَ الدول, فالناس أصبحوا يسرقونَ " الكحلَ من العين ". المهم, أعود لحكايتي مع السفير العراقي. أبلغني الزميل رئيس الإتحاد الوطني أن أصطحبَ السفير من منطقةِ الأقسام الطلابية القربية من كُلِّيات الهندسة و أن آتي بهِ الى القسم الطلابي التابع لكُلِّيةِ الطب. و لقد أراد السفير أن نقطع تلكَ المسافة مشيآ على الأقدام, ليرى بعض الأماكنِ في المدينة بسهولةٍ. و كُنتُ أُدردشُ مع السيد السفيرطيلة الطريق. و في لحظةٍ ما, فاجئني السفير بسؤالٍ مُعتادٍ جدآ, و ليس فيهِ أيُّ شيءٍ يُثيرُ حساسيةً ما أو أمرآ محذورآ. إذ سألني قائلآ: من هي الأجمل بنظرك مدينة الناصرية أو مدينة تيمشوارة؟ فأجبتهُ بِشكلٍ عفويٍ و بسذاجةِ طفلٍ: تيمشواره طبعآ. و إذا بالرجل ينتفض بوجهي, و يتحوّل من إنسانٍ لطيفٍ و وديٍّ ومُثقف الى وحشٍ كاسر. إذ راح يرتعدُ و ينظرُ لي بغضبٍ و يُهدِّدُ و يتوعدُّ: تيمشوارة أجمل طبعآ, ها... ها ؟؟ بسيطة أنهَ أراويك شلون تيمشوارة أجمل. بسرعة تبيعون وطنكم. بسيطة... بسيطة... و عبثآ حاولتُ الإعتذار و تلطيف الموقف. و هناك و عندما وصلنا الى القسم الطلابي, إستقبلنا رئيس الإتحاد, الذي فوجىء بوجهِ السفير المُغبّر. ثُّمَ لمحني بنظرةٍ, فلاحظ إصفرار وجهي و العرق يتصبَّبُ من وجهي, فأدركَ إنَّ أمرآ ما قد حدث. و في أولِ فرصةٍ, إختليتُ بهِ, و شرحتُ لهُ ما حدث. فقالَ لي ما كان لازم تقول هكذا. فرجوتهُ أن يبذلَ كُلَّ جهودهِ " لِلفلفةِ " الموضوع. و بعدَ جهودٍ مُضنيةٍ من قِبلهِ و من قِبلِ زميلٍ آخر مع السيد السفير, و عدهم هوَ وعدَ شرف, بِأنَّهُ سيغُضُّ النظر عن ذلكَ الموضوع. و كُنتُ جالسآ في المجلس في تلكَ الأمُسية و بوجودِ السفير, و لم أنطق بكلمة. طبعآ, بالنسبةِ لنا نحنُ المبعوثين, كانت السفارات العراقية مِثلِ المشيمةِ للجنين. إذ كانت تصلنا جميع مُخصصاتنا عن طريق السفارة. فإذا قطعت عنَّا السفارة المُخصّصات, سنضطَّرُ للعودةِ للعراق, ليرسلوا جلودنا للدّباغ, أو ننهزمُ لدولةٍ أخرى, فيفترِسُ النظام ذوينا. طبعآ ذلك التصرُّف غير اللائق و غير الحضاري من قِبلِ ذلك السفير, هو دليلٌ قاطع لا يقبلُ الشك, بِأنَّ ذلكَ السفير لم يكُن إلا ضابطَ مُخابراتٍ, بغطاءِ سفير كقناعٍ. طبعآ, حتى زيارة السفير تلكَ, كانت تُثيرُ علاماتِ إستفهامٍ كثيرةٍ. أنا لم تكُن لي, لا ناقةٌ فيها و لا جملْ. لا شكَّ إنَّهُ كان هناكَ مَن يعرفُ من بين الزملاء! الله كفانا شرَّ هذا السفير و شرَّ نظامهِ المُرعب. طبعآ هذهِ ليست أولَ مرَّةٍ و لا آخرَ مرَّةٍ, يوقعني فيها لساني في التهلكة. ذات مرَّةٍ كان المُدرِّسُ يشرحُ لنا, بإنَّ حزب البعث هو أقوى الأحزاب في السودان. فقاطعتهُ بالقول: و لكن إستاذ و حسب معلوماتي, فإنَّ الحزب الشيوعي هو الحزب الأقوى في السودان. فأحمرَّ وجه الإستاذ. و ضربَ قطعة الطباشير على السبورة, فتكهربَ الجوُّ بالصف. ثُمَّ التفتَ ليَ ذلكَ الإستاذ و صفعني على وجهي. و ترك الصف و أنهى الحصة. و بينما بقيتُ أنا جالسآ لوحدي في الصف, راح زملائي يتندَّرون في الساحةِ بما حدث.
