سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 1455 - 2006 / 2 / 8 - 09:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ما الحدود التي تفصل بين حرية التعبير وحق انتهاك حرية الآخر الفكرية والمعتقدية؟
لا أحد اليوم, في العالم الغربي أو في الشرق, يستطيع الإجابة عن هذا السؤال.
الأزمة الفكرية والسياسية والأخلاقية التي أثارتها صحيفة يولاندس بوستن الدانماركية وضعت العالم أجمع أمام السؤال الذي بدا بديهيا لزمن طويل, المتعلق بحرية التعبير, حينما أنزلت الصحيفة هذا السؤال من حيز الممارسة الفكرية الى موضع الاستهلاك السياسي المباشر, وأعني هنا بالاستهلاك, استهلاك الداعين الى حرية التعبير المطلقة, واستهلاك الداعين الى تقييد تلك الحريات بالعنف, واستهلاك الفريق الذي يقف بين الإثنين, "قمامو الثقافية" وتجار "الفرهود الثقافي", الذين اهتبلوا الفرصة لسرقة ما يمكن سرقته بوساطة الطرفين المتخاصمين.
فلأول وهلة بدا الصراع حول حرية التعبير, كما لو أنه يدور بين قطبين متناقضين: يمين ويسار, تقدم وتخلف, تجديد وجمود, وفي الأخير: حضارة وبربرية. لكن الأمر خلاف ذلك تماما, كما سنثبت في مقالتنا. إنه صراع متعدد الوجوه, أفادت منه بشكل مباشر كتلتان رئيستان تختلفان في سبل نظرتهما الى عناصر الواقع, تتفقان جوهريا في خصائصهما الأساسية: التحجر والانغلاق الاجتماعي, والارتزاق السياسي على حساب الدين, والمعتقدات, بما في ذلك حرية التعبير.
العودة الى جذور المشكلة
لماذا تصاعدت الأزمة الى حدودها القصوى الآن, بعد مرور أشهر على نشر الصور؟
عن هذا السؤال أجابت الصحافة الأوروبية, المستقلة والمنحازة على حد سواء, إجابات عديدة متنوعة, أبرزها الآتي:
انطلقت شرارة الأزمة من فلسطين, من غزة على وجه التحديد. وكان لعناصر القوى الخاسرة في الانتخابات الفلسطينية, كتائب الأقصى, قصب السبق في إشعال فتيل الأزمة. مثل هذا التفسير نشرته صحيفة اكسبرسن السويدية في افتتاحية عددها الصادر في الثالث من فبراير 2006. (وهذا غير صحيح على الإطلاق, فإن الاحتجاجات على ما حدث لم تنقطع, ولهذا السبب أعلنت صحيفة يولاندس بوستن نفسها في الثاني عشر من أكتوبر 2005 أنها طلبت حماية الشرطة على إثر تلقيها تهديدات بالموت, وأنها وضعت حراسا لحماية الصحيفة, بسبب الاحتجاجات المتواصلة)
لكن صحيفة اكسبرسن لم تفوت الفرصة في إلقاء تبعات التصعيد على عاتق (حماس) أيضا, كما فعلت غيرها من الصحف اليمينية, التي رأت أن (حماس) أثارت ذعر "السلطات الحاكمة في البلدان الاسلامية" فدفعتها الى إظهار غيرتها على الإسلام, كذبا ونفاقا.
بعض المحللين رغبوا في إيجاد أجوبة عن الأزمة بالعودة الى ما هو أبعد من من ذلك التاريخ, مذكرين بواقعة تدنيس القرآن, التي ارتكبها الجنود الأميركيون في معتقل غوانتانامو, والتي فضحتها صحيفة نيوزويك في شهر مايو من عام 2005. والتي امتدت فيها شرارة الغضب الى غير بلد إسلامي وسقط فيها عدد من القتلى, تجاوز الأربعة عشر قتيلا في باكستان وحدها. لكن ذلك الغضب ظل حبيسا في محيط المشاعر الشعبية, ولم يُصاحب بردود فعل حكومية قوية, على الرغم من أن تدنيس القرآن أشنع من تدنيس شخصية الرسول محمد!
