|
هكذا وقع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963
حامد الحمداني
الحوار المتمدن-العدد: 1455 - 2006 / 2 / 8 - 09:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الظروف التي ساعدت،ومهدت للانقلاب في ظل الظروف التي سادت العراق منذُ عام 1959 ، حيث بدأت الانتكاسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية الوطنية من جهة ، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم ، من جهة أخرى تلك الانتكاسة التي تتحمل كافة الأحزاب السياسية ، و عبد الكريم قاسم نفسه مسؤوليتها، حيث تآمرت الأحزاب القومية على الثورة منذ منتصف عامها الأول ، وغلّب كل حزب مصالحه الذاتية على المصلحة العليا للشعب والوطن ، وحيث عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة ، وسعيه الحثيث إلى تحجيم الحزب الشيوعي ، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، ولجوئه إلى سياسة توازن القوى بين حماة الثورة والقوى التي تآمرت عليها ، واتخاذه سياسة التسامح ، والعفو عن المتآمرين الذين تآمروا على الثورة { سياسة عفا الله عما سلف } التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها ، حيث أطلق سراحهم من السجن ، وأعاد عدد كبير من الضباط الذين سبق وأن أحيلوا على التقاعد بعد مؤامرة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل ، إلى مراكز حساسة في الجيش . وفي الوقت نفسه أقدم على اعتقال وسجن خيرة المناضلين المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها ومسيرتها ، واحالهم إلى المجالس العرفية العسكرية التي أصدرت بحقهم أحكاماً بالسجن لمدد طويلة ، وتسريحه لعدد كبير من الضباط كان من بينهم الدورة 13 للضباط الاحتياط البالغ عددهم [1700] ضابط ، وكذلك ضباط الصف المشهود لهم بالوطنية الصادقة ، والدفاع عن الجمهورية الوليدة ، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف ، وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة ، وقيادتها . كما لجأ عبد الكريم قاسم إلى تجريد المنظمات الجماهيرية ، التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ، ومكتسباتها ، من قياداتها المخلصة ، والأمينة على مصالح الشعب والوطن ،والتي جادت بدمائها من أجل الثورة ، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه ، وتسليمها للقوى المعادية للثورة بهدف إضعاف الحزب الشيوعي ، وهذه أهم الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال ، والتي كان لها الأثر الحاسم في وقوع ، ونجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963 : 1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية ، وإنهاء وجودها فيما بعد ، واعتقال معظم قادتها المخلصين للثورة وقيادتها . لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في إقدامه على حل المقاومة الشعبية ، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها ، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية ، حتى أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب ، وكانت المقاومة الشعبية ، نتيجة الحرص الزائد على الثورة ، قد أوقعت نفسها بأخطاء عديدة ، ما كان لها أن تحدث ، استغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة ، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها وتجميد صلاحياتها ، ومن ثم إلغائها . لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء لا في إلغاء المقاومة الشعبية وهي الدرع الحصين للثورة ، بل في إصلاحها ، وإعادة تنظيمها ، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة ، فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط ، لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة ، ونجاحها في اغتيال الثورة ، واغتياله هو بالذات ، وإغراق العراق بالدماء . لقد وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي ، وليس من الرجعية ، وعملاء الإمبريالية . إن الحزب الشيوعي لم يفكر يوماً ما في الغدر بعبد الكريم قاسم ، أو المساس بقيادته ، بل بقي حتى اللحظات الأخيرة من حكمه كان يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار ، وذاد عن سلطته ، وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 963 ، وهو اعزل من السلاح ، مستخدماً كل ما يملك ، وحتى الحجارة لمقاومة الانقلاب ، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين ، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف : {باسم العامل والفلاح ، يا كريم أعطينا سلاح}، ولكن دون جدوى ، حتى أحاط الانقلابيون وزارة الدفاع بدباباتهم ، وجرى قصفها بالطائرات والمدافع حتى انهارت مقاومة عبد الكريم قاسم ، واستسلامه فيما بعد . إن استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين كان خطأ آخر وقع فيه ،فقد أعتقد أن هناك أملاً في أن يعفُ عنه الانقلابيون ،ويسفرونه إلى الخارج ،أو ربما حوكم محاكمة قانونية عادلة ،أو سجن لفترة من الزمن ،ولم يدرْ في خلده أن حقدهم عليه وعلى ثورة 14 تموز المجيدة جعلتهم يصممون على تصفيته وتصفية كافة أعوانه وكل الوطنيين المخلصين لشعبهم ووطنهم ولثورة تموز المجيدة . كنت أتمنى أن يستشهد عبد الكريم قاسم وهو يدافع عن الثورة ، وعن نفسه ، كما فعل من بعده الشهيد [سلفادور اليندي ] ، رئيس جمهورية شيلي، عام 1972 ، حينما أقدمت الإمبريالية الأمريكية على تدبير الانقلاب الفاشي فيها ، ولا يقع بأيدي الانقلابيين الذين تطاولوا عليه بأبشع وأخس العبارات ، قبل تنفيذ الإعدام به ، وبرفاقه الشجعان المهداوي ، وطه الشيخ أحمد ، وكنعان حداد . 2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه ، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدد كبير من الضباط المخلصين للثورة ، ولقيادته ، فقد أحال على سبيل المثال ، قائد الفرقة الثانية في كركوك ، الشهيد ، الزعيم الركن [ داوود الجنابي ] ، وعدد من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959 . كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [ هاشم عبد الجبار ] ، آمر اللواء العشرين ، المعروف بوطنيته الصادقة ، والذي أفشل خطط الانقلابيين ، يوم جرت محاولة اغتياله في شارع الرشيد ، وأحكم سيطرته على بغداد ، وأحلّ محله الزعيم [صديق مصطفى ] ، المعروف بعدائه للقوى التقدمية ، ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963 عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب ، وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد ، الذين جرى دفنهم بقبور جماعية . كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [ فاضل البياتي ] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب ، وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين ، كان من بينهم ، الرئيس [حسون الزهيري ] والرئيس [كاظم عبد الكريم] ، والمقدم [خزعل السعدي ]، وغيرهم من الضباط الذين عرفوا بإخلاصهم للثورة وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر ، الرائد [خالد مكي الهاشمي ] ، الذي كان له ، ولكتيبته الدور الأساسي في الانقلاب ، حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع مقر عبد الكريم قاسم . 3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية ، وتعيين العقيد الطيار [ عارف عبد الرزاق ] الذي أعاده للجيش ، بعد أن كان قد أحاله على التقاعد ، وكان لتلك القاعدة ، ولآمرها دور هام جداً في نجاح الانقلاب ، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع . 4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك ، وتعيين المقدم الطيار[ حردان عبد الغفار التكريتي] آمراً لها ، وكان له الدور الكبير في الانقلاب ، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته . 5 ـ تنحية العقيد [ عبد الباقي كاظم ] مدير شرطة بغداد ، وتعين العقيد[طه الشيخلي] المعروف بعدائه للثورة ، ولسائر القوى التقدمية ، وثبوت مشاركته في الانقلاب . 6 ـ إعادة 19من الضباط القوميين ، والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد ،جرى ذلك في أوائل آب 1959 ، وكان من بينهم العقيد[عبد الغني الراوي ] ، والذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب . 7 ـ أحال العقيد [حسن عبود ] آمر اللواء الخامس ، وآمر موقع الموصل على التقاعد في كانون الثاني 1961 ، وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل ، وذاد عن الثورة ، وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه . 8 ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية ، وتعين الزعيم الركن [ سيد حميد سيد حسين ] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية ، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق ، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب العراق ، كما أحال عدد كبير من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد . 9 ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13،المتخرجين عام 959 ،والبالغ عددهم 1700 ضابط من الخدمة في الجيش ،بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها . 10 ـ تنحية المقدم الركن [ سليم الفخري ] المدير العام الإذاعة ،وتسليمها لعناصر لا تدين بالولاء للثورة ،وقيادتها . وقد وصفت صحيفة [ صوت الأحرار ] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد أصبحت وكراً للانتهازيين ،والرجعيين ،بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها . كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة ، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب . وكان لذلك تأثير كبير على معنويات الجيش والشعب ، عندما سارع الانقلابيون إلى الإعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإحباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب ، ومعلوم أن عبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي ، 9 شباط ، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير ، غير المذاع ، لما نجح الانقلاب . 11 ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة ، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم ،وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها ،فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد . 12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية ، كمنظمة أنصار السلام ، واتحاد الشبيبة الديمقراطية ، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة ،ولجان الدفاع عن الجمهورية ، ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال ، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية ، ونقابات المعلمين ، والمهندسين ، والأطباء ، والمحامين ، وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات ، وتسليمها إلى أعداء الشعب . 13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف ، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد ، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته ، وعن جميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم في 11 حزيران 962 ، في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين ، والديمقراطيين رهائن في السجون ، وليأتي الانقلابيون فيما بعد لينفذوا جريمة قتل أعداد كبيرة منهم . لقد شجعت سياسة العفو ، والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين ، واستمرارهم في التآمر ، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يردهم عن التآمر . 14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسالة الصراع مع القوى المضادة للثورة ،الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي ، الذي أحدث ثورة اجتماعية ، سلبت السلطة من الإقطاعيين دعائم الإمبريالية . ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون ، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد ، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين . لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها ، وإضعاف السلطة وعزلها عن الشعب . 15 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط ، من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية ، والحفاظ على استقلاله الوطني ، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961 ، والذي أنتزع بموجبه 99,9% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات ، والعمل على استغلالها وطنياً . لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط ، وتبادل الطرفان التهديدات ، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي ، وكان الوفد يعني ما يقول ، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها ، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة ، والحذر من أحابيل ، ومؤامرات شركات النفط ، حرصاً على مصالحها ، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء. 16ـ قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ]و [عباس مامند] ، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تلك الحركة ، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة ، وشق جبهة الاتحاد الوطني ، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط ، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان ، وعباس مامند ، المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران]. ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران " هولمز " بالشيوخ المتمردين وتم إرسال [ علي حسين أغا المنكوري ] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية ، وبإشراف خبراء أمريكان ، ليفرض سيطرته على ناحية [ تاودست ] ، كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة ، وبريطانيا عن طريق إيران . ولا شك في أن عبد الكريم قاسم يحتمل جانباً كبيراً من المسؤولية في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح . 17 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق ، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد ، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ، ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك ، لم يكن يدين بالولاء لا للثورة ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم ، وكان لها دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية والحركات التآمرية عن السلطة ، وحماية المتآمرين . ومما يؤكد هذا ، الحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام [ مجيد عبد الجليل ] الذي جيء به إلى دار الإذاعة ، التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم ، وقام علي صالح السعدي ، أمين سر حزب البعث ، بالبصق في وجهه ، فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له : { لماذا تبصق في وجهي ؟ فلولاي لما نجح الانقلاب } ، وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم . ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن ، والذي أنيط به حماية الثورة من المتآمرين ، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة ،وكان على رأسهم ،رئيس الجهاز[محسن الرفيعي ] ومن قبله [ رفعت الحاج سري ]الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف ، وحكم عليه بالإعدام ، ونفذ الحكم فيه . كما أن موقف رئيس أركان الجيش ، والحاكم العسكري العام [ أحمد صالح العبدي ] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين ، والسكوت عن تحركاتهم ، فلم ينل منهم أذى ، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل ، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها . 18 ـ قيام الطلاب البعثيين ، والقوميين بإضراب عام ، ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني . 19ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسالة الصراع مع القوى المضادة للثورة ،الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي ، الذي أحدث ثورة اجتماعية ، سلبت السلطة من الإقطاعيين دعائم الإمبريالية . ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون ، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد ، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين . لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها ، وإضعاف السلطة ، وعزلها عن الشعب . 20 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط ، من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية ، والحفاظ على استقلاله الوطني ، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961 ، والذي أنتزع بموجبه 99,9% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات ، والعمل على استغلالها وطنياً . لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط ، وتبادل الطرفان التهديدات ، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي ، وكان الوفد يعني ما يقول ، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها ، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة ، والحذر من أحابيل ، ومؤامرات شركات النفط ، حرصاً على مصالحها ، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء. 21ـ قيام الطلاب البعثيين ، والقوميين بإضراب عام ، ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني ، مستخدمين كل الوسائل والسبل ، بما فيها العنف ، لمنع الطلاب من مواصلة الدراسة ، ولم يكن موقف السلطة من الإضراب يتناسب وخطورته ، فقد اتخذت السلطة جانب اللين مع المضربين ، ولم تحاول كبح جماحهم ، وكسر الإضراب ، وكان ذلك الإضراب بداية العد التنازلي لتنفيذ الانقلاب . ولابد أن أشير هنا إلى الدور الذي لعبته سفارة العربية المتحدة في دعم الإضراب ، وطبع المنشورات ، وقد اضطرت الحكومة العراقية إلى طرد أحد الملحقين في السفارة في 24كانون الثاني 1963 .