بالنسبةِ لِلعِلاقاتِ الإنسانيةِ, فلم تكُن العلاقات بين الطلبة العراقيين المُغتربين وديةً بحق, رغم كُلِّ المظاهرِ التي تُغري الناظر البعيد, بأنَّنا كُنّا كتلةً واحدة. و لكن الأمر هو عبارةٌ عن تجميعٍ قصريٍ لنا من قِبلِ وكلاء النظام. إضافةً للرعبِ و الخوف من النظام في نفوسِنا. كان كُلُّ واحدٍ مِنّا يخشى من الثاني, تمامآ كما هو الحال في العراق. إذ كُنّا نجتمعُ نحنُ العراقيون في تيمشوارة, للتحضير لِلأحتفالات التي كُنّا نُقيمها في المناسبات الوطنية, و من ثُمّ في إقامتها. و بعد سنة 1991, إنفرط عقدُ هذهِ العِلاقة مع النظام, و بالتالي مع بعضنا البعض. و لكن كانت هناك بعض الصداقات الشخصية أو التكتُلات المناطقية. و من أهم تلكَ التكتُلات الحقيقية بين الطلبة العراقيين, تكتُّل الأخوة من المنطقة الغربية. إذ كُنا نمزح معهم و نقولُ لهم: دولة الرمادي أو دولة الدليم المُستقلة. كانوا حقآ على قلبٍ واحد. ينصرُ بعضهم بعضآ في السرّاء و الضرّاء. و الطريف, إنَّ مجموعتهم التي كانت في فترةِ دراستي في الكُلِّية, كانت تدرس في الإختصاصات الهندسية. و كانوا يسكنون في غُرفٍ مُتجاورة في نفسِ القِسم الداخلي. لهم أسرارهم فيما بينهم و يدرسون معآ. و يُمكن القول, بأنهم كانوا الوحيدين من بين كُلِّ العراقيين في تيمشوارة, أصدقاءآ حقيقين لِبعضهم البعض. و كانوا شبابآ مُهذّبين و ناضجين, بصورةٍ عامَّة. أما العِلاقات بين بقيةِ العراقيين, فقد كانت تتصف بالزيف و الحذر. و من سوءِ حظي أنا, أن ألتقي, و منذُ اليوم الأول, بصعلوكٍ سيءِ الأخلاقِ و التربية. و لسوء الحظ أيضآ, فإنني سكنتُ معهُ معظمَ سنوات الدراسةِ في نفسِ الغُرفة. و كُنّا أنا و هو العراقيَّين الوحيدين بنفس المرحلة الدراسية في تيمشوارة. كُنّا قد تعارفنا في العراق, و جِئنا معآ الى رومانيا مع زملاءٍ آخرين. في السنة الأولى التي درسنا فيها اللغة في كلوج نابوكا, سكنّا معآ طواعيةً. و بعد إنتهاء سنة اللغة التحضيرية, إخترتُ مدينة تيمشوارة لدراسةِ الطبِّ فيها. و لقد كُنتُ مُصمِّمآ للدراسةِ فيها. إذ كتبت في جميع الإختيارات؛ تيمشوارة... تيمشوارة. فإكتشفتُ إنّ ذلك الحقير, قد إختارَ هوَ أيضآ, مدينة تيمشوارة! بينما إختار الآخرون بوخارست العاصِمة. و كانَ منهم كاظم و مؤيد من الناصرية. و عبدالرحمن من مدينة الثورة. سأكتب عنهم في مكانٍ آخر. و في تيمشوارة أجبروني أن نسكن بنفس الغرفة مع ذلك " ...", رغم محاولاتي المُتكرِّرةِ لتغيير مكان سكني. كنت أنا و هذا "... " على عِلاقةٍ سيئةٍ دائمآ و في شِجارٍ دائم. كان سيءَ الطِباع, و كاتبَ تقارير من الدرجة الأولى, و كذّابآ و نَمّامآ. و كان يتصرّفُ بإسلوبٍ تافهٍ جدآ و صبياني. كان يتباهى بلقبهِ الثُنائي. أذ كان يكتب إسمهُ هكذا؛ فُلان أبن فلان التكريتي الجبوري. و ذلك نسبةَ الى والدتهِ و والدهِ. و لقد سبَّبَ لي ذلك " الأدب سيز " الكثير من الأذى, و سبَّبَ للآخرين. و لم يكن مسموحآ في رومانيا في العهد الشيوعي أن يسكن الأجانِب مع الرومان أو أن يستأجر الأجنبي سكنآ من الروماني, فلم أجدْ منفذآ كي أبتعِد عنهُ و عن شرِّهِ. ذلك الصعلوك هو الآن طبيبٌ في مكانٍ ما. و سوف أكتب عنهُ بالتفصيل في وقتٍ آخر, إذا ما شاء الله. و لقد كان الكثيرُ من العراقيين, يلتجأُون لِبِناءِ عِلاقاتٍ مع عربٍ آخرين أو غير عربٍ, و ذلك بحثآ عن الحريةِ, بعيدآ عن العراقيين, و عن القيل و القال. و إن لم يبتعدوا عنهم ظاهريآ. إذ كان عندي أصدقاءٌ من سوريا, من مدينةِ الرّقة. كُنتُ أدرسُ معهم و أقضي معظم أوقاتي معهم. و هؤلاء بدورهم, كانوا يأتلفون فيما بينهم في كُتلةٍ مُتَكاتِفةٍ واحدةٍ, بعيدآ عن بقيةِ السوريين. في تلكَ الفترة, كانت العلاقات بين سوريا و العراق, قد وصلت الى أسوءِ حالٍ. إذ كان يُكتبُ في الجواز السوري, يُسمح لحاملِ الجواز السوري, السفر الى جميعِ دولِ العالم, ما عدا إسرائيل و العراق!!! لقد كان نظام حافظ الأسد من نفس طينة نظام صدام, إلا إنَّ نظام صدام كان أشدُّ دمويةً بكثير من نظام الأسد. و كان أبناء الرقة يكرهون نظام الأسد. كما كان عندي صديقٌ حميم آخر. و هو إيرانيٌ فيليٌ من العراقيين المُبعدين من العراق. و كان أهلهُ من سكنةِ منطقةِ الشورجة. و لقد إتفقتُ معهُ بأن نتظاهر, أنا و هوَ, أمام العراقيين و أمام الإيرانيين أيضآ, بأننا لم نكن على عِلاقةٍ طيبةٍ, و لا نُحبُّ أحدنا الآخر. و ذلك تجنُّبآ لِلمشاكل التي قد تلحق بي أو بِهِ على حدٍّ سواء. إذ كان بلدينا في حالةِ حربٍ. بينما نحن كُنا في حقيقةِ الأمر, في صداقةٍ حقيقيةٍ و مودّة. كان شابّآ مرحآ و طيبآ. ذكر لي مرةً, و في إحدى زياراتهِ لِدمشق و قبل سفرهِ الى رومانيا, و بينما كان يُتابعُ فِلمآ في إحدى دورِ السينما في دِمشق, أن إنقطعت الكهرباء, و سادَ صالةَ العرضِ ظلامٌ دامِسٌ و صمت. و فجأةً وضع راحتيهِ حول فمهِ و صرخ بأعلى صوتهِ, قاطعآ صمت الجمهور, و صاح؛ أعور.. أعور. و يتابع؛ فإرتفعت عشرات الأصوات من بينِ الحضور, تُردِّدُ خلفي؛ أعور... أعور.. طبعآ دونَ أن يفهم الدمشقيون ما تعنيهِ هذهِ الكلمة. تلكَ العِلاقة مع صديقي الإيراني " العراقي " ذلك, ما كان لها أن تنمو لو لم نكن, أنا و هوَ, ندرسُ في نفسِ المجموعة. إذ إن الصف أو الشعبة تُقسَّم الى مجاميع. و عددُ أفراد كُل مجموعة ما يُقارب العشرين طالبآ. أعضاء المجموعة يعرفون بعضهم البعض جيدآ و يصبحون مِثلَ العائِلةِ الواحدة. و كانت مجموعتي, نصفها من الرومان و النصف الآخر من الأجانب. و كُنتُ أنا العراقي الوحيد فيها. و كان معي صديقٌ سوريٌ من الرِّقة السورية, و صديقي الإيراني الذي ذكرتهُ لِلتو. إضافة لزملاءٍ من بلدانٍ عربيةٍ أُخرى. و كانت كُلُّ مجموعةٍ لها برنامجها الخاص في المختبرات و المُستشفيات و في الفحوصات العملية, بصحبةِ الأساتذةِ المُساعدين. و تجتمع مجاميع الشعبة الواحدة, فيما بينها لحضورِ كورسات الأساتذة, أو لأداء الفحوصات النظرية المُختلفة, أمام هؤلاء الأساتِذةِ المُختصين. كُلُّ علاقاتي الشخصيةِ تلك, إضافة الى إنَّهُ كان عندي سابقآ بعض الزملاء الأصدقاء في العِراق, و الذين تَمَّ إعتقالهم فيما بعد لأسبابٍ سياسيةٍ, دون أن يكونَ لي أيُّةُ علاقةٍ بأمرهم, جعلتني أعيشُ في خوفٍ دائمٍ طِيلةِ فترةِ دراستي في الخارج, بأنَّني رُبَّما سأُعتقل من النظام في يومٍ من الأيام...
