أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - الحضارة الإسلامية في دهاليز الوعي الغربي (الأوربي)















المزيد.....

الحضارة الإسلامية في دهاليز الوعي الغربي (الأوربي)


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 5614 - 2017 / 8 / 19 - 13:54
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إذا كان الاهتمام الأوربي النصراني القروسطي بالعالم الاسلامي فيما مضى قد جرى من خلال موشور العقائد الدينية، فان الاهتمام الحديث قد حددته مرجعيات الطور السياسي الاقتصادي لأوربا الحديثة. ومن ثم فانه تمثل بقايا الفكرة السياسية القديمة القروسطية ولكن من خلال موشور جديد لمرجعيات ثقافية جديدة، مرت بنفس مراحل التطور الأوربي الحديث وتأثرت بقيمه ومفاهيمه ومبادئه الكبرى. بمعنى أنها تراكمت في مجرى التحولات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الكبرى. من هنا تعايش بقايا القروسطية والحداثة العلمية والعقلانية في الموقف من الحضارة الإسلامية،
لقد مر هذا التراكم من خلال ثلاثة مسارات ثقافية وسياسية كبرى في التاريخ الأوربي، وهي مسار التطور السياسي الاقتصادي وفكرة الأمة القومية، ومسار المركزية الثقافية وفكرة الوعي الأوربي ومركزيته "العالمية"، ومسار الوعي العلمي، والتاريخي، والمنطقي، والعقلاني الثقافي.
وتبلورت هذه المسارات في مجرى التحولات الكبرى التي لازمت مراحل النهضة، والإصلاح الديني، والتنوير، والحداثة، و"ما بعد الحداثة". لكنها جميعا كانت تحمل أما اثر التقاليد القديمة القروسطية أو إحدى بصماتها.
وسوف لن أتناول قضايا وإشكاليات وأثر الاهتمام الأوربي بالحضارة العربية الإسلامية ضمن سياق هذه المسارات لما فيها من تشعب وحيثيات وخصوصيات لا يسعفني الآن الوقت لتناولها كما ينبغي سواء بصورة مختصرة أو موسعة. اذ يفترض تناول المسار الأول فقط والمتعلق بصيرورة الفكرة القومية وأثرها بهذا الصدد أن يجري تحليل ودراسة التاريخ السياسي وأثره في تحديد مهمات ونوازع الاهتمام بالعالم الاسلامي والثقافة الإسلامية والحضارة العربية على وجه الخصوص في المراكز السياسية الثقافية الأوربية الكبرى (من حيث التسلسل التاريخي) مثل اسبانيا وإنجلترا وفرنسا وهولندا والنمسا وهنغاريا وألمانيا إضافة إلى روسيا القيصرية والسوفيتية. أما الثاني والثالث فهو أكثر تعقيدا، لأنهما يفترضان إلى جانب التاريخ السياسي والثقافي تحليل ماهية المركزية الأوربية ومحدداتها أولا، ثم تحليل ودراسة اثر المناهج الفلسفية والسياسية في كل هذه العملية. وقد تناولت هذه المسارات على مثال الاستشراق والاستعراب الروسي والسوفيتي في سلسلة مقالات ودراسات قبل ما يقارب ثلاثة عقود خلت، نشرت بعض منها والبقية مازال على هيئة "مخطوطة" بحدود مائتي صفحة. وفيما لو جرى تطبيق هذا الأسلوب على البقية الباقية، فان ذلك يعني ما يقارب الألف صفحة