الدوافع الحقيقية وراء الموقف الفرنسي و الروسي
22 شباط 2003
في حوار مفتوح مع الدكتور نوري المرادي
يبدو أن المرادي لم يقرأ مقالتي بالشكل الذي يجب, إذ أن ما فهمه منها كان مشوها للغاية, فأما القراءة كانت متسرعة أو إني لم أوفق في نقل أفكاري بالشكل الذي يسهل فهمه. أيا كانت الأسباب, استوجب الإيضاح و لكن بلا هتاف على طريقة صاحبنا المرادي.
بالنسبة إلى التغريد خارج السرب, أنا لم أكن أقصد السرب الفرنسي أو الأمريكي, إنما العراقي بالذات. فالأسراب العراقية جميعها ترفض فكرة المصالحة مع النظام قطعيا, يستثنى من ذلك بعض الشخصيات التي لسنا بصددها بالإضافة إلى الركابي و اللامي. هاتين الشخصيتين الوطنيتين الركابي و اللامي هم أول من طرح فكرة المصالحة و منذ ما يزيد على عقد من الزمان. اللامي بالذات هو صاحب السبق في هذا المجال على حد علمي و نجده يذكر ذلك في مقالته التي أشرت إليها في مقالي السابق و التي نشرت على عدة مواقع عراقية. فيها يشير إلى أن الذي وصف فكرة اللامي, أي فكرة المصالحة مع النظام الدكتاتوري, بالفنطازية هو المؤرخ العراقي الراحل هادي العلوي عندما عرضت عليه في العام 1990 و هذا ما أورده اللامي في مقالته الوارد ذكرها. و السبق الذي يسجل للركابي هو إعطاء البعد التطبيقي للفكرة, و هذا ما أخذ عليه من قبل فصائل عراقية مختلفة بلا استثناء رغم معرفة الكثير بشخص و تأريخ الركابي و حسن نواياه. إن جرأته المعهودة و دعوته للخروج من البعد الواحد في النظر للقضية العراقية, هو الذي دفعه للعمل بهذا الاتجاه على أنه ضرب من الإبداع و الخروج عن الجمود و التفكير خارج حيثيات المسلمات المطروحة على الساحة السياسية العراقية. من هنا نجد إن الاثنين هم حقا آخر من فكر, وليس أول من فكر في إمكانية إصلاح النظام, فقبلهم الحزب الشيوعي و القوى القومية عربية كانت أم كردية, جميعهم من فكر بهذا الاتجاه, إلا أن النتائج جاءت كارثة بل وبالا على كل من حاول أن يغير من الطبيعة المرسومة للسلطة. و هكذا نفض الجميع يدهم من إمكانية إصلاح النظام أو تغيير طبيعته, فكان الهروب الجماعي من العراق لكل أطياف المعارضة و من ثم الاستقرار في المهجر. و بشكل مفاجئ يأتي اللامي ليعيد من جديد إحياء الفكرة بعد أن أصبحت من المسلمات لدى الجميع معتبرا ذلك إبداعا. إذا لم يكن ذلك تغريدا خارج السرب؟ فماذا يمكن أن نسميه؟ عموما إن التغريد خارج السرب أو الأسراب هو ضرب من الإبداع حتى ولو كان دعوة للتصالح مع صدام. إذ أن كل عظماء العالم هم أول من خرج على المألوف, أو غرد خارج السرب حتى وجد من يستمع له, و اللحن النشاز سيكون جميلا لو أتسق معه باقي العازفين. هكذا نجد إن العبارة هي مجرد استعارة لفضية أو بلاغية لوصف الحالة و ليس لغرض الهجوم على الإطلاق. ينبغي هنا أن أشير إلى أن الركابي قد كتب لي شاكرا لإنصافي له و أني لم أجرحه قط, ما عدا المداعبة الخفيفة على سبيل الود و ليس الانتقاص, وإلا فهو ليس عاجزا عن الرد, و هو صاحب القلم الذي نعرفه, و لو كان الأمر غير ذلك لما ترك الأمر لمن يدافع عنه, و كذلك قد وعدني أن يرد على مقالتي و الإجابة على الأسئلة بأقرب وقت ممكن.
إن من يقرأ مقالة المرادي يأخذ انطباعا هو أني من أشد أنصار الحرب و من أشد أنصار أمريكا و من أشد أعداء فرنسا و حلها السلمي, بل وأني إسرائيليا صهيونيا للنخاع. في حين أن الأفكار التي طرحت في المقالة كانت محايدة جدا مع الجميع بلا استثناء ما عدا النظام الدكتاتوري في العراق.