لم يكن عندنا نحنُ الطلبةُ المغتربون في رومانيا في فترةِ السبعينيات و الثمانينيات, لا أجهزة تلفاز و لا أيِّ شيءٍ عدا المذياع و جهاز التسجيل. و كُنا في أوقات الفراغ, نتناقلُ فيما بيننا أيَّ شريطٍ مُسجَّلٍ جديدٍ لِمُغنٍ ما أو مسرحيةٍ جديدةٍ. و عندما يجلبُ أحدٌ مِنا مسرحيةً جديدة أو غير جديدة في شريط فيديو, كُنا نتزاحمُ كي نحجز موعدآ لرؤيتها. و هكذا رأينا الكثير من مسرحيات و أفلام عادل إمام و زملائهِ, و غوار و مجموعتهِ و عبدالحسين عبدالرضى و غيرهم. و على العموم, فأنا كُنتُ في قائمةِ الطلبة المُجدين و المُجتهدين جدآ و فوق العادة. لقد أفنيتُ الأيام و الليالي و أنا أدرسُ بكُلِّ جدٍ و إجتهاد, كي أعود لوطني بالشهادةِ و العِلم. و عندما أنظرُ الى الخلف, أرى خلفي تأريخآ طويلآ من النضالِ و المُعانات, و الذي لا يمكن تدوينهُ بِكتابٍ واحدٍ, فما بالكَ بِبضعِ مقالاتٍ. ذلك النضال العسير, و الذي بعد أن أثمرَ ثمارهُ, رميتها جانبآ, و سلكتُ طريقآ آخر!! لقد توقّف عندي الزمن و الذكريات, منذُ غادرتُ العراق. إذ بقيت في بالي ذكريات الناس كما تركتهم. بينما تغيَّرت الدنيا و تغيرت الناس في العراق كثيرآ. و تعاقبت عليهم الكوارث و المصائب. بينما أنا كُنتُ بعيدآ عن بلدي طيلةَ تلكَ السنين, أُعاني و أتألمْ حيثُ كُنتُ. و لقد نسيتُ الكثير من الناس الذين كُنتُ أعرفهم. و حتى لو ألتقي اليوم بأحدٍ منهم وجهآ لوجهٍ, فلن أتعرَّف عليهِ!! فقد فعلت تلكَ السنين الطوال من الإغتراب فعلها. إذ مسحت الكثير من الذكريات من ذاكرتي, و وضعت مكانها أمورآ و همومآ أخرى و بشرآ آخرين. كما كُنتُ قد تركتُ أطفالآ صغارآ, أصبحوا الآنَ آباءآ و أجدادآ. و آخرون لم يكونوا قد ولدتهم أمهاتهم, عندما سافرتُ من العراق للدراسةِ في الخارج, هم الآن مهندسون و أطباءٌ و قادةٌ عسكريونَ كِبار و في مجالاتٍ أخرى. هذا هو قدري. و الحمدُ للهِ على أيِّ حالٍ. و لابُدَّ لي أن أكونَ مُنصفآ, لأقول؛ بأنّنا كُنّا قد عشنا أيامآ جميلةً في فترةِ الدراسة في رومانيا. حيث الطبيعة الجميلة, بجبالها و شواطيء رومانيا على البحر الأسود. و مختلف وسائل الترفيه و التسلية, بجانبِ أُناسٍ مُسالمين و طيبين, و هم الرومان. إضافة ً لحريةِ السفرِ الى الدول الأوربية المجاورة, في العطل الشتائية أو الصيفية. أنا لا أنكرُ إنّنا كُنّا نعيشُ حياة ترفٍ و رفاهية, طيلة فترة الدراسة الجامعية. يزيدنا سعادةً, ذلك المُستقبلُ الذي كان ينتظرنا, كثمَرَةٍ لجهودنا.
و بالعودة الى سفرتي الأخيرة تلكَ الى العراق, و قبلَ التوَّجُهِ الى مطارِ بغداد, تناولتُ الباجة في أحدِ المطاعمِ النظيفةِ, بِصُحبةِ والدتي و شقيقي. و لقد كُنتُ قاسيآ ساعتها, إذ كرَّرْتُ تلكَ الكلِمةِ اللئيمةِ أمامَ والدتي, بأنني سوف لن أعودَ الى العراقِ. قُلتها في حالةِ غضبٍ, دونَ أن تكونَ هي نيتي في حقيقةِ الأمر. و لكِنَّ والدتي بكت. و في حقيقةِ الأمرِ, فلم أجلب لوالِديَ سِوى البُكاء و المُعاناة, رغم إنني لم أشأ ذلكَ قط. كما إنَّ نفسي الملائِكيةِ النقيةِ ( أنا و الله نعرُفها حقَ المعرفةِ ), تجعلني أبعدُ بعيدآ بعيدآ عن الخُبثِ و العقوق. لقد ودّعني والدي