مَنْ أعدّ وساهم في الانقلاب ؟ لاشك في أن الدور الأول في الإعداد للانقلاب كان لشركات النفط ، بعد أن أقدم عبد الكريم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 961 ، بعد صراع مرير مع تلك الشركات ، والتهديدات التي وجهتها إلى حكومة الثورة ، ذلك لأن النفط بالنسبة للدول الإمبريالية أمر لا يفوقه أهمية ، أي أمر آخر ، ولذلك نجد أن جَلّ اهتمام هذه الدول ، وعلى رأسها الولايات المتحدة ، هو الاستحواذ على منابع النفط ، وإحكام سيطرتهم عليها . ولما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز ، واتخذت لها خطاً مستقلاً ، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية ، هالهم الأمر ، وصمموا منذُ اللحظات الأولى على إجهاض الثورة ، والقضاء عليها ، وبالفعل نزلت القوات البريطانية في الأردن ، والأمريكية في لبنان ، وحشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية من أجل العدوان على العراق . إلا أن موقف الاتحاد السوفيتي المساند للحكومة الثورية الجديدة ،وتحذيره للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق ،وحشد قواته على الحدود التركية ،وتحذيرها من أي محاولة للتدخل والعدوان ،كل تلك الإجراءات أسقطت في يد الإمبريالية ،وجعلتهم يفكرون ألف مرة قبل الإقدام على أي خطوة متهورة . وهكذا جاءت الريح كما لا تشتهي السفن ،كما يقول المثل ،غير أن الإمبرياليين لم يتركوا مسألة إسقاط الثورة أبداً ،بل بادروا إلى تغير خططهم بما يتلاءم والظروف الجديدة ،محاولين إنهاء الثورة من الداخل ،مجندين حزب البعث ،وطائفة من القوى القومية ،لتنفيذ أهدافهم الشريرة . فلقد ذكر [ علي صالح السعدي ] أمين سر حزب البعث ،في مؤتمر صحفي عقده بعد وقوع انقلاب عبد السلام عارف ضد حكم البعث قائلاً [ لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي ] . كما ذكر الملك حسين ، ملك الأردن،في مقابلة أجراها معه [ محمد حسنين هيكل ] رئيس تحرير صحيفة الأهرام في فندق [ كريون] في باريس حيث قال الملك : {تقول لي أن الاستخبارات الأمريكية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 957 ، أسمح لي أن أقول لك أن ما جرى في العراق في 8 شباط 963 قد حضي بدعم الاستخبارات الأمريكية ، ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر ،ولكنني اعرف الحقيقة . لقد عقدت عدة اجتماعات بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية ، وعقد أهم تلك الاجتماعات في الكويت ،وأزيدك علماً أن محطة إذاعة سرية كانت قد نصبتها الاستخبارات الأمريكية في الكويت ،وكانت تبث إلى العراق وتزود يوم 8 شباط ، رجال الانقلاب بأسماء الشيوعيين وعناوينهم للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم }. كما أن أحد أعضاء قيادة حزب البعث عام 963 ، طلب عدم ذكر أسمه ، قد ذكر لمؤلف كتاب العراق ، الكاتب [ حنا بطاطو ] أن السفارة اليوغسلافية في بيروت حذرت بعض القادة البعثيين من أن بعض البعثيين العراقيين يقيمون اتصالات خفية مع ممثلين للسلطة الأمريكية .وهذا ما فيه الكفاية عن الدور الذي لعبته الإمبريالية في الإعداد للانقلاب . لقد حكم الانقلابيون البعثيون مدة تسعة أشهر كان إنجازهم الوحيد خلالها هو شن الحرب الهوجاء على الشيوعيين والديمقراطيين ، وكانت تلك الأشهر بحق أشهر الدماء والمشانق ، والسجون والتعذيب ، وكل الأعمال الدنيئة ، التي يندى لها جبين الإنسانية ، حتى وصل الأمر بعبد السلام عارف ، شريكهم في الانقلاب ، ورئيس جمهوريتهم بعد انقلاب شباط ، أن أصدر كتاباً ضخماً عن جرائمهم ،وأفعالهم المشينة ، سماه [ المنحرفون] . من هم الانقلابيون ؟ ضم فريق الانقلابيين حزب البعث بقيادة كل من : علي صالح السعدي ، وأحمد حسن البكر ، وطالب شبيب ، وحازم جواد ، ومسارع الراوي ، وحمدي عبد المجيد ، والضباط البعثيين ، عبد الستار عبد اللطيف ، والمقدم المتقاعد عبد الكريم مصطفى نصرت ، وصالح مهدي عماش ،وحردان عبد الغفار التكريتي ،ومنذر الونداوي ، بالإضافة إلى القوى القومية التي ضمت كل من : عبد السلام عارف ،وطاهر يحيى ، وعارف عبد الرزاق ،وعبد الهادي الراوي ورشيد مصلح وعبد الغني الراوي ،وعدد آخر من صغار الضباط .
تنفيذ الانقلاب في 8 شباط 1963 : أختار الانقلابيون الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة الموافق للثامن من شباط 963 ، وكانت لهم حساباتهم في هذا الاختيار ، فيوم الجمعة يوم عطلة ، ولا يتواجد في المعسكرات سوى الضباط الخفر،وكانوا قد رتبوا مسبقاً خفارة الضباط المتآمرين في ذلك اليوم ، ليسهل عليهم عملية تنفيذ الانقلاب . كما أن قيام الانقلاب في الساعة التاسعة صباحاً أمر غير متوقع ، حيث جرت العادة بوقوع الانقلابات العسكرية في الساعات الأولى من الفجر ، ورغم وصول إشارة إلى وزارة الدفاع قبل ساعة ونصف من وقوع الانقلاب ، إلا أن آمر الانضباط العسكري ، الزعيم الركن عبد الكريم الجدة لم يأخذ ذلك على مأخذ الجد ، وأعتقد أن ذلك نوع من الخيال . يقول أحد الضباط الوطنيين المتواجدين في وزارة الدفاع يوم الانقلاب ، وكان ضابط الخفر ذلك اليوم : { دق جرس الهاتف في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم ، الثامن من شباط ،وأسرعت لرفع سماعة الهاتف وإذا بشخص مجهول يحدثني قائلاً: إنني أحد الذين استيقظ ضميرهم ، ووجدت لزاماً على نفسي أن أبلغكم بأن انقلاباً عسكرياً سيقع ضد عبد الكريم قاسم في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم ، ينطلق من قاعدة الحبانية الجوية ،وكتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب ،ثم أغلق الهاتف ، ثم يضيف الضابط الخفر قائلا ، أسرعت بالاتصال بالزعيم عبد الكريم الجدة ، آمر الانضباط العسكري ، أبلغته بالأمر فما كان منه إلا أن أجابني قائلاً : {هل أنت سكران يا هذا ؟ كيف يقع انقلاب عسكري في يوم 14 رمضان ، والزعيم صائم !! والناس صيام !!، وفي مثل هذا الوقت الذي تتحدث عنه ضحى ، فلم يسبق أن وقع انقلاب عسكري في وضح النهار ثم أغلق الزعيم الجدة سماعة الهاتف }. كان ذلك الموقف من عبد الكريم الجدة يمثل سوء التقدير للوضع السياسي في البلاد ، فقد كان الجو السياسي مكفهراً ، ونشاط المتآمرين يجري على قدم وساق ، وإضراب الطلاب على أشده ، كما أن الحزب الشيوعي كان قد أصدر بياناً في 3 كانون الثاني 963 ،وزع بصورة علنية ،وعلى نطاق واسع ، حذر فيه من خطورة الوضع ومما جاء فيه : { وهناك معلومات متوفرة تشير إلى الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد ، ولواء المشاة التاسع عشر الآلي قد أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين ، والمغامرين الذين يأملون تحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد ،ولقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض ،وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة وعدد الزيارات التي يقوم بها كبار الجواسيس الأمريكيين لبلدنا ،وووجه الحزب نداءه لعبد الكريم قاسم لأجراء تطهير واسع ،وفعال في صفوف الجيش } . إلا أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بذلك التحذير مأخذ الجد ، معتقداً أن ذلك لا يعدو أن يكون تهويلاً يستهدف أهدافاً حزبية ضيقة . كان الأولى بعبد الكريم الجدة ،الاتصال بعبد الكريم قاسم فوراً واستنفار كل الأجهزة ، والقوات العسكرية، وسائر الضباط الذين لا يشك بولائهم للثورة وخاصة قائد القوة الجوية ، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث . وُزعت الأدوار على الضباط الانقلابيين ، ومنظمات