عمليات تدنيس مماثلة جرت في أماكن عديدة. منها ما قام به القس السويدي, النرويجي الأصل, رونر سوغارد في مواعظ كنسية علنية, قام ببيعها في أقراص مدمجة, هاجم فيها الاسلام بعنف ووصف الرسول محمد بأنه " مغتصب جنسي, مضطرب الشخصية". وقد نشرت صحيفة أفتون بلادت السويدية أقواله تلك على صفحتها الأولى في 19- 4- 2005. وفسر بعضهم هجوم رونر غير المتوقع وغير المعلل بأنه ناتج عن أزمة نفسية وعاطفية يمر بها, دفعته الى ذلك, على الرغم من أنه شخصيا أصر على اعتبار ما قام به واجبا فكريا يهدف الى تنوير البشر.
وقد مرت هذه القضية بسلام أيضا وطوى النسيان آراء رونر, بعد أن حصل على حماية الشرطة السويدية, تحسبا لأي عمل عدواني قد يقوم به إرهابيون مسلمون يهدف الى الحد من حريته في التعبير عن معتقداته وتطبيق واجباته التنويرية. وقد رافقت العملية, كما يحدث اليوم تماما, تحذيرات تقول: " الخبراء يتخوفون من أعمال ارهابية أصولية ضد السويد" ( اكسبرسن 3 فبراير 2006) و"السويد يشار اليها كهدف ارهابي قادم" (آفتون بلادت 31 ابريل 2005), سربتها أجهزة الأمن ونشرتها كبريات الصحف على صفحاتها الأولى بالخط العريض, هدفها تعبئة المواطنين من خلال ما يعرف باستنفار "غريزة الخوف".
وبصرف النظر عن السبب المباشر في تطور هذا الحدث دون غيره, فإن ما يسجل هنا هو تكرار فعل تدنيس المقدسات الإسلامية بشكل متعمد وعلني وحدوثه في غير موقع وغير دولة في فترة وجيزة, والذي يعني وجود ميل واضح, يعبر عن نفسه هنا وهناك, من حين الى آخر, في صور متنوعة: كتب, أقراص مدمجة, مواعظ كنسية, أو صور كاريكاتيرية, أو أفعال مباشرة كحادثة غوانتانامو, تهدف جميعها الى استفزاز مشاعر جماعات دينية محددة والاعتداء على معتقداتها. ويدخل ضمن هذا, وإن كان بصورة غير مباشرة, أعمال التثمين المبالغ فيها لكل ما يسيئ الى الاسلام. وبهذا الصدد أشير الى المقال الذي نشره موقع كيكا, الذي تحدث عن صدور كتاب اسمه " نساء النبي", والذي يتحدث فيه صاحبه عن أن الكتاب " أثار ضجة كبيرة في الوسطين الثقافيين الهولندي والبلجيكي". ومما لا شك فيه أن خبر قيام ضجة ثقافية سيكون حدثا منطقيا لو أن ذلك جرى في مصر أو إيران مثلا, ولكن أن يحدث ذلك في بلجيكا وهولندا يدعونا الى التساؤل: أية عطالة فكرية تسود هذين الوسطين الثقافيين, اللذين استقبلا أخبار نساء "نبي مضطرب " بهذه الضجة الكبيرة!
وإذا أردنا أن نعيد صياغة هذا التساؤل بصورة أكثر دقة, فلا يسعنا إلا القول: لماذا يثار كل هذا الضجيج حول هذه الجماعة دون غيرها ؟
إن مناخ الحرب وعولمة الشر, واختراع محاور للشريرين, الذي هو الطابع المميز للخطاب السياسي المفروض من قبل أميركا على العالم, سمم مشاعر البشرية, وصعّد الى أقصى حد طاقات الشر الكامنة في النفوس, وجعل من التحارب, بدلا من التسامح, بين الجماعات البشرية عنوانا رئيسا لعصرنا. هذا المناخ البشري الفاسد هو الحاضنة الأساسية للانتهاكات التي يمارسها البعض ضد الآخرين, سواء لبست هذه الانتهاكات ثوب البحث العلمي أو الفكاهة الساخرة أو الموعظة الكنسية, وسواء كانت مجترحة تحت اسم حرية التعبير أو تحت ذرائع أخرى.
