نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1457 - 2006 / 2 / 10 - 10:48
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
لم يكن في كتابة المفكر الفرنسي ألبير ميمي لكتاب "صورة المستعمِر وصورة المستعمَر" في الخمسينيات شيئا ما هزليا. كان الأمر جادا تماما. رجل يكتب عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر. يتعاطف مع أهالي البلاد و يحلل ظاهرة الاستعمار بشكل ذكي. متى ستبدأ السخرية؟ بعد حوالي خمسين عاما. لن تكون لا في الجزائر و لا في فرنسا, و إنما في إسرائيل, حينما سيترجم كتابه هذا إلى العبرية. حينها سيفاجئ الإسرائيليون بشيء يعرفونه جيدا لهذه الدرجة, بل و سيجدون أنفسهم مطالبين بالدفاع عن شيء لم يتحدث عنه الكاتب أصلا المكتوب منذ نصف قرن, حينما كان تعريف إسرائيل كظاهرة استعمارية غير واضح إلا في عيني ضحاياها المباشرين من الفلسطينيين.
في العادة, توصف إسرائيل المحاطة ببحر من العرب عبر مجاز الهولوكست, حيث أحيط اليهود ببحر من المعادين للسامية, أو مجاز متساداه, و هي القلعة التي انتحر فيها آخر المقاومين اليهود للرومان, تأبيا على القمع و الغزو الروماني. العرب هم النازيون في المجاز الأول و الرومان في المجاز الثاني, و سيتم الاحتفاظ لهم بدور الشرير قاسي القلب كاره إسرائيل, ذلك الذي توقف عن كونه الغرب, ألمانياً كان أم رومانياً. و لكن هنا و هناك, يمكننا العثور على مظاهر لمجاز آخر, أقرب إلى حركة التاريخ, هو مجاز الجزائر, حيث أقلية بيضاء صغيرة, جيش و مستوطنون, تحارب بوحشية مجتمعا كاملا, يسعى للحصول على حريته و تعريف ذاته بذاته. هنا بالتحديد يكون لترجمة كتاب المؤرخ اليهودي ألبير ميمي أهمية خاصة, هنا و الآن.
يتحدث الصحفي دان لحمان عن الكتاب المترجم حديثا لألبير ميمي. يقدم له عرضا مشوقا, غير أنه و على مدار العرض لا يذكر شيئا عن إسرائيل إلا في مرات قلائل, كلها ذوات أهمية وافرة, و كأنها الكلمة المتواطئ على كتمانها, مع كونها محسوسة بقوة, ففي كل حديثه عن صورة المستعمر يصعب جدا تصديق أنه لا يتحدث إلا عن الجزائر. يقول هو: "في الدولة الأم, يتمتع المستوطن بحقوق ديمقراطية تسلبها المنظومة الاستعمارية من الشعب الذي تم احتلاله." يصعب هنا ألا نصل لاستنتاجات حول ممانعة إسرائيل لتصويت الفلسطينيين في القدس, و تصويرها السماح بهذا, و هو المتأخر و المشروط, و كأنه كرم زائد, بينما, و على الخط المقابل, يتم في الخطاب الإسرائيلي دوما التقليل من شأن الفلسطينيين الذين لا يمكنهم إقامة ديمقراطية إلا بمعونة إسرائيلية. في هذه النقطة, و إن كان في سياق آخر, يتحدث ميمي عن العمالة التي يلجأ لأجلها المستوطن إلى أهل البلاد الأصليين, و لكن بشكل يدعم علاقة السيطرة, فالأعمال التكنولوجية الأكثر تقدما ممنوعة عنهم, بينما توكل إليهم الأعمال اليدوية, لأجل تحويلهم إلى مجرد أنفار عاملة, و لسبب آخر, فالمستوطن يرى دوما أن من واجبه حماية ابن البلد من نفسه, و بالتالي القيام عنه بالعمل الأكثر تقدما الذي لا يعرفه ابن البلد, و هو دوما العمل الذي يسهم دوما في زيادة رأسمال الاستعمار.
يتحدث ألبير ميمي عن المستوطن, عن كيفية رؤيته نفسه يقف في الجانب الخير, حيث هو غير مسئول عن الشر, غير أنه يأخذه خوف في كل مرة يتم فيها المس بالوضع السياسي للمستوطنة. فقط عندئذ يهتز نقاءه الوطني. فقط عندئذ يمكنه التهديد بالاستقالة, بالرفض و الإضراب, و هو ما يناقض الخطاب الوطني المتحمس الذي أكثر من التأكيد عليه في الأيام الطيبة الخوالي. حتى هنا يتحدث ميمي عن الجزائر, لم يقترب للحظة من المستوطنين و تهديدهم برفض الخدمة العسكرية في إسرائيل, أي رفضهم أن يكونوا جزءا من الجيش الذي يطرد "إخوانهم" من غزة, و الذي لطالما حماهم من الأهالي سابقا. لم يكن ميمي قد رأى مشاهد فك الارتباط عن غزة عندما كتب هذه الكلمات, و لا كان قد زار أية مستوطنة في الضفة الغربية أو القطاع, مازلنا في منتصف الخمسينيات. و حتى عندما يتحدث عن اللغة فهو يقصد الجزائر, اللغة التي تقوم بدور رئيسي في علاقة السيطرة, ليس فقط لأن على الأهالي أن يتحدثوا لغة المستوطن, و بلكنة تمزج لغتهم الأصلية باللغة الوافدة, مما يحفظ لهم مكانتهم المتدنية في أعين المستوطن بينما المستوطن غير مطالب بتعلم لغة الشعب الذي يحتله, لا يتحدث ميمي هنا عن صراع اللغتين العربية و العبرية, و اللغة الثالثة التي نمت بينهما, العبرية التي يتحدثها عرب بلكنة شرقية.