حزب البعث ، وأفراد الحرس القومي ، الذي أُعد مسبقاً ودُرب وجُهز بالسلاح !! ،وجعلوا ساعة الصفر اغتيال قائد القوة الجوية الشهيد [جلال الأوقاتي] . كان البعثيون قد رصدوا حركته ، حيث أعتاد صباح كل يوم جمعة أن يخرج لشراء الفطور بنفسه وترصدوا له ذلك اليوم وهو خارج وبصحبته ولده ، حيث أطلقوا عليه النار ، وأردوه قتيلاً في الحال ،وجرى الاتصال بالزمرة الانقلابية ، وتم إبلاغهم باغتيال الأوقاتي ، وعند ذلك تحرك المتآمرون ، حيث قاموا بقطع البث من مرسلات الإذاعة في أبو غريب ، وتركيب تحويل في مرسلات الإذاعة ، وبدأ البث فيها من هناك قبل استيلائهم على دار الإذاعة . وفي نفس الوقت قام منذر الونداوي بطائرته من قاعدة الحبانية ، وحردان التكريتي من القاعدة الجوية في كركوك بقصف مدرج مطار الرشيد العسكري وتم حرثه بالقنابل لشل أي تحرك للطيارين الموالين للسلطة ، وبعد أن تم لهم ذلك بادروا إلى قصف وزارة الدفاع . وفي تلك الأثناء سمع عبد الكريم قاسم أصوات الانفجارات باتجاه معسكر الرشيد ، فبادر على الفور بالذهاب إلى وزارة الدفاع ، وتحصن فيها ، وكان ذلك الإجراء في غاية الخطورة ، إذ كان الأجدى به أن يتوجه بقواته المتواجدة في وزارة الدفاع إلى معسكري الرشيد ، القريب من مركز بغداد والسيطرة عليه ،ومن ثم الانطلاق نحو الأهداف التي تمركز فيها الانقلابيون ، بالاستناد إلي جماهير الشعب الغفيرة التي هبت حال سماعها بنبأ الانقلاب تطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين . لكن عبد الكريم قاسم حصر نفسه في وزارة الدفاع ، على الرغم من تحذير الزعيم الركن [ طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية ، الذي أشار عليه إلى ضرورة استباق المتآمرين ومهاجمتهم قبل توسع الحركة وسيطرتهم على معسكري الوشاش والرشيد ، لكن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بنصيحته مما سهل على الانقلابيين تطويق الوزارة ، وقصفها بالطائرات والمدفعية ، قصفاً مركزاً حتى انهارت مقاومة قواته . ربما أعتقد عبد الكريم قاسم أن وجوده في وزارة الدفاع المحصنة ، يمكّنه من الاتصال بالوحدات العسكرية الموالية له !! ولكن خاب ظنه ،بعد كل الذي فعله بإبعاد كل العناصر الوطنية الصادقة والمخلصة ، واستبدلهم بعناصر انتهازية لا مبدأ لها ، ولا تدين بالولاء الحقيقي له وللثورة ، و سارع معظمهم إلى إرسال برقيات التأييد للانقلابيين ، وانكفأ البعض الأخر في بيته ، وكأن الأمر لا يعنيه ، سواء بقي عبد الكريم قاسم ،أم نجح الانقلابيون . لقد أنتحر عبد الكريم قاسم ، ونحر معه الشعب العراقي وكل آماله وأحلامه التي ضحى من أجلها عقوداً عديدة مقدماً التضحيات الجسام . توجه [عبد السلام عارف] إلى [ معسكر أبي غريب ] ،حيث وصل مقر كتيبة الدبابات الرابعة ، وانضم إليه [ أحمد حسن البكر ] ، واستقلا كلاهما إحدى الدبابات ، وتوجها إلى دار الإذاعة ، وبصحبتهما دبابة أخرى ، وساعدهم حرس دار الإذاعة ، المشاركين في الانقلاب على السيطرة عليها ثم التحق بهم كل من حازم جواد ، وطالب شبيب ، وهناء العمري ، خطيبة علي صالح السعدي ، أمين سر حزب البعث ، أما خالد مكي الهاشمي فقد أندفع بدباباته متوجهاً إلى بغداد ، رافعاً صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب التي ملأت شوارع بغداد لتدافع عن الثورة وقيادتها . وفي نفس الوقت ، وصل العقيد [ عبد الغني الراوي ] إلى مقر لواء المشاة الآلي الثامن في الحبانية ، وتمكن بمساعدة أعوانه من الانقلابيين من السيطرة على اللواء المذكور ، وتحرك به نحو بغداد ، كما نزل المئات من أفراد الحرس القومي على طول الطريق بين الحبانية وأبو غريب ، حاملين أسلحتهم، وقد وضعوا إشارات خضراء على أذرعهم ، وتقدمت قوات الانقلابيين بقيادة المقدم المتقاعد [عبد الكريم مصطفى نصرت ] ، وأحاطت بوزارة الدفاع ، كما تقدمت قوة أخرى من الطرف الثاني لنهر دجلة ، مقابل وزارة الدفاع ، متخذة لها مواقع مقابل وزارة الدفاع ، وبدأت قصفها للوزارة بالمدفعية الثقيلة . كانت جموع غفيرة من أبناء الشعب قد ملأت الساحة أمام وزارة الدفاع ، والشوارع المؤدية لها وهي تهتف للثورة وقائدها عبد الكريم قاسم ، وتطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين . لقد حدثني أحد الأخوة الذي كان متواجداً في تلك الساعة مع الجماهير المحيطة بالوزارة ، والمستعدة للتضحية والفداء دفاعاً عن الثورة فقال : تجمعنا حول وزارة الدفاع حال سماعنا بوقوع الانقلاب ، وكانت أعدادنا لا تحصى ، فلقد امتلأت الشوارع والطرقات بآلاف المواطنين الذين جاءوا إلى الوزارة وهم يهتفون بحياة الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم ، ويطالبونه بالسلاح للدفاع عن الثورة منادين { باسم العامل والفلاح ، يا كريم أعطينا سلاح } ، كان الجو رهيباً والجموع ثائرة تريد السلاح للانقضاض على المتآمرين ، وكان عبد الكريم يرد عليهم { إنهم مجرد عصابة مأجورة لا قيمة لها ، وسوف نقضي عليهم في الحال } . وهكذا أخطأ عبد الكريم مرة أخرى في حساباته ، ولم يستمع إلى صوت الشعب ، وتحذيره ، ولم يقدر خطورة الوضع ، وكان لا يزال على ثقة بأولئك الذين أعتمد عليهم ، وبوأهم أعلى المناصب السياسية والعسكرية والإدارية ، سوف يؤدون واجبهم لحماية الثورة ، وسحق المتآمرين ، ولكن تلك الزمر الانتهازية الخائنة أسفرت عن وجهها الحقيقي ، فقسم منها أشترك اشتراكاً فعلياً مع المتآمرين ، والقسم الآخر آثر الجلوس على التل دون حراك ، فلا تهمهم الثورة ، ولا الشعب ، ولا عبد الكريم قاسم . ثم يضيف الأخ قائلاً : في تلك الأثناء وصلت أربع دبابات ، تحمل في مقدمتها صور عبد الكريم قاسم ، استخدمتها لتضليل جماهير الشعب لكي يتسنى للانقلابيين عبور الجسر نحو جانب الرصافة حيث وزارة الدفاع ، وكانت الجماهير قد أحاطت بالجسور ، وقطعتها ، واعتقدت أن هذه الدبابات جاءت لتعزز موقف عبد الكريم قاسم . وعندما وصلت تلك الدبابات إلى وزارة الدفاع ، استدارت ظهرها نحو الوزارة وبلحظات بدأت رشاشات [الدوشكا] المنصوبة عليها تطلق رصاصها الكثيف على الجماهير المحتشدة ، وتخترق أجسادهم بالمئات . لقد غطت الجثث والدماء تلك الشوارع والساحة المقابلة لوزارة الدفاع ، خلال عشرة دقائق لا غير ، وكانت مجزرة رهيبة لا يمكن تصورها ، ولا يمكن أن يدور في خلد أي إنسان أن يجرأ المتآمرون على اقترافها . ولم تكتفِ دبابات المتآمرين بما فعلت ، بل جاءت الطائرات لتكمل المجزرة ، موجهة رشاشاتها حتى نحو الجرحى الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة . ثم بدأ بعد ذلك القصف المركز على وزارة الدفاع بالطائرات ومدافع الدبابات التي أحاطت بالوزارة من جانبي الكرخ والرصافة وبدأت القذائف تنهال عليها ، والقوات المتواجدة داخلها ترد على القصف بما تملك من أسلحة وعتاد ، إلا أن المقاومة بدأت تضعف شيئاً فشيئاً ، دون أن يأتي أي إسناد من أي من القطعات العسكرية التي كان عبد الكريم يعتمد عليها ، لأنه كان في وادٍ، وأولئك الخونة في وادٍ آخر ، وادي الخونة والخيانة . وفيما كانت عملية القصف تتواصل ، تقدمت قوات أخرى نحو معسكر الرشيد ومقر الفرقة الخامسة ، واللواء التاسع عشر ، وحيث هناك المعتقل رقم واحد ، الذي كان عبد الكريم يحتجز فيه عدد من الضباط البعثيين ، والقوميين ، حيث تم إطلاق سراحهم ليشاركوا في الانقلاب ، وتمكنت قوات الانقلابيين من السيطرة على المعسكر ، ومقر الفرقة ، ووقع بأيديهم مجموعة من الضباط الوطنيين المعتقلين هناك ، حيث نفذ الانقلابيون مجزرة أخرى بالعديد منهم ، ومُورس التعذيب الشنيع بالبعض الأخر .