ولكن, هل حدث ذلك عفو الخاطر؟
لا أحد يجيب عن هذا السؤال بنعم صريحة, حتى الذين وقفوا خلف نشر صور تدنيس الرسول في الدانمارك.
فلو عدنا الى خلفيات الحدث وبحثنا في جذوره العميقة نكتشف أن ما حدث كان مثيرا للريبة.
بدأت رحلة البحث عن صور الرسول محمد من خلال حادث عفوي هدفه البحث عن صورة للنبي محمد لكتاب للأطفال, ولم يُعثر على صورة, فتم الاتصال بجمعية الفنانين التشكيلين وعثر هناك على من كان مستعدا لتنفيذ مثل هذا العمل. ولم يكن هذا العمل يتعلق بأية إساءة للرسول. هذا الخبر الهامشي والمعزول دق إشارات التنبيه في عقل
القائمين على صحيفة يولاندس بوستن الدانماركية, فاغتنم محرر الصفحة الثقافية الأمر ودعا عددا من الرسامين الى وليمة رسم الرسول محمد, فحصل على إثنتي عشرة صورة, تم نشرها بتأييد من رئيس تحرير الصحيفة كارستن يوسته, بعد أن رفض ثمانية وعشرون فنانا الاستجابة لفكرة وضع رسوم عن نبي لدين " معروف بالعنف" كما يقول مناصرو يوسته.
ذلك هو ملخص الحكاية كلها.
ما هو أساسي هنا هو أن الصحيفة دعت أربعين فنانا الى مائدة فنية حول شخصية الرسول, وأنها حصلت على إثنتي عشرة صورة, ولم تكتف بواحدة أو إثنتين. فقد كانت طماعة وشرهة على ما يبدو! ولم تكن الصور مجرد صور للزينة أو للأطفال, بل كانت صورا مهينة, موجهة نحو غايات محددة, هدفها رسم صورة تحقيرية لنبي "الارهابيين", وإشاعة ما يسميه الكتاب الاسكندنافيون الرصينون, المعادون للعنصرية, وهم الغالبية العظمى, بـ " مرض الذعر من المسلمين". (بالمناسبة, هي صور ساذجة مضمونا وأقل من صور هواة فنيا).
وقد برر رئيس التحرير يوسته فعله هذا قائلا: بأن هدفه لم يكن الرسول محمد نفسه, بقدر ما كان يريد من خلال هذه الصورة " أن يخلق نقاشا حول الرقابة وحرية التعبير" لكي يثبت عمليا أن الجماعات التي تؤمن بهذا الدين معادية لحرية التعبير. وهو يعني أنه قام باستفزازهم لكي يثبت أنهم معادون للديمقراطية! وتلك مهمة شريرة, فيها قدر عال من التخطيط المدروس والمحكم, وفيها قدر مبالغ فيه من سوء النية والإثارة والتحريض. وكل تلك الأفعال مخالفة للقانون الدانماركي, خاصة مادته الـ 140 و مادته الـ 256 ب, ولا ترتبط من قريب أو بعيد بمبدأ حرية التعبير, كما يعرف جيدا يوسته نفسه. فخلق حوار مع جماعات فكرية مخالفة تقتضي الحيادية والتسامح وليس إثارة الآخر وإدانته المسبقة وتحقيره.
ولم تكتف الصحيفة بذلك القدر من سوء النية والاستفزاز المخطط, بل جعلت من نفسها ضحية حينما طولبت بالاعتذار. كان جوابها أول الأمر على قدر كبير المكر والمسكنة, فقد قالت: كما لو أنهم يطلبون من فتاة تعرضت الى الإغتصاب أن تعتذر من مغتصبها, لأنها كانت تلبس تنورة قصيرة فأغرت المغتصب على ارتكاب جريمته. وهنا لا تكتفي الصحيفة بلعب دور الضحية, المدافعة عن حقها القانوني والأخلاقي ضد مغتصب شرير, بل تذكر أيضا بالمغتصب السابق, الذي ظهر في السويد, من قبل, على لسان القس رونر! أهو مجرد تداع للخواطر؟
وفي كلمة رئيس التحرير, التي قدم فيها اعتذاره للمسلمين ونشرت بالعربية والسويدية, (ولا يعلم المرء لماذا بالعربية, فالموضوع اسلامي, ومحمد نبي المسلمين وليس نبي العرب) قال يوسته: إن "نشر الصور لا يتعارض مع القانون الدانماركي, ولكن لا يمكن إنكار أن ذلك تسبب في انتهاك مشاعر العديد من المسلمين" .