و هو يذرفُ الدموعَ مِثلَ إمرأةٍ. ثُمَّ قالَ لي و هو يحتضنني و يبكي: أخافُ أن أموتَ ياولدي قبلَ أن أراكَ ثانيةً! و كأنَّهُ كانَ يقرأُ الطالع, و كأنَّما أرادها الله أو القدر. إذ شاءت الأقدار أن لا أعودَ الى بلدي و أهلي. و يموتُ والدي بالسكتةِ القلبيةِ بعد سنتين بالتمام, و ذلكَ في يوم 17/1/1989, دون أن يراني أو أراهُ. و لم يُبلِّغني الأهل بوفاتهِ إلا بعد ثلاثِ سنوات. رغم إنني كُنتُ أُراسلهُ و هو يُراسلني و يُجيبني على أسئلتي و مشاعري, دون أن أدري إنَّهُ لم يعد في عالمِنا, و إنَّ هُناكَ مَن إنتحلَ شخصيتهُ!! الطريف هُنا, و في الفترة التي أُبلغتُ فيها بوفاةِ والدي, و إنَّ تأريخ الوفاة, كان قبل ذلكَ الوقت بثلاثِ سنوات, في يوم 17/1/1989, في تلك الفترة, كانت زوجتي الأجنبية السابقة حامِلآ في الأشهر الأخيرة. و في يوم 17/1/1993ولدت إبنتي البِكر ولادةً طبيعية. أقولها كمعلومةٍ لا أكثر. الرحمة كلّ الرحمة و المغفرة لوالدي. ذلك الإنسان البسيط الطيَّب, و الذي أورثني هوَ وَ والدتي, بساطتهم و طيبتهم. هذه البساطة و هذه الطيبة, التي لم تجلب لي سِوى الفشل و المُعاناة. و ياليتهم أورثوني الخُبث و الزيف و الكذب و قساوة النفس, كي أستطيعُ العيش براحةٍ و سعادةٍ بين الناس و مثل البشر الأسوياء!! أعيشُ مرتاح البال, في عالمِ اللصوص و الزيف و النفاق. أنا أقولها بِكُّلِّ صراحةٍ, بأنني قد فشلتُ في أن أعيش سعيدآ بين الناس, لأنني أفتقدُ للصفات البشرية المُعتادة, و التي تجلبُ للإنسان السعادة و راحةِ البال, و هي النفاق و الخُبث و قسوة النفس!! و هناكَ أمرٌ كان السبب في كُلِّ أو معظمِ هزائمي و فشلي و تعاستي, و هو الثقة العمياء بالناس!! و لولا مُساعدة الله لي في الكثير من المواقف, التي أنقذني فيها من شرِّ الناس, لأكلتني الذئاب. و من مساوء حظي؛ إنني كُلَّما أعملُ خيرآ لأحدٍ يقابلني بالشر. حتى اللصوص الذين سرقوني أصبحوا أعداءآ يتربَّصونَ بي الشر. و أنا وحيدٌ في هذهِ البلادِ الغريبةِ!! و لقد قدّرَ الله أو سوء الحظ, أن لا أعودَ الى العراق. إذ إنَّني في كُلَّ مرةٍ أنوي فيها العودةَ الى بلدي, تقفُ أمامي العوائِقُ تلوَ العوائق, فتُفسِدُ القرار. رغمَ إنني أحملُ الشهادات التي ناضلتُ طويلآ و تعذّبتُ كثيرآ من أجلها. و لقد أنهيتُ دراستي العامّة و الدراسات العُليا بإقتدارٍ. و لم أكن فاشلآ مثل حالِ البعض من الفاشلين, الذين أمضوا سنواتهم في الخارج, باللهو و السهر و مغريات الحياة. و كُنتُ أحلمُ كثيرآ أن أعودَ ليفتخرَ بيَ أهلي و لأساعد والديَ و أوفي لهما شيئآ مما قدَّماهُ لي. و أن أُساعد الفقراء و اليتامى. و أن أكونَ حيث الناس الرحماء و الذين يخافون الله, و بعيدآ عن عبدةِ المال. و لكن لم يشأ القدر ذلك. و على كُلِّ حالٍ فأنا أحصدُ الآن ما زرعتهُ من أخطائي في الماضي و في الحاضر.. و لقد كان للهزّات التي تلاحقت على العِراق, الأثر الحاسم في تأجيلِ سفري الى بلدي, المرَّة تلوً الأخرى. إضافة لنصائح الأقربين و الناس الآخرين. و بعد سنة 2003, كان للضروف و الإرتباطات التي تراكمت حولي بمرورِ السنين, الأثر الكبير في إعاقةِ قرار السفر. كما إنَّ التقديرات الخاطئة و العِناد و عدم دراسة الأمور بحكمة, و عدم الإستماع لنصائح الأقربين, و فترة الرخاء الإقتصادي التي شهدتها رومانيا في تلكَ الفترة, و الخوف من المجهول, بعدَ الغياب الطويل, كُلُّ هذهِ الأمور, جعلتني أتريث في قرارِ السفر, حتى ضاعت الفرصة. أنا دفعتُ ثمن أخطائي من مالي الذي كسبتهُ بعرقِ جبيني و من صحتي و سعادتي و راحتي النفسية و الجسدية. و سيلحقُ - دون شكٍّ - أذى أخطائي تلك, بأهلي و أولادي. أنا خلقني الله بضميرٍ حيٍّ و نظيف. و لا أظنُّ إن هُناكَ إنسانٌ يُحاسبهُ و يجلدهُ ضميرهُ ليل نهار, عن كُلِّ شاردةٍ و واردةٍ, مثلما يُحاسبني ضميري. و كُلُّ ما كتبتهُ و أكتبهُ من فيضِ مشاعري, لا أبتغي من خلالهِ تعاطفآ من أحد. إذ لا أحدٌ يهمَّهُ همومَ أحدٍ, و لا أحدٌ يحملُ عن أحدٍ همومهِ و معاناتهِ. و لكنني عندما أُترجمُ مشاعري بكلِماتٍ على الورق, أشعرُ براحةٍ نفسية. و سأشرحُ بالتفصيل, لماذا لم أعد الى العراق حتى اليوم, و ذلك في فرصةٍ أخرى إذا ما قدَّرَ الله. و اللهُ وحدهُ يعلمُ كما عانيتُ بسببِ هذهِ الغربةَ. و في كُلِّ ساعةٍ و يومٍ يمرُّ عليَ في بلادِ الإغتراب, أذوبُ حسرةً و أموتُ موتآ. و ما أكثرُ أيامي و سنيني في بلادِ الأغراب. و هل يُمكنُ لِعاقلٍ أن يُقارِنَ نضالَ و مُعاناةَ الدراسةِ في الإغتراب, مع الدراسةِ في بلدكَ, بالقُربِ من الأهلِ و الأحبابِ. حيثُ تمضي السنونَ سريعآ, باللعبِ و الدراسةِ, تمامآ كما مضت سابقاتها في المراحلِ الدراسيةِ الأُولى؟؟ بينما نحن الطلبةُ الذين درسنا حقآ - و ليس لهوآ - في خارجِ العراق, نقضي الأيام و السنين بين المُعانات و الدموع و القلق و الحنين الى الأهل الذي لا يُطاق. رُبّما ما يُعانيهِ الطالب المُغترب, أشدُّ بعشراتِ المرّات مِما يُعانيهِ الطالب الذي يدرس الدراسةَ الجامعيةَ في بلدهِ, و على " شَمْرةْ عصى عن أهلهِ". طبعآ لِنضع ما عاناهُ العراق و العراقيونَ في السنوات الماضيةِ جانِبآ. كما نضع جانبآ, ترف الحياة في الغرب و مغرياتها, التي يتمتَّعُ بها الطالب الذي يدرس في الغرب, مُقارنةً بزميلهِ الذي يدرس أو درس في العراق. ذاتَ مرّةٍ و أثناء فترةِ إمتحانات الفصل الأول, في الصفِّ الأول كُلِّية, وصلتني فجأةً برقيةً من الأهل, مكتوبآ فيها جُملةً واحدة بالإنكليزي: والدتك تُريدك, تعال فورآ. تخيلوا ما جرى بحالي ساعتها, كُنتُ أبكي مفجوعآ. و دخلتُ على عميد الكُلية باكيآ. قرأ البرقية, و حاولَ تهدأتَ روعي, ثُمَّ قال لي: سأُعطيك موافقتي لكَ للسفر, إذ بدونها لن تسمح لكَ السلطات الرومانية بِمُغادرة رومانيا, و لكِنني أرجوكَ أن تجمع عزيمتكَ و تُنهي ما تَبقى لكَ من مواد. و هكذا كان. و بعدها سافرتُ فورآ. و الحمدُ للهِ, فقد كانَ الأمرُ خيرآ. إذ كانت والدتي مريضةً, و خافت من القدر. مِن الأمور التي تُثير الإستغرابِ, إنَّنا - نحن العراقيونَ الذين كُنّا ندرسُ في خارجِ العراق - كُنا نتنفّسُ الصُعداء, حالما تطيرُ بِنا الطائرةُ, و تبتعدُ عن الأجواءِ العراقيةِ. و كُنا نهمسُ لبعضنا البعض, مِمن نأتمِنُ بهم, بِمقولةِ سيء الذِكرِ الحجاج؛ الداخلُ الى العِراقِ مفقودٌ و الخارجُ مِنهُ مولودْ!!