إن أهم الأفكار التي جاءت في المقالة, هي إن الفكرة, أي فكرة الحل السلمي قد قطعت شوطا لا بأس به و إن الإدارة الأمريكية و هي اللاعب الأقوى على الساحة قد استلمت الرسائل من دعاة الحل السلمي مما حدا بالرئيس بوش أن يصرح و يدعوا صدام للخروج من العراق و يضمن له المكان الآمن. يا حبذا لو تبنى الجميع هذه الفكرة و تسهيل الخروج لصدام مستفيدين من الدعم الدولي لها و ليس التصارع على الساحة العراقية بين اللاعبين الأساسيين. لو إن الفرنسيين كانوا فعلا من دعاة الحل السلمي لاستفادوا من هذه الدعوة و لركزوا على الحل الأكثر تعبيرا عن رغبة الجميع و خصوصا العراقيين. ولإيضاح موقف الفرنسيين أكثر لابد لي من شرح المزيد.
إن الفرنسيين لا يهمهم العراقي إطلاقا إذا كان يجوع أو يمرض أو يذبح كل يوم, إن ما يهمهم هو شيء آخر تماما, ذلك هو النفط. إن عقود الامتيازات النفطية, أكرر الامتياز و ليس عقود لمشاريع نفطية هي التي تدفع الفرنسيين بهذا الحماس من أجل الحفاظ على حياة صدام, و يتمنون لو يبقى ألف سنة أخرى في السلطة. إن الامتيازات النفطية المنوحة لفرنسا في استغلال حقل مجنون بالإضافة إلى حقلي بزركان و فوقي قرب العمارة, مشروطة ولا يمكن تفعيلها إلا إذا انتهت الأزمة و الحصار بانتصار صدام. إن هذه الحقول الثلاثة تحتوي على احتياطي نفطي يزيد على الاحتياطي الكويتي من النفط. و هذه ليست مجرد معلومة عابرة من أجل تعزيز الموضوع و لكن عن علم بذلك. إن الاحتياطي النفطي المشمول بهذه الامتيازات يجعل من فرنسا مكتفية من البترول لخمسة عقود من الزمن, و هذه الكميات هي حصة الجانب الفرنسي من الإنتاج, أي بلا ثمن. هذا فظلا عن الفوائد الأخرى من هذه البقرة الحلوب, العراق. فكيف لا يستميت الرئيس الفرنسي على بقاء صدام في السلطة؟ و أنا لا أشك قط من أن فرنسا سوف تستعمل الفيتو ضد أي قرار دولي يؤدي إلى إزالة صدام من السلطة, ولكنها سوف لن تستعمله إطلاقا لحقن دماء العراقيين.
أما الروس الأعضاء الجدد في نادي المستعمرين فإن امتياز تطوير حقل غرب القرنة الذي لا يقل أهمية عن حقل مجنون لم يعد خافيا على أحد و إن الوعود بالمزيد من العقود المجزية فهي بلا عدد. لكن الذي لا نفهمه هو موقف الدوما الروسية التي يسطر على غالبيتها الشيوعيين و كذا زيارة زيجانوف الأخيرة للتضامن مع صدام, هل الماركسية تحمل فكرا برجماتيا و نحن لا نعرف بذلك؟ أنا لا أطلب إجابة من أحد, فأنا عراقي و لا يحق لي ذلك.
مما تقدم نستطيع إن نستنتج إن المسألة بالنسبة إلى فرنسا أو روسيا ليست مسألة إنسانية و إنما مسألة حياة أو موت و إن هذه المعركة يجب أن تحسم مع الولايات المتحدة بانتصار حاسم و محدد ألا و هو بقاء صدام في السلطة حتى يتم تفعيل هذه الامتيازات و تصبح أمرا واقعا و ليس موضوعا قابل للتراجع من قبل الحكومة البديلة. لو سلمنا بالمقولة التي مفادها إن الولايات المتحدة هدفها من كل ما يجري هو السيطرة على النفط, فإننا نستطيع ببساطة أن نستنتج أن العراق أصبح العراق ساحة الصراع الدولية من أجل المصالح النفطية و الضحية هو العراقي. ما أشبه اليوم بالبارحة, يوم كانت الدولة الصفوية في إيران و الدولة العثمانية في تركيا تتصارعان من أجل مصالحهما على الساحة العراقية و الضحية هو العراقي, فكان الأتراك يغيرون على القرى أو المدن الشيعية في العراق و يسحقون سكانها بحجة ولائهم للصفويين, بالمقابل يغير الصفويون على القرى السنية العراقية و يبيدونهم بحجة الثأر للذين قتلهم العثمانيون من الشيعة العراقيين. لكن في النتيجة إن من يموت هو العراقي فقط, و حقيقة الصراع هو النفوذ الاستعماري لهاتين القوتين.