لكن يوسته الذي اعتذر علنا من المسلمين, وباللغة العربية, عاد بعد يوم واحد من ذلك يطلب من صحيفة داغنس نيهيتر السويدية أن تتضامن معه في إعادة نشر الصور على صفحاتها, معربا عن سعادته لأن بعض الصحف الأوروبية فعلت ذلك:
" إنه لأمر رائع أن تلحق بنا صحف أخرى ( يقصد في إعادة نشر الصور), كلما كثر عددهم ازداد الضغط على الأصوليين الذين يريدون خنق حرية التعبير. نحن الآن ننتظر من داغنس نيهيتر أن تفعل ذلك أيضا, يقول ذلك نصف ساخر ونصف جاد"( داغنس نيهيتر 2 فبراير 2006)
في هذا النص يظهر يوسته بوضوح أنه لم يعتذر, وإنما كان مصانعا, وأنه يواصل استخدام سوء النية بإصرار وتخطيط. وهو ما يحعل المرء يتساءل: لماذا اعتذر إذن, ولمن قدم اعتذاره؟
من يحصد النتائج؟
مما لا شك فيه أن يوسته يعرف أن كلمات الاعتذار المعدودة التي نشرها لن يشتريها أحد, لا الذين أساء اليهم, ولا الذين يؤيدون موقفه. فالمعركة, أو "الشجار على صور محمد", على حد تعبير الصحافة السويدية التي أرادت أن تتفه وتقلل من أهمية الحدث, قد وقع, وما على الناس سوى انتظار حصد نتائجه.
ولكن ما هي نتائجه الحقيقية؟
إضافة الى الحصاد العالمي المتمثل بإشاعة الكراهية بين البشر, فإن أكثر الأحزاب الدانماركية الكبيرة, المعروفة بتشددها ضد المهاجرين, وهو حزب الشعب الدانماركي, كان الرابح الأول في "الشجار حول صور النبي محمد". فطبقا لما أوردته صحيفة داغنس نيهيتر السويدية في 3 فبراير 2005 أن استطلاعا للرأي ظهر في صحيفة بورسن الدانماركية أشار الى أن حزب الشعب الدانماركي حصل على نسبة تأييد قدرها 14,2 % بعد أن كانت نسبة تأييده 12,1 % قبل شهر واحد فقط, وهي أعلى نسبة يسجلها الحزب خلال السنوات الخمس الماضية. وإن نشر صور الرسول محمد أعطت للحزب دفعة تأييد. وحزب الشعب يضع قضية المهاجرين وقضية الاندماج في صلب جدول أعماله. ففي برنامج عمله المكون من 15 نقطة يضع الحزب قضايا التشديد على المهاجرين في أعلى درجات سلم أهدافه, ففي الفقرة السابعة يتم التأكيد على تجريم جماعات المهاجرين, وتسفير عوائل المخلين بالقوانين, وفي مجال حرية التعبير يطالب الحزب بإلغاء ما يتعلق بحظر الدعاية للعنصرية أو إهانة الأديان. أما زعيمة الحزب بيا شيشيارد فإنها لا تنفك تحذر من "خطر المسلمين", وتعتبر المسلمين , بمن فيهم الذين حملوا جنسية الدانمارك, خونة.
وهنا نرى أن مفاهيم رئيس تحرير يولاندس بوستن تتطابق تماما مع سياسة حزب الشعب. يقول يوسته: " إن اندماج المهاجرين ربما يكون مشروعا مستحيلا", " هناك هوة بين الإنسان الغربي وبين العالم الاسلامي". لهذا كله أرى أن نشر الصور لم يكن أمرا عفويا, أو وليد الصدفة.