الحزب الشيوعي يتصدى للانقلابيين ويصدر بياناً يدعو إلى مقاومتهم : منذُ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب سارع الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان وُزع على جماهير الشعب صباح ذلك اليوم دعا فيه القوات العسكرية الوطنية وجماهير الشعب إلى التصدي للانقلابيين ، بكل الوسائل والسبل ، ومما جاء في البيان : {إلى السلاح ! اسحقوا المؤامرة الرجعية الإمبريالية } . أيها المواطنون ، يا جماهير شعبنا العظيم المناضل ، أيها العمال ، والفلاحون والمثقفون ، وكل الوطنيين والديمقراطيين الآخرين : لقد دق جرس الخطر ...استقلالنا الوطني يتعرض للخطر العظيم ، إنجازات الثورة تحدق بها المخاطر . لقد قامت عصابة حقيرة من الضباط الرجعيين والمتآمرين بمحاولة يائسة للاستيلاء على السلطة استعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الإمبريالية والرجعية ، بعد أن سيطروا على محطة البث الإذاعي في أبو غريب ، وانكبوا على إنجاز غرضهم الخسيس فإنهم يحاولون الآن تنفيذ مجزرة بحق أبناء جيشنا الشجاع . يا جماهير شعبنا المناضل الفخور ! إلى الشوارع ، اقضوا بحزم وقسوة على المتآمرين والخونة، طهروا بلدنا منهم ، إلى السلاح دفاعاً عن استقلال شعبنا ومكتسباته ، شكلوا لجان دفاع في كل ثكنة عسكرية ، وكل مؤسسة ، وكل حي وقرية ، وسيُلحق الشعب ، بقيادة قواه الديمقراطية ، الخزي والهزيمة بهذه المؤامرة الجبانة ، كما فعل بمؤامرات الكيلاني ، والشواف وآخرين . إننا نطالب بالسلاح } . ودعا البيان رفاق وجماهير الحزب إلى الاستيلاء على الأسلحة من مراكز الشرطة وتوزيعها على الجماهير ، إلا أن ذلك لم يكن في مستوى الأحداث ، فلم يكن الحزب قد كدس السلاح ، كما فعل الانقلابيون خلال ثلاث سنوات ،ولاشك أن قيادة الحزب تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية في عدم أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع الانقلابيين من تنفيذ جريمتهم ، ولاسيما وأن الحزب كان على علم بما يجري في الخفاء ، وأنه كان قد أصدر بياناً قبل أيام يحذر فيه من وقوع مؤامرة ضد الثورة ، فما هي الإجراءات التي اتخذتها قيادة الحزب لتعبئة رفاقه وجماهيره ، وخاصة في صفوف الجيش ؟ في الوقت الذي كان الحزب لا يزال يتمتع بنفوذ لا بأس به داخل صفوف الجيش ، على الرغم من تصفية عبد الكريم قاسم لمعظم القيادات الشيوعية فيه . ورغم كل ذلك ، فقد أندفع رفاقه وجماهير الشعب التي كانت تقدر بالألوف للذود عن حياض الثورة بكل أمانة وإخلاص ، ووقفوا بجانب عبد الكريم قاسم ، بل أستطيع أن أقول أن الشيوعيين كانوا القوة السياسية الوحيدة التي وقفت بجانبه ، رغم كل ما أصابهم منه من حيف خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من عمر الثورة . لقد أندفع معظم الضباط ، وضباط الصف ، والمسرحين من الخدمة العسكرية إلى الالتحاق بالمقاومة وحماية الثورة ، بناء على دعوة الحزب ، وقدموا التضحيات الجسام ، وسالت دماؤهم على ساحات المعارك مع الانقلابين . كان كل ما يعوز جماهير الشعب هو السلاح الذي كانوا يفتقدونه ، ورغم كل النداءات التي وجهوها إلى عبد الكريم قاسم للحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين ، في أول ساعات الانقلاب ، إلا أن نداءاتهم ذهبت أدراج الرياح . ربما كان قاسم يتوقع من أولئك الذين أعتمد عليهم ، في القوات المسلحة أن يقمعوا الانقلاب ، ولكنهم كانوا في وادٍ آخر ، وربما خاف قاسم من إعطاء السلاح للحزب الشيوعي على مستقبله السياسي إذا ما تم قمع الانقلاب على أيدي الشيوعيين ، وفي كلتا الحالتين كان قاسم مخطئاً ، ودفع حياته ، ومستقبل الشعب ثمناً لتلك الأخطاء التي أرتكبها طيلة فترة حكمه . عبد الكريم قاسم يحاول توجيه خطاب للشعب والقوات المسلحة ٍ في الوقت الذي كان فيه القصف المركز يجري على وزارة الدفاع ، والقوات الانقلابية تحيط بها ، حاول عبد الكريم قاسم تسجيل خطاب يوجهه إلى الشعب ، والقوات المسلحة ، يدعوهم لمقاومة الانقلابيين ، وقد تم تسجيل ذلك الخطاب على شريط [ كاسيت ] ، تحت أصوات الانفجارات والقصف ، وأرسله إلى دار الإذاعة مع الرائد [ سعيد الدوري ] ، الذي تبين فيما بعد أنه من المشاركين في الانقلاب ، حيث سلمه للانقلابيين ، كما أن دار الإذاعة كانت قد احتلت من قبل الانقلابيين ، ولذلك لم يتسنَ إذاعة الخطاب ، وقد حصلت على نسخة منه ، وفيما يلي نصه : {إلى أبناء الشعب الكرام ،وإلى أبناء الجيش المظفر }. [إن أذناب الاستعمار ،وبعض الخونة والغادرين والمفسدين ،الذين يحركهم الاستعمار لتحطيم جمهوريتنا ...كلمات غير مفهومة بسبب القصف ،الذين يحاربوننا بحركات طائشة للنيل من جمهوريتنا ، وتحطيم كيانها . إن الجمهورية العراقية الخالدة ،وليدة ثورة 14 تموز الخالدة لا تقهر ...