لمسار واحد فقط من بين الثلاثة الذكورة أعلاه. وهذه مهمة لا يسعفني الوقت لإنجازها الآن. ولعل هناك من بين الجيل الصاعد أو القادم من يعمل عليها كما ينبغي. وهي مهمة شاقة جدا وتحتاج إلى معارف هائلة ومستوى نظري فلسفي رفيع ودراية متفحصة بتاريخ الأمم، لكي يتجاوز ما هو موجود في العربية، لان اغلبه ركيك ومسطح ومستعار ومؤدلج. بمعنى، أن يتجاوز أيضا ما وضعه ادوارد سعيد في أعماله الفكرية الكبرى مثل (الاستشراق) و(الثقافة والإمبريالية)، وما كتبه حسن حنفي في محاولاته بلورة علم "الاستغراب". وهو مصطلح ضعيف من حيث النحت، ومحكوم بالتصادم مع الاستشراق. والأخير يعني فيما لو جرى ترجمته من أصوله "الدراسات الشرقية" وكذلك الحال بالنسبة "للاستعراب، اي الدراسات العربية. وما وضعه حسن حنفي في كتاب "الاستغراب" لا يرتقي إلى مصاف الإعلان والإشهار عنه بوصفه نظرية نقد الغرب وإرجاعه إلى حدوده. فهو اقرب ما يكون إلى كتاب مدرسي أو موسوعة مصغرة لتاريخ الفكر الأوربي لا ترتقي إلى مصاف ما كتب في الثقافة الأوربية حتى في المؤلفات العادية جدا، دعك عن الدراسات والأبحاث العميقة والهائلة بهذا الصدد، والتي يحتاج الوعي العربي الفلسفي المعاصر، حسب معطيات الواقع الحالي للعلوم بشكل عام والإنسانية بشكل خاص وحالة المدرسة والجامعة والثقافة العامة، إلى فترة طويلة لبلوغه. وبالتالي، ينبغي لهذه البحوث أن تسير باتجاه توعية النفس وتأسيس وعي الذات التاريخي الثقافي السليم، وليس باتجاه دوافع التعرية السياسية والنقد الأهوج والاتهام الشامل للغرب الأوربي.
لهذا سوف اكتفي، وهو يكفي سواء من الناحية المنهجية والثقافية والسياسية، بتناولها ضمن سياق المراحل المفصلية للصيرورة الأوربية الحديثة وثقافتها الخاصة تجاه الثقافة والحضارة العربية الإسلامية. وشأن كل قضية من هذا القبيل، فان للماضي أثره الكبير والهائل في بلورة المواقف والأحكام، وبالأخص تجاه القضايا التي لعبت ومازالت تلعب دورا كبيرا في التأسيس النظري للمواقف والأحكام الثقافية.
فقد أشرت أعلاه إلى أن الفكر الأوربي، رغم كل منظوماته العقلانية والعلمية الهائلة، ظل يحمل في طياته أثر وبصمات الثقافة القروسطية النصرانية في مواقفه من الإسلام. وهي حالة لا تخلو من الغرابة، لكنها واقعية. والسبب يكمن في أن التقاليد الثقافية لا تهذب بالسهولة التي يمكن بها تهذيب العلوم والمعارف. فالثقافة أكثر تعقيدا بهذا الصدد وذلك لانها تتبلور ضمن سياق الصيرورة الذاتية للقوميات والأمم المعاصرة، وتنتج وتعيد إنتاج وعيها الذاتي، بما في ذلك في الموقف من الآخرين بمعايير ومقاييس تجاربها ومرجعياتها الثقافية الخاصة. وسوف تبقى هذه الحالة ويبقى أثرها المباشر وغير المباشر في تقاليد التقييم والأحكام ما لم ترتق الأقوام والأمم إلى مصاف التاريخ الماوراطبيعي وبدايته في الطور الاقتصادي الحقوقي ومرجعياته الخاصة على النطاق العالمي.