ولم يكن نشر الصور مجرد " دفعة رياح في أشرعة" حزب الشعب, كما ظن بعض الطيبين من الكتاب السكندنافيين, بل كان نتيجة من نتائج تصاعد المواقف المتشددة للحكومة الدانماركية وسعيها الجدي لمسايرة مشروع القوة الأميركية, وإظهار أسنانها اليمينية, واللعب بمشاعر الشعب. فالدانمارك هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي قررت تمديد فترة بقاء قواتها في العراق, بل وزادت من حجم هذه القوات, وهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي برأت المتهمين في قضايا تعذيب السجناء العراقيين, وهي الدولة الوحيدة التي أجازت قوانينها الإعلان عن أن دم العراقي القتيل لا يساوي سوى مئات من الدولارات, وهي الدولة الأوروبية الوحيدة (باستثناء بريطانيا) التي قاتلت قواتها ليس فقط ضد الشعب العراقي, بل شاركت في أعمال مسلحة ضد الشرطة العراقية, شرطة "العراق الجديد". وكل تلك كانت دفعات رياح أخرى هبت لصالح صحيفة يولاندس بوستن ومشروع حزب الشعب المعادي للمهاجرين.
لذلك لم يكن غريبا أن تقوم صحيفة مغازيت الدانماركية المسيحية في العاشر من يناير, أي قبل الصحف الأوروبية بعدة أسابيع, بإعادة نشر الصور, معللة ذلك, على لسان رئيس تحريرها ك. سلبك: " إن التهديد الاسلامي تهديد لحرية التعبير, الحرية مهددة من قبل دين معروف باستخدامه للعنف"
أما دفعة التأييد القوية الحقيقية لنشر الصور فقد جاءت من أبرز القوى المؤيدة لإطلاق حرية التعبير, والداعية الى إلغاء كل ما يتعلق بحظر الدعاية, بما في ذلك الدعاية العنصرية. فقد نشرت صحيفة "ديمقراطيو السويد" س ك كوريرن, على لسان رئيس تحريرها ريكارد يومسهوف أسباب تأييدهم لنشر الصور قائلة: " لهذا السبب قررنا أن نمشي في أثر يولاندس بوستن, لنظهر أن حرية التعبير في السويد تقف طبعا فوق أي اعتبار للمسلمين في ما يتعلق بنشر صور محمد". وما يتوجب معرفته هنا أن "ديمقراطيو السويد" هي التسمية المحسنة لحزب النازيين الجدد السويدي.
فعن أي حرية تعبير يتحدثون؟
حرية التعبير جوهر المشروع الديموقراطي
إن مبدأ حرية التعبير ركن أساسي من أركان الديمقراطية المعاصرة, وربما يكون أهم أركانها. وهو ثمرة من ثمار صراع الإنسان المرير والطويل من أجل استقلال الإنسان. بيد أن هذا المبدأ, حاله كحال منجزات البشرية الخلاقة الأخرى, كالعلم والفن وغيرها, لا قيمة له بذاته, وإنما تقاس قيمته الإنسانية بمقدار حسن استخدامه لمصلحة الإنسان, ولمصلحة البشرية جمعاء. هذا ما فات على أنصار حرية التعبير, وهم يستخدمون هذا المبدأ لجرح مشاعر ما يقرب من مليار ونصف مليارإنسان, ولإثارة مشاعر الكره والخوف والتخوين بين البشر.
ولكن هل حقا أن هؤلاء هم حملة مبدأ حرية التعبير؟ وهل حقا أن القائمين على ذلك هم أحرار النزعة, كما حاول رئيس وزراء الدانمارك أن يقول لنا؟
إن الوقائع تكذب هذا تكذيبا تاما. فلم يكن النزاع يدور بين حرية التعبير وعبودية التعبير, ولم يكن بين حماس وديمقراطية الغرب أيضا, كما حاول بعض قمامي الثقافة تصوير ذلك ( أحصيت ما يقرب من ثلاثين مقالة, كتبها عراقيون في الخارج, تذهب هذا المذهب, بعضها وصل الى بريدي الالكتروني مباشرة. وهذا دليل جدي على أن ثقافة عولمة الشر, التي جاءت على أنقاض ثقافة العنف الصدامية, قد وجدت من يتبناها ويضع مواهبه الفقيرة في خدمتها)
فإذا كانت التكفيرية الشرقية الدينية تميل الى الجانب العاطفي الحسي والتهيج النفسي, فإن التكفيرية الأوروبية اليمينية العلمانية تميل الى التخطيط الشيطاني المنظم والمبرمج, والى البرود العاطفي, والى التظاهر بالانتصار للعقل والقانون.