تقوم اللغة كذلك أحيانا بألعابها لكي تحافظ على علاقة السيطرة. ثم هنا مثال إسرائيلي, ليس جزائريا, يذكره دان نحمان, الصحفي الذي يقدم عرضا لكتاب ميمي. فمنذ سنوات, كان مصطلح "عمل عربي" مصطلحا احتقاريا يعني عملا رديئا يتم بغير إتقان. غير أنه مع السنوات ظهر العرب باعتبارهم أكثر معرفة بالأعمال التي يؤدونها. عندئذ تحول معنى كلمة "عمل عربي", في لعبة عنصرية طريفة, إلى معنى العمل اليدوي, العمل الذي يترفع اليهودي عن أدائه, و ليس العمل الرديء المؤدي على غير ما يرام. هذا المثال يذكره دان لحمان عن اليهود و العرب بينما يتناول الكتاب الذي يناقش حالة الفرنسيين في الجزائر. يحدث هذا قرب نهاية مقاله. بعد أن تكريس المقال كله للجزائر أو لذلك الكائن المدعو "بالاستعمار" بدون ربطه بأي سياق محلي. هذا يكون ممهدا لاعتراف مرير يأتي في نهاية كلامه, و هو اعتراف طريف على أي حال. يقول لحمان: "ليس صدفة أن الكتاب ترجم في هذه الأيام. فهو يتحدث عن الجزائر في الخمسينيات و هو يتحدث بشكل غير مفاجئ عن تجارب نعرفها تنتمي لمكان قريب جدا. قريب لدرجة أنني أعتقد أنه يتحدث عنا." كانت هذه الجملة هي التي مست الأعصاب العارية, ففي تعليقات القراء الإسرائيليين على هذا العرض حاولوا بقدر ما يمكن إبعاد كابوس مجاز "إسرائيل = فرنسا في الجزائر", حاولوا طرده بقوة. هنا يبرز إلى سطح الوعي الإسرائيلي المجاز البعيد, و لو لأجل دحضه, بديلا عن مجاز الدولة المحاطة بالعنصريين و النازيين, الذي كان شائعا قبل هذا. هاهو قارئ يقول إنه قرأ المقال بنفاد صبر لأجل الوصول إلى الفقرة التي تتحدث عن الصلة بين الجزائر و الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. و يدلي برأيه: "هذه علاقة مشوهة, غير دقيقة و مغلوطة. الحرب في الجزائر كانت حربا استعمارية أما الحرب في إسرائيل فهي حرب إثنية", أي: مجموعتان من البشر تتصارعان على قطعة أرض واحدة. ليس للغرب أية صلة بهذا, و لا هناك فلسطينيون يعيشون في البلاد منذ مئات السنوات و يهود قدموا في هجرات من شتى بقاع العالم و صاروا, كما يعبر الخطاب الصهيوني كله, رسول الغرب المتقدم إلى الشرق الأوسط. لماذا إذن يجد القارئ نفسه مضطرا للدفاع عن فرنسا في آخر رده, في جملة تنضح خفة و عنصرية: " فرنسا تحارب اليوم حرب وجود دفاعا عن مستقبلها القومي و الثقافي. الصراع هو بين الحجاب و بين البلوزة التي تكشف البطن, هو بين فولتير و محمد".
يصل هذا التماهي مع الغرب, وفرنسا بالتحديد ذات الماضي الاستعماري في الجزائر, إلى ذروته في رد قارئة أخرى: "إذا كان ثمة تشابه [بين فرنسا و إسرائيل] فهو ما يجب أن يكون تحذيرا لنا: ماذا حدث في الجزائر بعد "فك الارتباط"؟ ألم تتحول [الجزائر] إلى دائرة من الدم اللا نهائي و غير المهادن؟ هل هذا هو ما يريده كل المنادين بحقوق الإنسان؟ أن يروا عرب الضفة و القطاع يذبحون بعضهم بعضا؟". لنتذكر حديث ألبير ميمي عن المستعمر الذي يتصور أنه يحمي, بقوة وجوده العسكري و الحضاري, ابن البلد من نفسه, و لنطبق هذه الحالة على رد القارئة: العرب أحياء في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط بفضل الإسرائيليين, فهم كائنات قاصرة إن أوكلت أمورها لنفسها سيذبح بعضهم بعضا. في هذا يزايد اليمين المتطرف على "المنادين بحقوق الإنسان" مستخدما ورقة العطف على العرب. الطريف أن هذا يتم في نفس الوقت الذي تتم فيه إدانة المجتمع البطريركي العربي, أي المجتمع الأبوي, القائم على الوصاية, على وهم حماية الفرد من ذاته. يدين الخطاب الصهيوني التقليدي هذه البطريركية, لصالح ربط نفسه بالقيم الغربية المستنيرة, مع عدم التورع عن ممارسة وصاية أشد, لأنها تتم من مكان أعلى, من حيث يقبع الجيش الذي يتلقى أوامره من الدولة الأم.