كلمات غير مفهومة بسبب القصف ، وإنها تسحق الاستعمار ،وتسحق كل عميل وخائن . إنما نحن نعمل في سبيل الشعب ،وفي سبيل الفقراء بصورة خاصة ،وتقوية كيان البلاد ، فنحن لا نقهر ، وإن الله معنا أبناء الجيش المظفر والوحدات ، والقطعات ، والكتائب والأفراد ، أيها الجنود الغيارى ، مزقوا الخونة ، اقتلوهم ، اسحقوهم ، إنهم متآمرون على جمهوريتنا ليحطموا مكاسب ثورتنا ، هذه الثورة التي حطمت الاستعمار ، وانطلقت في طريق الحرية والنصر ، وإنما النصر من عند الله ، والله معنا ...كلمات غير مفهومة بسبب القصف ، كونوا أشداء ، اسحقوا الخونة والغادرين ـ دوي شديد ـ أبناء الشعب في كل مكان ـ دوي شديد ـ إنهم خونة ـ قصف ـ إنهم أذناب الاستعمار والله ينصرنا على الاستعمار وعلى أذنابه وأعوانه. ثم يتوقف التسجيل بسبب دوي القصف ،ويعاود الزعيم مرة أخرى : السلام عليكم أبناء الشعب ، أيها الضباط ، أيها الجنود ،أيها الضباط الصف الأشاوس ،أيها العمال الغيارى ،إن الاستعمار يحاول أن يسخر نفراً من أذنابه للقضاء على جمهوريتنا ، لكنه بتصميمنا ،وتصميم الشعب المظفر ،فأننا نحن جنود وشعب 14 تموز الخالد الذي وجه الضربات الخاطفة إلى العهد المباد رغم ... كلمات غير مفهومة بسبب القصف ،رغم الاستعمار،وحرر أمتنا ،واسترد كرامتها ،فان هذا اليوم المجيد ... كلمات غير مفهومة بسبب القصف ،لسحق الخونة والغادرين ... كلمات غير مفهومة . أبناء الشعب ، أبناء الجيش المظفر ، إن النصر أمامنا ،وإننا صممنا على سحق الاستعمار وأعوانه فلا ... كلمات غير مفهومة ،الخونة والغادرين ،فأن الله معكم ، وسوف ... كلمات غير مفهومة ،الظالمون والغادرون والسفاكون ،أذناب الاستعمار ، سوف ...كلمات غير مفهومة ،عندما توجه إليهم الضربات الخاطفة ،وقد باشرنا بتوجيهها إليهم ...كلمات غير مفهومه ،إنني الزعيم عبد الكريم قاسم.....وإننا أقوى ، وأمضى وأشد عزماً وكفاحاً في سبيل الفقراء،والنصر للشعب العراقي المظفر ، والنصر لكم أيها الغيارى ]. عبد الكريم قاسم 8 شباط 1963 هذا هو نص الخطاب الذي لم يستطع عبد الكريم قاسم إذاعته ، فقد فات الأوان واستولى الانقلابيين على دار الإذاعة ، ووقع الشريط الذي يحوي الخطاب بين أيديهم ، وربما كان بالإمكان لو لم تقع دار الإذاعة بأيدي الانقلابيين ، وتم إذاعة البيان ، أن تتحرك بعض القطعات العسكرية الموالية له ، وتتصدى للانقلابيين . كان الانقلابيون يدركون مدى تعلق الشعب العراقي وجيشه بثورة 14 تموز وقيادتها رغم كل الأخطاء التي أرتكبها عبد الكريم قاسم يحق القوى الوطنية المخلصة حقاً وفعلاً ، فالكل يركب سفينة الثورة ،التي إذا غرقت غرق الجميع ولذلك نجد الانقلابيين يعلنون في أول ساعات الانقلاب عن مقتل عبد الكريم قاسم لكي يمنعوا أي تحرك عسكري لإسناده مثل ما فعلوا عندما تقدمت دباباتهم وهي تحمل صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب حتى تتمكن من الوصول إلى وزارة الدفاع . ورغم كل ذلك فقد اندفعت جماهير الشعب تقارع الانقلابيين بكل ما أوتيت من عزم وقوة رغم أنها كانت عزلاء من السلاح ،وخاضت المعارك معهم بالبنادق والعصي والحجارة فيما قابلتهم الدبابات والمصفحات منزلة بهم خسائر فادحة في الأرواح بلغت عدة آلاف من أبناء الشعب . أما [الحرس القومي ] الذي شكله الانقلابيون فقد أندفع أفراده إلى الشوارع ، وهاجموا مراكز الشرطة ، واستولوا على الأسلحة ، وبدءوا يهاجمون جماهير الشعب بكل عنف وقوة موجهين نيران أسلحتهم نحو كل من يصادفونه في طريقهم . واستمرت مقاومة الشعب في بعض مناطق بغداد ، وخاصة في مدينة الثورة ، والشاكرية والكاظمية ، وباب الشيخ ، وحي الأكراد والحرية والشعلة ، لعدة أيام ، ولم يستطع الانقلابيون قمع المقاومة إلا بعد أن جلبوا الدروع لتنفث نار القنابل الحارقة فوق رؤوسهم ، وأصدر الانقلابيون بيانهم المشؤوم رقم 13 الذي يدعو إلى ابادة الشيوعيين الذين تصدوا للانقلاب منذُ اللحظات الأولى ، وشنوا على الحزب الشيوعي حرب ابادة لا هوادة فيها ، حيث اعتقلوا عشرات الألوف من المواطنين ، بينهم 1350 ضابطاً عسكرياً من مختلف الرتب ، وجرى تعذيب المعتقلين بأساليب بشعة لا يصدقها أحد ، واستشهد جراء ذلك المئات من المناضلين تحت التعذيب الشنيع ، وكان من ضحايا التعذيب كل من [ سلام عادل ] السكرتير العام للحزب الشيوعي ، حيث قطع الانقلابيون يديه ورجليه ، وفقأوا عينيه في محاولة لانتزاع الاعترافات منه عن تنظيمات الحزب ، كما استشهد أيضاً من أعضاء اللجنة المركزية كل من : جمال الحيدري ، ومحمد صالح العبلي ، ونافع يونس ، وحمزة سلمان ، وعبد الجبار وهبي ، أبو سعيد ، وعزيز الشيخ ، ومتي الشيخ ،و محمد حسين أبو العيس ، وجورج تللو ، و عبد الرحيم شريف ، وطالب عبد الجبار ، بالإضافة إلى المئات من الكوادر الحزبية ورفاق الحزب ، قضوا جميعاً تحت التعذيب رافضين تقديم الاعترافات عن تنظيمات حزبهم .