فمن الناحية التاريخية واجه العالم النصراني الشرقي والأوروبي الكاثوليكي، الإسلام من منطلق الأثر المزدوج للهزيمة العسكرية والدينية، الأمر الذي أدى إلى غلبة العداء الديني والسياسي العسكري، بمعنى ضعف الأبعاد القومية والثقافية فيه. لهذا لا نعثر على تدوين تاريخي في الكتابات البيزنطية لمرحلة المواجهة الأولى بين العرب المسلمين والدولة البيزنطية. ولهذه الحالة سببان الأول وهو نتاج لأثر التقليل أو الاستهانة بالقوة الجديدة ودينها، اي العرب والإسلام، والثاني بسبب ضعف التدوين التاريخي. فقد كان "العلم" محصورا بالكنيسة ورجال الدين. وكل ما كان يكتب مهمته خدمة الكنيسة والخضوع التام لمعتقداتها وأحكامها الجازمة. الأمر الذي لازمه في الأغلب غياب الرؤية الواقعية للأحداث وهيمنة الذهنية الأسطورية والخرافات. وسوف اكتفي هناك بثلاث شخصيات نموذجية بهذا الصدد. فمن بين الأوائل الذين أرخوا لتلك المرحلة هو يوحنا النيقي، واصله من مصر. فقد انتقد دخول النصارى في الإسلام. وتنحصر أهم آراءه بهذا الصدد في أن الإسلام هو دين المتوحشين، وانه دين وثني وأتباعه يعبدون الأوثان، وانه يحارب النصرانية والنصارى، وان سبب هزيمة النصارى هو تخليهم عن الدين وعدم إتباع أوامر الرب. ويكمل هذا الاتجاه في المشرق يوحنا الدمشقي (670-749)، الذي عمل أبوه في البلاط الأموي. ويعتبر يوحنا الدمشقي من بين الشخصيات اللاهوتية التأسيسية بالنسبة لتقاليد النصرانية الأرثوذوكسية، بحيث وضعه بيردييايف في أول قائمة التأسيس الفلسفي للأرثوذوكسية. أما أهم آراءه بصدد الإسلام فهي: الإسلام هرطقة، وان النبي محمد أخذ علمه من احد رجال أهل الكتاب (والصيغة الأكثر انتشارا بين نصارى المشرق العربي لحد الآن، والتي لا يجري الإشهار بها، هو انه أخذ معارفه عن بحيرى الراهب. وهي رواية إسلامية أول من وضعها ابن اسحق في كتاب السيرة مع ما فيها من حكاية أسطورية، بل وتمادى البعض بحيث اعتبره ابنا له، بمعنى أن محمد نغل! وهذه كما يقال حماقة ما بعدها حماقة، كما أنها يمكن أن تحتوي على تعويض نفسي حول اتهام مريم بالسفاح والمسيح بالمولود غير الشرعي. وهو تقييم اقرب إلى الموضوعية في حال أخذ الأسطورة النصرانية كما هي، مع أن حقيقة المسيح والنصرانية الأولى شيء مخالف لما هو مألوف في تاريخ العقائد)، أو أن محمد من أتباع الأريوسية، وانه نبي دجال، وان انتشار الإسلام كان بحد السيف والقوة وليس بالحجة والدليل والإقناع، والمسلمون يتهمون النصارى بعبادة الصلبان، بينما هم يقبلون الحجر الأسود، وأخيرا أن ظهور الإسلام هو علامة من علامات ظهور المسيح الدجال. أما يوحنا بن بنكاية (نهاية القرن السابع ) فانه وجد في الإسلام ظهور أبناء هاجر (العرب)، بوصفه قدر من الله للقضاء على الساسانيين. وهو من بين الأوائل الذين تعرضوا إلى حكم معاوية بن أبي سفيان واعتبره عادلا، لأنه عامل النصارى معاملة طيبة، كما أثنى على المسلمين في معاملتهم للنصارى. وهو حكم نادر آنذاك. ومن الناحية الواقعية يتضمن الحكم القائل، بأنه إذا كان معاوية عادلا فكيف إذن بغيره لاسيما وان اغلب المسلمين يعتبرونه ظالما وغاشما ولم يتبع دين الإسلام الحق؟
وقد ظلت الآراء التي وضعها يوحنا الدمشقي الأكثر تأثيرا وانتشارا في كل مرحلة القرون الوسطى الطويلة، بمعنى هيمنتها على مدار ألف عام! والصيغة العامة لها تقوم في أنها أحكام قيميية وعقائدية صرف، دينية لاهوتية متعصبة في الأغلب لانها تعكس حالة الديانة النصرانية آنذاك والكنيسة. فما عدا بعض الشذرات القليلة والنادرة في الموقف من الإسلام وعقائده، مثل القول بان المسلمين لا يعبدون الأوثان، وان محمد هو نبي، وأنهم يحترمون الدين النصراني والمسيح، نرى غلبة الأحكام المسطحة وسوء الفهم والاتهام والشتيمة النابع من الجهل شبه المطلق بالإسلام. وقد يكون التصور الذي انتشر في مجرى الحروب الصليبية (الحملة الخامسة عبر مصر عام 1221) عن أن الله أرسل نبيا اسمه داوود للقضاء على الإسلام، وهو الآن قد احتل فارس وقريبا سيدمر بغداد، لم يكن في الواقع هذا الداوود سوى جنكيزخان. ومن الممكن الإتيان بعشرات بل مئات الأمثلة التي تعكس الذهنية الخرفة والأسطورية للنصرانية القروسطية وأثرها في تحديد الموقف من الإسلام وعقائده وثقافته آنذاك. ولا معنى للاستفاضة بها لانها في الأغلب تكرار، احدها أغبى من الآخر. أما التحول النوعي، بمعايير المرحلة القروسطية الأوربية أو مرحلة النضوج الأكبر في تاريخ المدرسة السكولائية، فنعثر عليه عند روجر بيكون (1214- 1294)، والذي اتسمت علاقته بالإسلام بطابع فلسفي، ومن ثم تخليها عن تقاليد وأثر اللاهوت والعقائد الدينية المباشرة. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن اثر الفلسفة الإسلامية في أوربا آنذاك. وقد قدم روجر بيكون في ستينيات القرن الثالث عشر للكنيسة البابوية مشروعه الإصلاحي، الذي تضمن المفاهيم الأساسية التالية: أن النصرانية صغيرة مقارنة بالعالم، وإنها عاجزة عن بلوغ ما تريده بقوة السلاح، وان الطريقة المثلى عبر التبشير الأمر الذي يستلزم معرفة الآخرين وعقائدهم معرفة جيدة. ويحتوي ما قدمه على نموذج جديد في الصراع الفكري مع الإسلام، لكنه كان يخلط بين القرآن وأقوال الفلاسفة المسلمين والإغريق، إضافة إلى أن جدله ونقايضه للإسلام ركيكة من حيث مستواها وتدليلها. وبغض النظر عن هذا المستوى الجدلي مع الإسلام، إلا انه شكل خطوة نوعية جديدة في الموقف منه مبنية على أساس الفلسفة والمنطق ومبتعدة عن الكليشات القديمة عن الإسلام بوصفه هرطقة وكفر ومعاداة للنصرانية ومقدمة ظهور المسيح الدجال وما شابه ذاك من تصورات وأحكام ساذجة وخرافية. وعموما إن كل ما كتب في تاريخ النصرانية الأوربية على مدار ألف عام منذ ظهور الإسلام وحتى القرن السابع عشر لا يساوي ما كتبه ابن حزم لحاله في الموقف من الأديان، بما في ذلك النصرانية، في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل).
بينما شكلت مرحلة النهضة الحركة الأكثر فاعلية في تأسيس الذهنية المبدعة والنزعة الإنسانية والعقل الحر، الأمر الذي ترك أثره النقدي في الموقف من الدين. وكذلك في مواقفه النقدية، وبالأخص ما يتعلق منها بالإسلام. اذ كانت مواقفه تحتوي على تناقض يعكس اثر الذهنية الدينية القروسطية النصرانية كما هو جلي في فكرة وتقييم دانتي لشخصيات الإسلام الكبرى. اذ نراه يضعهم في الجحيم، بل يضع النبي محمد في قاع الجحيم وليس بعده سوى الشيطان! والاستثناء النسبي لكل من ابن رشد وابن سينا وصلاح الدين الذين وضعهم في المطهر أو ما يعادل فكرة الصراط في العقائد الإسلامية للعبور إلى الجنة. ولم يشفع لهم وللثقافة الإسلامية في ذهنيته حتى تأثره بالمعري وأخذه شبه التام لهيكل وأسلوب (الكوميديا الإلهية) من (رسالة الغفران) وتقاليد (المعراج النبوي). وهذه حالة معنوية لا يستطيع الناس في الأغلب التغلب عليها، لانها تفعل ضمن سياق المرجعيات الثقافية السائدة. وقد أبدع دانتي في مرحلة لم يجر فيها بعد تذليل مرجعيات المرحلة الدينية السياسية. وفيما لو جرى مقارنة هذه الظاهرة بأمثالها المعاصرة، فإننا نراها في نموذج اوباما الأسود في البيت الأبيض! فهو لم يستطع أن يكون أبيضا حتى عندما حاول البحث عن أصول أيرلندية من حيث والدته، ولم يستطع تحويل البيت الأبيض إلى اسود حتى لو كانت تدغدغ أعماقه هيبة الحجر الأسود سواء بمعايير بشرته وأبيه!