كُنتُ أتواصلُ معَ الأهلِ بالرسائلِ التي تضيعُ في الطريقِ شهرآ أو شهرين. و حيثُ كُنتُ من المغضوبِ عليهم, و هم أهل الريفِ. إذ كان الريف العراقي مقطوعآ تمامآ عن العالمِ الخارجي. كُنتُ أنظرُ في وجوهِ الناسِ التي تستقبلُ أبناءَها في مطارِ بغداد, فلم أرَ منهم من ينتظرني. كُنتُ أشعرُ و أنا أخرجُ من المطارِ, بلفحةٍ يختلطُ فيها سمومُ الصيف مع إرتعاشةِ الخوف من الإعتقالِ و التي يشعرُ بها معظمُ المُغتربين في زمنِ نظام صدّام, و ذلك حالما تطأُ أقدامُهم أرضَ العراق ( بالصدفةِ, و في هذهِ اللحظة التي أكتبُ فيها هذهِ السطور, و أنا أستمعُ لبعضِ الأغاني العراقيةِ الحزينةِ. و كأنهُ يُدغدغُ ما يطحنُ في داخلي, إنطلقَ الصوتُ الشجيُ لِحسين نعمة " هلي و ياكم يلِذْ العيش و يطيب " ). كُنتُ أعتادُ في كُلِّ مرةٍ أزورُ فيها بلدي و أهلي, أن أجلبَ ثلاثَ حقائِبٍ من الهدايا الى الأهلِ, إضافةً لأغراضي. تزنُ كُلٌّ منها أكثر من عشرين كيلوغرامٍ. ذلك الأمرُ ما كان ليحدثُ لولا التسهيلات غير المحدودةِ لنا, من شركةِ الخطوط الجويةِ العراقية. كُنتُ أسحلُ هذهِ الأحمالَ الثِقالَ لوحدي, في المطاراتِ و في مواقفِ السيارات. و في آخرِ مرةٍ أتيتُ فيها الى الأهلِ, و التي سبقَ الحديث عنها. و عند وصول الحافلةِ من بغداد الى الرفاعي, إلتقيتُ بزميلٍ سابقِ مع والدهِ. و هما يسكنانَ في قريةٍ قريبةٍ جدآ من بيتِ أهلي. فدعوتهما لإصطحابي في سيارةِ الإجرةِ. و ما أن وصلنا بالقُربِ من قريةِ الساير و التي تفصلني المسافةُ فيها عن بيتِ أهلي, عشرُ دقائقٍ, سيرآ على الأقدام, إذ فوجئنا بأنَّ طريق السيارات مُغلقٌ بسببِ وحلِ الشتاء. عندها تركَنا سائقُ الإجرةِ و عادَ الى مدينةِ الرفاعي. كان الوقتُ ليلآ و الظلامُ دامسٌ. فما كان من ذلك الزميل و أبوهُ أن إعتذرا مني و تركاني و حقائبي و سلكا طريقآ بعيدآ عن بيت أهلي. و رغمَ إنني قد جلبتهما معي في سيارة الإجرةِ, و رغم المعرفة, لم يُساعدانني في حملِ الحقائبِ. و لا حتى سلكا الطريق الذي يمرُّ بالقُربِ من بيت أهلي. ليُخبروهم بقدومي, كي يأتونَ بسرعةٍ ليحملوا معي أحمالي. هذهِ ليست أخلاقي على الإطلاق. فأنا كم من الناس ساعدتُ طيلةَ السنين؟ و لكنَّني لم أقل لهما شيئآ, و لم أرجوهما. أنا أعذرُ هؤلاء الذين تركوني لوحدي في تلك الحال, ذلك إن جرثومةَ الحسدِ تعمي الأبصارَ و الأفئِدةَ, و تزرعُ حقدآ لا تسعهُ القلوب! بقيتُ أكثرَ من ساعةٍ و نصفِ الساعةِ في تلكَ الليلةِ, و أنا أسحلُ الحقائبَ واحدةً بعد أخرى, حتى وصلتُ بيتَ أهلي. و لقد كُنتُ ألتقي بمثلِ هؤلاء من المعارف في مدينتي و هم لا يخفون سواد القلوب. المشكلة, إنَّ الناس لا ينصفون في حسدهم. و ليقولوا مثلآ؛ " صحيح هوَ راح يصير أحسن من غيره, بس الله يساعده المسكين شكد يتعب و يتعذَب و شكد صعب مشوار الخارج ". بل يحسدون و يحقدون فقط!! عندما سافرتُ للدراسةِ في الخارجِ, في مُنتصفِ سنةِ 1980, و في البضعِ من السنوات اللاحقة, كُنتُ أنا الوحيد في قضاء الرفاعي الذي تمّكنَ من السفر لذلكَ الهدف. و على كُلِّ حالٍ فالحقد الذي يجلبهُ الحسد, هو ظاهرةٌ إنسانيةٌ عامّة, و ما أكثرها بين الناسِ هُنا في هذهِ البلاد!!