على العموم فالمفاجأة الحقيقة لا تأتي من النقاش الدائر حول الكتاب, بل من مكان يتصل بمتن الكتاب نفسه. هو المقدمة التي كتبها المؤلف, ألبير ميمي, بذاته, للطبعة العبرية من كتابه. المقدمة التي تحدث فيها عن بدء النظر لإسرائيل كظاهرة استعمارية في الشرق على يد الأكاديمي و المستشرق مكسيم رودنسون و عن نظريته تلك التي تقبلها أعداء إسرائيل كبركة من السماء و تم نشرها في كل الصحف العربية بشكل موسع. لا يخفي هنا ميمي لهجة كارهة ل"أعداء إسرائيل", و على رأسهم العرب طبعا. فيما يبدو كاعتذار كتأخر و أخرق عن الفهم "المغلوط" لكتابه المهم. هذا يتجلى في اختياره بعض الحقائق لإبرازها و إخفاء البعض الآخر, فهو لا يتحدث عن كتاب رودنسون حول النبي محمد "ص" و الذي تناوله بشكل علماني و نقدي, و تم منع تدريسه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ سنوات, و إنما يشير إلى أن رودنسون, "ستاليني لم يكفر عن خطأه", و كأن ستالينيته هذه هي إشارة ذات صلة, كأنها هي ما دفعته لربط إسرائيل بالظاهرة الاستعمارية. لماذا لا يبرز ميمي المعلومة حول كتاب رودنسون عن النبي محمد "ص"؟ لأنه في مجتمع معاد للمسلمين كالمجتمع الإسرائيلي, ستسهم هذه المعلومة في إضفاء مصداقية على رودنسون, أي ستسهم في تقوية مجاز إسرائيل و فرنسا في الجزائر.
يجد ميمي نفسه مضطرا للدفاع عن إسرائيل, و ينفي بشكل قاطع كونها ظاهرة استعمارية. يحمد هو الله كثيرا على عدة أمور تفصل إسرائيل عن ظاهرة الاستعمار: "ليس ثمة دولة أم نعتمد عليها, لا استغلال اقتصادي, لا سيطرة على الثروات و لا إدارة مباشرة". يتحدث ألبير ميمي عن "نحن" هذه كثيرا. هو ليس إسرائيليا و إنما تونسي, غير أنه يهودي. على العموم, من الواضح أن ضمير "نحن" هذا ليس هو وحده ما يثير الأسف. لا ننسى أنه كذلك يقول كل هذا الكلام بينما إسرائيل تقمع بوحشية مطردة لسنوات خمس "تمردا" قام به "الأهالي" , حتى و إن اخذ التمرد شكلا دينيا يعترف هو به في تحليله لصورة المستعمَر, و بينما إسرائيل توثق روابطها مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود طويلة و يصير حتما عليها هذه الأيام تعليم "الأهالي" القيم الغربية التي تمثلها هي. بينما إسرائيل غارقة حتى أذنيها في تصوير مجتمع البدائيين الذي حولها, مما يؤكد كل نظرياته حول صورة المستعمَر (الجدار العازل هو الدليل الأبرز لهذا, إسرائيل تفصل جسدها عن عدوى السود البدائيين المحيطين بها, مع عدم استعدادها أبدا لإرجاع جيشها و مستوطنيها إليها, فهم يمارسون دورا مهما جدا في السيطرة على الجسد الآخر, وبهذا يكون الجسد الأول أكثر ثراء و نقاء من العدوى).
لم يكن ميمي مضطرا بالطبع لدحض مجاز إسرائيل= فرنسا في الجزائر, فلم يطلب منه أحد هذا, و لا أحد قد طرحه, بخلاف الوعي القوي الذي يثيره كتابه المهم لفهم الشرق الأوسط, رغما عنه بالطبع, و بخلاف قوة الذاكرة التي تجعل القارئ الإسرائيلي يشعر أن هذا الكلام إنما يتعلق بشيء يعرفه جيدا و يراه يوميا, و أن الأمر ربما يتعلق بإله التاريخ الذي يعيد لعبته مجددا على هيئة كوميديا صارخة بعد الدورة التراجيدية الأولى, يظهر مجازات مسكوت عنها على السطح بعد أن كانت مدفونة ضمن ركام اللاوعي لسنوات طوال, و يدفع إلى المحرقة مجازات أخرى عملت على الدوام على توجيه الوعي وفق وجهات معينة, تتصل بالتقوقع البليد حول الذات.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