ولم يشذ تيار الإصلاح الديني عن هذه المفارقة العقلية والثقافية. بمعنى أن نقده الإصلاحي للكنيسة بقي محصورا ضمن سياق الرؤية الكاثوليكية في الموقف من الإسلام وثقافته. وهي رؤية تتسم بقدر كبير من السطحية والابتذال بسبب جهلها المعرفي ونفسية وتقاليد العداء المتأصلة فيها تجاه الإسلام. غير أن المواقف اللوثرية من الإسلام كانت في اغلبها رد فعل على السياسة التركية العثمانية. من هنا مطابقة لوثر لمفهوم الإسلام مع التركي. ويعكس هذا الموقف بدوره كمية ونوعية المعارف آنذاك تجاه الإسلام وتقاليده الثقافية، رغم خواءها وشبه تحللها في مجرى السيطرة التركية العثمانية على مقاليد "الخلافة" أو العالم الاسلامي آنذاك. فقد كانت اللوثرية خطوة كبرى في إصلاح وترميم الهيكل المتآكل للنصرانية وعقائدها التي حولتها الكنيسة الكاثوليكية إلى بازار بدائي بحيث أخذت تبيع فيه بطاقات إلى الجنة تحت عنوان "صكوك الغفران"! الأمر الذي يكشف عن نوعية العقل النقدي ومستوى تأسيسه الثقافي. فمن الناحية الفكرية لا تحتوي اللوثرية على شيء ما جدير بالتأمل الفلسفي العقلي. وكل ما كتبه لوثر لا يرتقي من حيث قيمته المعرفية إلى مستوى كتابات الطبقة الثانية أو الثالثة من المتكلمين المسلمين. وليس مصادفة أن يصف لوثر أرسطو بالخنزير! بينما اعتبرته الثقافة الإسلامية العقلية بمختلف تياراتها "المعلم الأول". إلا أن مأثرة الفكرة الإصلاحية فيما أنا بصدده تقوم في أنها فتحت الأبواب أمام الظاهرة النقدية للأديان، وتنوير العقل، بما في ذلك اللاهوتي منه، بالشكل الذي جعله قادرًا على تحسس وإدراك نفسه بمعايير العقل النقدي والإصلاحي، اي تذليل حدة التزمت الديني والانغلاق المعرفي والثقافي.
ووجد هذا المسار في حركات التنوير استمراره وتوسعه وتعمقه، الذي جعل من نقد الدين وخرافاته وأساطيره احد اهتماماته الأساسية. بحيث نرى فولتير على سبيل المثال يطلق تقييما عن الإسلام وثقافته التاريخية يجعله رديفا للتعصب. وهي الفكرة التي سيرددها ماركس فيما بعد. وكلاهما سيتبرءان منها في وقت لاحق أيضا. بحيث نرى ماركس يصف الإسلام الأول بالثورة الإسلامية والثورة المحمدية.