إن ما أريد أن أصل له, لو كان الجميع, أي أمريكا و فرنسا و الروس و عبد الباري عطوان و المسفر (لاحظ هنا إن الجميع هم من غير العراقيين), لو كانوا فعلا يبحثون عن حل للمسألة العراقية على أساس سلمي, لو كانوا فعلا ذووا نوايا شريفة مثل ما يعلنون, لقالوا جميعا إن الحل واضح جدا هو إزالة الدكتاتور في العراق و لتبلورت لغة خطاب واحدة منذ زمن بعيد تقول ""ليرحل دكتاتور العراق ومن ثم لكل حادث حديث""
إن أمريكا تعلن بمناسبة و بدن مناسبة إن الحرب لن تحدث لو رحل الدكتاتور, و الفرنسيين و الروس و الألمان و غيرهم يعلنون بمناسبة و دون مناسبة إن هدفهم هم الحل السلمي و حقن دماء العراقيين, و الكل يعرف إن رحيل صدام عن السلطة سيوقف الحرب, لماذا إذا لا يوحدوا لغة الخطاب هذه لو كانت النوايا سليمة؟ الجواب واضح و بسيط, إن النوايا تختلف عما يعلن. فلو ذهب صدام عن السلطة فليس هناك امتيازات نفطية لفرنسا أو روسيا, و إذا رحل صدام عن السلطة فلن تكون هناك أية ذريعة للأمريكان من دخول العراق الذي سيساهم بإعادة كتابة الخريطة السياسية في الشرق الأوسط و آسيا, وإذا رحل صدام عن السلطة فلن يكون هناك من داع لدفع الملايين للمرتزقة المجرمين من أمثال عطوان أو المسفر أو محطة الجزيرة. لذا من الضروري لهؤلاء جميعا من الابتعاد عن هذه القولة الخطيرة بالنسبة لمصالحهم. إنهم مستعدون أن يقولوا كل شيء ما عدا هذه الحل.
نحن كعراقيين يجب أن نعرف أين الخطر و ما هي لغة الخطاب التي يجب أن نتبناها, إنها ببساطة ليرحل الدكتاتور أولا و من ثم لكل حادث حديث.
أعود مرة أخرى لمقالة المرادي, لابد لي من الاعتراف بجهلي التام لكل ما أورده المرادي من روايات عن الأكراد و الحركة الكردية, و كأني به يريد أن يسقط حق الأكراد بالمواطنة. بالقصص الأخرى التي يوردها عن الآخرين, كأني به يريد أن يسقط حق الشيعة المتدينين و العلمانيين و الحركات و الأحزاب السياسية كجماعة المؤتمر و الوفاق و الحركة الملكية الدستورية و حتى الشيوعيين العراقيين من حق المواطنة. من بقي إذا من أبناء الشعب العراقي إذا كان كل هؤلاء لا يتمتعون بالقدر الكافي من الوطنية؟ لكي يحق لهم أن يقولوا كلمتهم؟ من إذا له الحق بذلك؟ عبد الباري عطوان مثلا؟ أم الجوقة العربية من صحفيو الجزيرة؟ في الواقع لا يبخل علينا المرادي بالإجابة, فإنه يقول بالحرف الواحد إن نظام صدام أشرف من هؤلاء جميعا. و اعتقد أنه بهذا الاستنتاج يريد أن يقول ""نعم لصدام و لا لكل العراقيين الذين اصطفوا كمعارضة للنظام في العراق؟ لماذا لا يعود للعراق أو ينضم للجوقة الباريسية الكبيسية و القلمجية؟ أية لغة هذه التي تتكلم بها أيها المنفي عن وطنه منذ ثلاثة عقود من الزمن؟! أية لغة تتكلم بها يا من حرموه من كل حقوقه المدنية بسبب معاداته للدكتاتورية؟!
إن الاختلاف بالرأي ظاهرة صحية, تكبر و تتسع كلما كان الوعي أكثر و أعمق و الشعب اكثر إدراكا لمصالحه و تمسكا بمبادئه. فليس كل من اختلف معنا بالرأي فهو عميل, العكس صحيح تماما, فالاختلاف بالرأي هو الذي يساهم بإغناء الثقافة و يصقل الآراء و المواهب و يجعل من أهدافنا أكثر وضوحا.
لابد لي هنا من إحالة الحديث للأستاذ جاسم المطير و شيخه الشكرجي و الحديث المتسلسل و الممتع عن الديمقراطية التي نحن بأمس الحاجة إليها, خصوصا في هذه الأيام.
إن من الضروري نفهم معنى الديمقراطية لكي لا نفرط بها يوم تكون بأيدينا.