و على ذِكرِ مُعاناتِ الإتصالِ مع الأهلِ, أذكرُ مرةً و في فترةِ الحصارِ فيما بعد, أن حاولتُ الإتصال بالأهلِ في العراقِ, حيثُ كُنتُ في رومانيا. و ذلكَ بِإستعمالِ كابيناتٍ إتصالٍ منصوبةٍ في دائرةِ البريد. و كان بجانبي أحدُ الأصدقاء, و هو يُحاولُ بدورهِ في كابينةٍ أُخرى, الأتصالَ بأهلهِ في مُحافظةٍ أُخرى في العراق. و بعد أكثرِ من ساعةٍ من المحاولات الفاشلة, تفتَّقت عبقريتي, بأن قُلتُ لصاحبي؛ ماذا تقول لو تستمرَ أنتَ بمواصلةِ الإتصال الى الأهلِ في العراق. بينما سأختارُ أنا أكثرَ دولةً في العالمِ تخلُّفآ, للإتصالِ برقمٍ لا على التعيين فيها. و ذلكَ بإستعمالِ مفتاحها الدولي. قال؛ و من تكون هذهِ الدولة؟ قُلتُ إنها بوروندي الواقعةُ في وسطِ أحراش أفريقيا. و التي خرجت للتوِ من حربٍ طاحنةٍ مع راوندي. إذ قُتلَ فيها الملايين, رُبَّما نُصفُ سكان بوروندي و نصف سكّان راوندي. كانَ ذلكَ في مُنتصفِ التسعينياتِ. و هكذا كان, إذ و بعد حوالي ربع الساعةِ من المحاولاتِ, رنَّ هاتفي الى بوروندي و أجابني صاحبهُ و لم أجبهُ. و لكنّ صاحبي لم يتمكّن من الإتصالِ بأهلهِ في العراق!! اليوم, بوروندي تتفوَّقُ كثيرآ على العراق؟؟!!
حدثَ مرَّة أن إنقطعَ عني الأهلُ في رسائلِهم. كان ذلكَ في مُنتصفِ الثمانينياتِ, حيثُ كُنتُ في مُنتصفِ سنواتِ الدراسةِ. و كانَ عندي صندوق بريد في دائرةِ البريد المركزيةِ, في مدينتي تيمشوارة. و بعد إنتظارٍ طويلٍ للرسالةِ التي أبت أن تأتي و تُريحني. جلستُ ذاتَ ليلةٍ, فسكبتُ دموعي في قصيدةٍ و إن لم أكن بشاعرٍ. هاجمتُ فيها صندوقَ البريد, و حمَّلتهُ المسؤوليةَ عن إنقطاعِ الرسائلِ من الأحبةِ طيلةَ تلك الشهور. قُلتُ في هجائي ذلك و شكوايَ لصندوقِ البريد, مِمّا قُلتُ:
" آه صندوقُ البريد
آه صندوق البريد, خاليآ تمسي و تصبحْ
أبقى في الهمِّ وحيدْ, و إلى أفكاري أسرحْ
ناطرآ طيري البعيدْ, يأتي بالأخبارِ يشرحْ
إنما لا الطيرُ يأتي, و أنا للدمعِ أنضحْ
كيفَ أهلي كيفَ بيتي, يا إلهي دعني أفرحْ
*****
آه صندوق البريدْ, ياتُرى هل من جديدْ؟؟
أنتَ يا مَن كُنتَ تُملأْ, كُلَّ شهرٍ بالطرودْ
مِن أخٍ يأتيني طردآ, فيهِ أخبارَ البعيدْ
ها و قدْ أصبحتَ خالٍ, و أنا باقٍ وحيدْ!
ما جرى, باللهِ قُلْ لي أو تراكَ لا تُريدْ؟؟
*****
آهِ صندوق البريدْ, كلُّ يومٍ أسألكْ
و عيوني للرسائلْ, فتقلْ لي ليسَ لَكْ!
و أعدْ نفسي بِشيءٍ, و ورودٍ تصلُكْ
إنما أحلامي تمضي, و دموعي تغسلكْ
يا إلهي لستُ أدري, أيُّ شيءٍ يُخفى لَكْ؟؟
*****
آه صندوقُ البريد, هل تُرى هذي العيونْ؟؟
هدَّها ليلي و دمعي, فإختفت تحتَ الجفونْ
تحوي أسرارَ الليالي, وبِها همُّ السنينْ
كُلَّما أشتاقُ يومآ, لِحبيبٍ أستكينْ
لا أرى غيرَ دموعي, و حنينآ لِحنينْ
*****
آهِ صندوقِ البريدْ, يا تُرى ماذا دهاك؟؟
إنَّما طالَ إنتظاري, مُرغمآ آتي أراكْ
لا أرى فيكَ جوابآ, فارِغآ دونَ سِواكْ!!
فأعودُ كُلَّ يومٍ, خائِبآ تبَّت يداكْ
يا إلهي طالَ صبري, فإستجِبْ مَنْ قدْ دَعاكْ "
.......................................................
لقد قرّرت السفرَ قريبآ الى العراق. لأستنشاقِ هواءِ بلدي. و لرؤيةِ والدتي و الأقربين من أهلي و ناسي وبلدي. و لأخذِ قسطٍ من الراحةِ النفسية. و لنزعِ البعضِ من همومي. و للتَّزوِّدِ بالبعضِ من زاد ِالأمل, الذي لم يعد ما عندي منهُ يكفي حاجتي. و لإسترجاعِ البعض من ذكرياتي التي ضاعت في الأمواجِ المُتلاطِمة.
#سعدون_الركابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