موقف قطعات الجيش من الانقلاب : بعد كل الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم منذُ عام 1959 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط ، والمتمثلة في إبعاد أغلب العناصر الوطنية المخلصة ، والكفوءة من المراكز العسكرية ، واستبدالها بعناصر انتهازية ، وأخرى حاقدة وموتورة ، تتربص بالثورة ، وقيادتها ، لم يكن متوقعاً أن تحدث المعجزة ، ويجري التصدي للانقلابيين ، وكل ما حدث أن عدداً من بقايا العناصر الشيوعية في الجيش ، من صغار الضباط ، وضباط الصف ، والجنود ، حاولت مقاومة الانقلابيين بما استطاعوا ولكن دون جدوى ، فلم يكن هناك أدنى توازن للقوى ، بعد أن سيطرت قوى الرجعية على الجيش . ففي بعقوبة تصدى عدد من الضباط ، وضباط الصف والجنود للانقلاب ، إلا أنهم فشلوا في ذلك ، وجرى إعدام فوري لما يزيد على 30 ضابطاً وجندياً . وفي معسكر التاجي ، القريب من بغداد ، حيث توجد هناك محطات الرادار ، حاولت مجموعة أخرى السيطرة على المعسكر ، غير أن الانقلابيين تمكنوا من التغلب على المقاومة بعد قتال عنيف، غير متكافئ ، وجرى الإعدام الفوري لعدد من الضباط الصغار ، وضباط الصف والجنود . كما حدثت مقاومة من جانب عدد من الضباط وضباط الصف ، والجنود ، في منطقة فايدة ، شمال الموصل، لكنها لم تستطع الصمود ، حيث تم للانقلابيين قمعها ، وجرى إعدام فوري لعشرات من الضباط والجنود . أما قادة الفرق ، وكبار القادة العسكريين فلم يحركوا ساكناً ، بل أن قسماً منهم كان له ضلعاً في الانقلاب ، وبشكل خاص محسن الرفيعي ، مدير الاستخبارات العسكرية ، الذي كان يغطي ، ويخفي كل تحركات الانقلابيين ، دون أن يتخذ أي إجراء ضدهم ، ولم ينقل لعبد الكريم قاسم حقيقة ما يجري . ففي 4 شباط ، قبل وقوع الانقلاب بأربعة أيام ، أصدر عبد الكريم قاسم قرارا بإحالة مجموعة من الضباط المعروفين بعدائهم للثورة على التقاعد ، ولكن أولئك الضباط استمروا بلبس ملابسهم العسكرية ، ولم يغادروا بغداد ، ولم تحرك أجهزة الاستخبارات العسكرية ، ولا الأمنية ساكناً وهذا خير دليل على تواطؤ مدير الأمن العام ، ومدير الاستخبارات العسكرية مع الانقلابيين . أما احمد صالح العبدي ، رئيس أركان الجيش ، والحاكم العسكري العام ، فإن خيانته قد توضحت تماماً عندما أصدر أمراً يوم 5 شباط ، أي قبل وقوع الانقلاب بثلاثة أيام ، يقضي بسحب العتاد من كتيبة الدبابات التي كان يقودها العقيد الركن [ خالد كاظم ] وهو الوحيد الذي بقي في مركزه القيادي من الضباط الوطنيين ، وأودع العتاد في مستودع العينة ، وبقيت دباباته دون عتاد لكي لا يتصدى للانقلابيين .ولم يمس الانقلابيين العبدي بسوء. كما أن عبد الكريم قاسم قام قبل الانقلاب بتعيين عبد الغني الراوي ، المعروف بعدائه للثورة ، وتوجهاتها ، آمراً للواء المشاة الآلي الثاني ، وكانت تلك الخطوة ذات أبعاد خطيرة ، فقد كان الراوي أحد أعمدة ذلك الانقلاب ، وقام اللواء المذكور بدور حاسم فيه .
استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين : أخذت المقاومة داخل وزارة الدفاع تضعف شيئاً فشيئاً ، وتوالت القذائف التي تطلقها الطائرات ، والدبابات المحيطة بالوزارة التي تحولت إلى كتلة من نار ، واستشهد عدد كبير جداً من الضباط والجنود دفاعاً عن ثورة 14تموز وقيادة عبد الكريم قاسم ، وكان من بينهم الشهيد الزعيم [وصفي طاهر ]، المرافق الأقدم لقاسم ، والزعيم [عبد الكريم الجدة ]، أمر الانضباط العسكري، واضطر عبد الكريم قاسم إلى مغادرة مبنى الوزارة إلى قاعة الشعب ، القريبة من مبنى الوزارة ، تحت جنح الظلام ، وكان بصحبته كل من الزعيم [فاضل عباس المهداوي ]، رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة ، والزعيم الركن [طه الشيخ أحمد ]، مدير الحركات العسكرية ، [وقاسم الجنابي ] السكرتير الصحفي لعبد الكريم،والملازم [كنعان حداد] مرافق قاسم . ومن هناك قام عبد الكريم قاسم بالاتصال هاتفياً بدار الإذاعة ، وتحدث مع عبد السلام عارف ، طالباً منه بأسم الأخوة والعلاقة التي ربطتهم معاً قبل الثورة ، مذكراً إياه بالعفو الذي أصدره بحقه ورعايته له بالسماح له بمغادرة العراق . غير أن عبد السلام عارف أجابه بكل صلافة بكلمات نابية لا تدل على خلق ، مما أثار غضب الزعيم طه الشيخ أحمد الذي أمسك بالهاتف من يد عبد الكريم قاسم ورد على عبد السلام عارف ، باللهجة العامية قائلا : [ شوف ولك ، أنا طه الشيخ أحمد أكلمك، أنت نذل ، وحقير ، وجبان وخائن ، وزقاقي من الأول إلى الأخير ، وراح تبقى كذلك سواء كنت رئيس جمهورية أو صعلوك من الصعاليك ] . ورد عليه عبد السلام عارف قائلاً : [ أنجب ( أي اسكت ) ، اترك الهاتف ، شيوعي قذر ] . واتصل عبد الكريم قاسم مرة أخرى بعبد السلام عارف ، طالباً منه السماح له بمغادرة العراق ، أو إجراء محاكمة عادلة له ، لكن عبد السلام عارف طلب منه الاستسلام . وفي صباح اليوم التالي ، 9 شباط ،خرج [ يونس الطائي ] صاحب صحيفة الثورة ، المعروف بعدائه للشيوعية ، والذي كان قد سخره عبد الكريم قاسم لمهاجمة الحزب الشيوعي على صفحات جريدته [ الثورة ] ، خرج للقاء الانقلابيين ،وكان في انتظاره أحد ضباط الانقلاب ، واصطحبه إلى دار الإذاعة ، حيث قام بدور الوسيط !! بين عبد الكريم قاسم والانقلابيين لقاء وعدٍ بالحفاظ على حياته ، وتسفيره إلى تركيا ، وهكذا انتهت الوساطة بخروج عبد الكريم قاسم ومعه المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان حداد ، وكان بانتظارهم ناقلتين مصفحتين عند باب قاعة الشعب ، وكان الوقت يشير إلى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً ، حيث نقل عبد الكريم قاسم وطه الشيخ أحمد على متن إحدى المصفحات ، ونقل المهداوي ، وكنعان حداد على متن المصفحة الثانية ، وعند وصول المصفحتين إلى دار الإذاعة أنهال عدد من الانقلابيين على المهداوي ضرباً مبرحاً حتى غطت الدماء جسمه ، وأدخل الجميع إلى دار الإذاعة ، وكان عبد الكريم بكامل بزته العسكرية ولم يمسه أحد بسوء عند دخوله مبنى الإذاعة .