خلاصة القول: إذا كان يوسته, الذي سخر من الرسول محمد, عاد ليسخر من عقول مليار ونصف مليار إنسان باعتذاره الكاذب, من خلال إصراره على توسيع رقعة نشر الصور عالميا, فإن رئيس الوزراء راسموسن, الذي سوّف وناور وحاور, ثم اعتذر, فقد كذب أيضا, لأنه خالف صراحة الدستور الدانماركي في فقرتين منه على الأقل, وهو بذلك يواصل حربه الفكرية, التي هي غطاء نظري لحربه العسكرية التي يخوضها جنده في أزقة البصرة.
ولغرض التثبت من ذلك أورد هنا نص الفقرات المتعلقة بحدود حرية التعبير في الدستور الدانماركي, كما أورد الفقرتين المتعلقتين بإهانة الأديان والتعرض للأعراق:
المادة 77 من الدستور " كل فرد له حق التعبير كتابيا وشفاهيا وحق إظهار أفكاره ولكن بالخضوع أمام مسؤولية القانون. الرقابة وغيرها من أشكال تقييد حرية التعبير لا يعمل بها إطلاقا"
المادة 140 " الذي يقوم بالسخرية العلنية أو يدنس في هذه البلاد ( الدانمارك) معتقدا لجماعة دينية شرعية أو معتقدا إلهيا, يعاقب بالغرامة أو بالحبس لمد أربعة أشهر"
" المادة 256 ب " الذي يقوم علنا أو عمدا بنشر تصريحات أو أخبار تتضمن تهديدا, أو إهانة, بسبب الجنس, لون البشرة, الجنسية أو الأصل العرقي أو المعتقد والوضع الجنسي, يعاقب بالغرامة أو بالسجن لمدة أقصاها سنتين"
فهل كان رئيس وزراء الدانمارك صادقا في مقابلته مع قناة العربية, حينما تحدث عن الاستقلالية المطلقة لحرية التعبير؟
إنهم يعاملون أمة كاملة معاملة الأطفال القاصرين.
# ## ## ##
في الختام لا بد لنا أن نقف باقتضاب عند موقف العم الأكبر: أميركا. ما موقفها مما يجري؟
ثلاثة آراء متناقضة طفت على السطح خلال الأسبوع المنصرم.
الأول يدين بشدة نشر الصور, وينعته بـ "الخزي", وهو موقف الرئيس الأميركي السابق بل كلنتون, الذي نطق به في زيارة له لدولة عربية. أما الموقف الثاني فهو ما أعلنه الناطق باسم وزارة الخارجية كورتس كوبر, وهو موقف وسط, يمسك العصا من طرفيها: " إننا نحترم حرية التعبير, لكن هذه الرسوم انتهاك لمعتقدات المسلمين". أما رئيس الناطقين بلسان وزارة الخارجية الأميركية شين ماكورماك فقد قال " لقد قاتلنا بالدم من أجل حرية التعبير".
نحن إذن أمام رئيس سابق يشجب بعنف, وناطق رسمي يشجب ويؤيد في الوقت نفسه, وناطق رسمي آخر يؤيد تأييدا موثقا بالدم.
هنا يحق لنا أن نتساءل: من المستفيد الأكبر من تدنيس معتقدات المسلمين, إضافة الى الأصوليين الاسلاميين والقوى اليمينية والعرقية الأوروبية؟
إن زعماء سياسة عولمة الشر لا يقلون هزلا عن يوسته وراسموسن. فإذا كان الأخيران قد تعاملا مع المسلمين كتعاملهما مع أطفال رضع, فإن الأميركيين يتعاملون معهم, برؤسائهم ومرؤسيهم, بحكمائهم وجهالهم, بكتابهم وأمييهم, بنسائهم ورجالهم, كتعاملهم مع قطيع من العبيد.
#سلام_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