إلا أن التغير المعرفي والثقافي الهائل قد حدث في مجرى الحداثة الأوربية مع ما فيها من تناقضات كبيرة، شأن كل تحول مفصلي وهائل في تاريخ الأمم وثقافاتها. اذ احتوى على تعايش وتفاعل إنجازات العلوم وثقل الأيديولوجيات السياسية وبقايا الثقافة القروسطية وصيغها النمطية، التي بلغت ذروتها في مركزية ثقافية متناقضة من حيث تعايش وتفاعل تيارات دنيوية وعلمية وعقلانية واجتماعية وإنسانية ونزوع كولونيالي غايته السرقة والاستحواذ والهيمنة. وهي حالة متناقضة لكنها ناتجة عن صيرورة المرجعيات السياسية العملية المتبلورة في مجرى الانتقال إلى الطور السياسي الاقتصادي في التطور التاريخي. أما الصيغة الكولونيالية الخشنة والدنيئة في أساليبها العملية ونتائجها المدمرة لحياة ومصير شعوب كثيرة فقد ارتبطت بالحالة التاريخية وتوازن القوة الذي جعل من السهل بالنسبة للمراكز الكولونيالية الانفراد بالسيطرة والاستحواذ. الأمر الذي جعلها تطغى. بعبارة أخرى، لقد كان ذلك أمرا ملازما لمرجعيات الثقافة الأوربية المتبلورة في مجرى الانتقال من المرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية. بمعنى الانتقال من حالة ثقافية مغلقة وعقائدية متشددة وجامدة وروية مليئة بالخرافات والصيغ النمطية عمن خارجها، التي بلورت مختلف صيغ الاستعلاء والاحتقار "الحضاري" التي وجدت طريقها الأول بممارسة القتل والإبادة لسكان القارتين "الأمريكيتين"، ثم تجارة العبيد وتفريغ إفريقيا من طاقتها الجسدية، ثم غزو كل ما يمكن الوصول إليه.
بعبارة أخرى، إننا نقف أمام عملية متناقضة لكنها جزء ومظهر من مظاهر التاريخ الفعلي ودراما الوجود الإنساني قبل أن يبلغ حالة النضوج العقلي والعقلاني والأخلاقي، اي حالة الانتقال الكوني الشامل إلى المرحلة الاقتصادية الحقوقية في التطور البشري، اي حالما يبلغ البشر إنسانيتهم. وما قبل ذلك تظهر حالات منفردة وفردية. فالأفكار المتسامية وحقيقتها الوجودية والأخلاقية والروحية لا يتمثلها في تاريخ الأمم والحضارات جميعا سوى المتصوفة. وهي حالة فردية لكننا نعثر فيها على منطق الخروج من الطبيعي إلى الماوراطبيعي بمعايير المطلق الروحي والأخلاقي. وهي الحالة التي تتبلور عبر مسار الانتقال التاريخي للأمم من طور إلى آخر، لكي تذلل في نهاية المطاف مراحل الطور الطبيعي صوب الطور الماوراطبيعي في التاريخ الفعلي للوجود الإنساني.
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نهج الحضارة ومنهج البدائل
- فلسفة الحضارة ووعي الذات القومي الثقافي
- إشكاليات الحضارة بين الفلسفة والسياسة
- الحضارة وإشكالية التقديس المزيف
- أبجدية اللغة وأبجدية الروح الثقافي
- تقاليد العقل الثقافي وبدائل الرؤية المستقبلية
- موت الحضارة وبقاء الثقافة
- الصراع الروسي من اجل شرعية الدولة في سوريا
- بوتين – لغز المستقبل الروسي
- الاستعادة الأدبية والثقافية للتراث العربي في مرحلة النهضة
- مرحلة النهضة واشكالية اللغة ووعي الذات العربي
- إرهاصات ما قبل النهضة العربية الحديثة
- قمة واطئة
- الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة (10-10)
- الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة(9)
- الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة (8)
- الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة (7)
- الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة (6)
- الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة(5)
- الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة(4)


المزيد.....




- وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
- مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي ...
- ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
- -تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3 ...
- ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
- السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
- واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
- انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
- العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل ...
- 300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - الحضارة الإسلامية في دهاليز الوعي الغربي (الأوربي)