مهزلة محاكمة عبد الكريم قاسم ،وإعدامه مع رفاقه: إن كل ما قيل عن إجراء محاكمة لعبد الكريم قاسم كانت محض هراء ، فلقد كان الانقلابيون قد قرروا مسبقاً حكم الموت بحقه وبحق رفاقه ، وما كان لعبد الكريم قاسم أن يسلم نفسه لأولئك المجرمين ، ولكنه خُدعَ ،أو ربما خَدَعَ نفسه بوساطة ذلك الخائن والدجال [يونس الطائي ]، الذي كان يتملقه طيلة أيام حكمه ، وتبين فيما بعد أنه كان على علاقة حميمة بالانقلابيين ، وتصور عبد الكريم قاسم أن يدعه الانقلابيون يخرج بسلام ،أو أن يوفروا له محاكمة عادلة وعلنية كما فعل هو عندما حاكم عبد السلام عارف والمتآمرين الآخرين على الثورة . وحال دخول عبد الكريم قاسم دار الإذاعة أنبري له عبد السلام عارف ، وعلي صالح السعدي بالشتائم المخجلة التي لا تصدر إلا من أولاد الشوارع فقد توجه السعدي إليه قائلاً : [ لقد كانت عندنا حركة قبل أسبوعين ، وأريد أن اعرف مَنْ أفشى لك بهذه الحركة ، وهل هو موجود بيننا ؟ ] وكانت تلك الحادثة قد أدت إلى اعتقال السعدي . وقد أجابه عبد الكريم قاسم [ غير موجود هنا بشرفي ] لكن السعدي رد عليه بانفعال قائلاً [ومن أين لك بالشرف ]، وهنا رد عليه عبد الكريم قاسم قائلاً : [إن لي شرفاً أعتز به ]. وهنا دخل معه في النقاش عبد السلام عارف حول مَنْ وضع البيان الأول للثورة ، وكان كل همه أن ينتزع من عبد الكريم قاسم اعترافاً بأنه ـ أي عبد السلام ـ هو الذي وضع البيان الأول للثورة ، إلا أن عبد الكريم قاسم أصر على أنه هو الذي وضع البيان بنفسه ، وكانت تلك الأحاديث هي كل ما جرى في دار الإذاعة ، وقد طلب عبد الكريم قاسم أن يوفروا له محاكمة عادلة ونزيهة وعلنية ، تنقل عبر الإذاعة والتلفزيون ليطلع عليها الشعب ، إلا أن طلبه أهمل ، فقد كان الانقلابيون على عجلة من أمرهم للتخلص منه لكي يضعوا حداً للمقاومة ، ويمنعوا أي قطعات من الجيش من التحرك ضدهم . قام العقيد عبد الغني الراوي بإبلاغه ورفاقه بقرار الإعدام للجميع ، وحسبما ذكر إسماعيل العارف في مذكراته أن عبد الكريم لم يفقد رباطة جأشه ، وشجاعته ، ولم ينهار أمام الانقلابيين ، وعند الساعة الواحدة والنصف من ظهر ذلك اليوم ، التاسع من شباط 963 ، اقتيد عبد الكريم قاسم ورفاقه إلى ستديو التلفزيون ، وتقدم عبد الغني الراوي ، والرئيس منعم حميد ، والرئيس عبد الحق ، فوجهوا نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية إلى صدورهم فماتوا لساعتهم رافضين وضع عصابة على أعينهم ،وكان آخر كلام لعبد الكريم قاسم هو هتافه بحياة ثورة 14 تموز ، وحياة الشعب العراقي . سارع الانقلابيون إلى عرض جثته ،وجثث رفاقه على شاشة التلفزيون لكي يتأكد الشعب العراقي أن عبد الكريم قاسم قد مات . لقد أراد الانقلابيون التخلص من عبد الكريم قاسم ، وإعلان مقتله لمنع أي تحرك من جانب القطعات العسكرية ضد الانقلاب ، ولإحباط عزيمة الشعب على المقاومة . كما أسرع الانقلابيون إلى دفنه تحت جنح الظلام ،دون أي معالم تذكر ،في منطقة معامل الطابوق ،خارج مدينة بغداد ،إلا أن عدد من عمال معامل الطابوق الذين يعملون شعالة طوال الليل ،شعروا بوجود ثلة عسكرية في تلك المنطقة ،فما كان منهم إلا أن ذهبوا ، بعد مغادرة الثلة العسكرية ، إلى المكان ، حيث وجدوا ما يشبه حفرة القبر ، دخلت الربية في نفوسهم ، من يكون ذلك الإنسان ؟ ولماذا جاءوا به إلى تلك المكان ؟ صمم العمال على فتح الحفرة فكانت المفاجئة جثة عبد الكريم قاسم . اخرج العمال الجثة على عجل وحملوها إلى مكان آخر ، حيث حفروا له قبراً جديداً ، حباً واحتراماً لذلك الرجل الذي قاد ثورة 14 تموز . غير أن الزمرة الانقلابية أحست بما جرى ، فقامت بالتفتيش عن الجثة ، وتوصلت إلى القبر الجديد أخرجت الجثة منه ، ونقلتها تحت جنح الظلام لترميها في نهر ديالى ، بعد أن تم وضعها بصندوق صُب فيه الكونكريت لكي لا تطفو الجثة في النهر ، ويعثر عليها أحداً من جديد .إن ذلك العمل البائس لا يعبر إلا عن جبن الانقلابيين ، وخوفهم من شبح عبد الكريم قاسم ، حتى وهو ميت . ولم يكتفِ الانقلابيون بكل ذلك ، بل انبرت أقلامهم القذرة ، وقد أعمى الحقد قلوب أصحابها بنهش عبد الكريم قاسم ، وإلصاق شتى التهم المزورة به ، والإساءة إلى سلوكه ، وأخلاقه مستخدمين ابذأ الكلمات التي لا تعبر إلا عن الإناء الذي تنضح منه ، فعبد الكريم قاسم رغم كل أخطائه ، يبقى شامخاً كقائد وطني ، معادى للاستعمار ، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك ، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع ، وحرر المرأة ، وساواها بالرجل ، وحطم حلف بغداد ، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الإمبريالية ، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس ، أميناً على ثروات الشعب ، ولم يسع أبداً إلى أي مكاسب مادية له أو لأخوته ، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة دون تغيير . وها هم بعض الذين أساءوا إلى شخصه ،بعد أن هدأت الزوبعة الهوجاء قد بدأت تستيقظ ضمائرهم ، ويعيدوا النظر في أفكارهم وتصوراتهم عن مرحلة عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز ، بنوع من التجرد ،لتعيد له اعتباره ، وتقيّم تلك المرحلة من جديد .
#حامد_الحمداني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسؤولية النظام السوري في الأعمال التخريبية في سوريا ولبنان
-
حماس وجهاً لوجه مع إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها الغربي
...
-
التأخر الدراسي وسبل معالجته
-
مخاطر الأزمة العراقية الراهنة والسبيل للخروج من المحنة
-
إيران واللعبة الخطرة
-
البعثيون والزرقاويون يوغلون في الجريمة
-
أطلقوا سراح الكاتب الدكتور كمال سيد قادر
-
الوحدة الوطنية هي السبيل الوحيد لأنقاذ العراق ،ونزع فتيل الح
...
-
مقاومة أم إرهاب ؟
-
مَن سيفوز في الانتخابات ؟
-
خاب أمل الشعب بأسلوب محاكمة طاغية العصر وزبانيته
-
مبروك لمنبر الحوار المتمدن عيده الرابع
-
الانتخابات العراقية المرتقبة وخيارات الشعب
-
الإرهاب واحد سنياً كالن أم شيعياً ولا حل لأزمة العراق غير ال
...
-
المشاكل والاضطرابات الشخصية التي تجابه أبناءنا
-
حارث الضاري ومؤتمر الوفاق
-
مقترحات من أجل قانون دولي لمكافحة الإرهاب
-
الأشقاء العرب وجرائم الإرهابيين في العراق والأردن
-
َمنْ يقود النشاط الإرهابي في العراق البعثيون أم الزرقاوي ؟
-
هل الولايات المتحدة جادة في محاكمة جلاد الشعب العرقي صدام حس
...
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|