|
*الورثة والأسلاف
جاسم العايف
الحوار المتمدن-العدد: 1455 - 2006 / 2 / 8 - 09:41
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
هذا الكتاب** ، ترجم وطبع لمرات عدة ، في القاهرة وبيروت وبغداد ، ألهب الخيال لسنوات مضت ، وإذ أعود إليه فلا يعني ذلك حثّاً للخيال ، قدر ما يعني استعادة ذلك الموقف والمصير الإنساني الفاجع والمؤرق ، الذي يتشابه كثيراً مع مصائر مئات الآلاف من العراقيين ، والذي يتشابه فيه القتلة كذلك ، بغض النظر عن الزمان والمكان ، فإذا كان الفاشست قد سلبوا حياة ( يوليوس فوتشيك ) الصحفي والقاص و الفنان ، فان ورثتهم البعثيين ، وفي زمن عشناه وعاشه غيرنا ، ومنذ 8 شباط 1963 التي تحل ذكرى فاجعتها واعصارها الدموي اليوم , فأنهم قاموا بذات الأفعال أو بالأدق تجاوزوها كثيراً ، وهم الورثة لكل ما هو دنيء وخسيس ومهين في التاريخ ، وإذا كانت ( جوستافو تشيكلوفا ) زوجة ( فوتشيك ) ظلت تبحث طويلاً عن جثة زوجها ، بلا جدوى ، فإن مئات الآلاف من العراقيات والعراقيين ، وبعد اندحار نظام القتل القومي- البعثي اصطفوا للبحث وبكل الوسائل المتاحة وحتى بأيديهم في كل مدن وارض العراق التي تطفو على المقابر الجماعية ، والتي لا زال سجلها مفتوحاً ولم ولن يغلق قطعا ، ولم يجدوا غير بقايا عظام بشرية مفتة ، وجماجم إنسانية لاطفال رضع وصبيان وشباب وشابات وعجائز وشيوخ, ثقبها رصاص الموت القومي ، مكومة بفعل الطمر البعثي والذي افتتح سجله الاسود في هذا اليوم ، والقليل من اولئك العراقيين المنقبين والمنقبات مَن حالفه الحظ حينما فاز ، بعلامة باقية ـ صدفة ـ من عزيز أو حبيب ، ابن أو اخ ، زوج أو اب ، صديق أورفيق . بعد كل هذه السنوات المرعبة ، أعود لهذا الكتاب ، لأستعيد ذكرى مترجمه الفقيد الراحل ( مصطفى عبود ) ـ أبو النور ـ والذي ثوى جثمانهُ في أرض مؤلف الكتاب ، يا لغرابة وتراجيديا المصير الانساني !! حيث ارتحل قسراً في أواخر السبعينيات عن الوطن والاسرة الصغيرة والمكتبة الخاصة ، والصحف والمجلات الراقية التي كان يعمل فيها ويشرف عليها أو يدير تحريرها ، وبقي هناك ، بقنوط واسى ، يمارس دورة التنويري في الكتابة والترجمة من بعيد ، والراحل ـ أبو النور ـ بكل امتياز مجموعة كفاءات نادرة فهو مترجم ـ ترجم لأليوت وفوكنر ، وجويس وهمنغواي ، واخرين وله تراجم في ميادين شتى من اللغة الانكليزية التي لم يتخصص بها من الناحية الاكاديمية ـ وهو صحفي بارز ومثقف لامع واقتصادي متمكن ، وقبل كل شيء مناضل قضى ردحاً طويلاً في نقرة السلمان وكذلك هو قاص وناقد وعد بالكثير . في شوارع براغ عام1943 ، يسرع رئيس تحرير صحيفتي ( رودي برافو ) و ( تفوريا ) الصحفي الشاب ( يوليوس فوتشيك ) متخفياً بهيئة ، عجوز اعرج ، ليدخل منزل صديقه الحميم ( جيلينيك ) حيث الأصدقاء والرفيقات والرفاق ، ولينغمر في بهجة الصداقة ، وألق الوفاء ، والعمل السري والتحدي ، وقبل مغادرة المنزل تصرُّ السيدة ربة المنزل على ان يشرب الشاي النادر في ذلك الوقت ، ليطرد عن جسده النحيل برودة وصقيع شوارع ( براغ ) عندها يقتحم الفاشست منزل الالفة ، كان بإمكانه المقاومة وإطلاق النار من مسدسه ، الا انه نظر لأطفال العائلة ، والذين سيقتلون عند أي بادرة منه للمقاومة ، وازاء صراخ ورعب الأطفال والنساء ، قرر الاستسلام ، لم يكشف عن هويته الحقيقية . وهو المطارد والمتخفي بهوية منتحلة ، قاموا بتعذيبه ، فلم يتمكنوا منه واستمروا طويلا في ذلك ، وبكل الوسائل((هل انتشر النور أم ما زالت الظلمة جاثمة ..؟ لم تجب النوافذ ، والموت يأبى القدوم حتى الآن)) ثم ملّوا (( فالضربات تسقط الآن متقطعة ، ما بين فترات طويلة ، وما عاد الأمر سوى روتين)) وبعد أيام متصلة بالليالي ، مغلفة بالوحشة والالام والتعذيب(( لقد استغرقت طويلاً أيها الموت حتى تأتي ..)) وفي لحظات الصفاء الإنساني والتقاط الأنفاس المغلف بالكبرياء والتحدي ، وبصدق المصير الشخصي الفاجع يتوجه ( فوتشيك ) إلى والدته ووالده ، وزوجته وابنته ، وكل معارفه بأن لا يرتبط الحزن لديه بمصيره وبإسمه ((إذا كنتم تعتقدون ان بوسع الدموع ان تغسل تراب الأسى ، فلتبكوا إذن ، ولكن لبرهة لا غير ، ولسوف تسيئون لي لو وضعتم ملاك الحزن والاسف على قبري)).مع تواصل التعذيب ، يعتقدون انه انتهى ( فتكرموا ) عليه بشهادة الوفاة ـ لم يفعل ورثتهم البعثيين ذلك للمغدورين منذ 8 /شباط / 1963 حتى 9نيسان 2003 مستكثرين على ضحاياهم الذين لايمكن عدهم حتى ورقة الوفاة ـ وحينما فحصه طبيبهم ، مزّق الشهادة مؤكدا لفرق التعذيب-: ((ان له روح حصان)) . بعد أسابيع ، غدا هيكلاً عظمياً ناتئاً وحين قدموا له حساء يوم الأحد لم يستطع تناوله(( ذلك ان لثتي التي سحقت تماماً ، لا تمكنني من مضغه ، وبلعومي يرفض ابتلاع أية لقمة مهما كانت لينة)). في ليل المعتقل ، وفي وحشة الزنزانة الانفرادية وبردها ، وازاء محاولتهم تدمير جسدك ، ودحرك بضعفه ورهافته ، مَنْ تُرى سيناجيك..؟؟ ليغدوَ نديمك.. قوة الروح .. نداء الحرية العذب.. وبوحها العلني والخفي.. ، مَن غيرهما ومَنْ سيقدُم إليك ويناديك..؟؟ سجان فاشستي((ببدلةS - S )) ؟؟ أم ذئاب الحرس القومي وعلاماتهم((ح ـ ق)) وغداراتهم (( استرلنك وبور سعيد )).. ؟ أو ((الرفيق الحزبي)) ببدلته الزيتونية ومسدسه (( طارق )).. ؟ أم الموت الذي لا بدلة له .. ؟ بعد يأسهم منه تماماً ، حُمل على نقالة إلى مكان أسوأ ، نحو قصر ( بينسيك ) ـ صنوه قصر النهاية في بغداد ـ مطوقاً ، بالحرس والبنادق ، والمسدسات ، انهم (( يحرسون جثة ، مخافة الهروب )) . في أوراقه التي هرّبها من السجن ، والتي غدت مادة الكتاب ، يخاطب ( فوتشيك ) الذين سيجتازون المحنة ، ويطالبهم بعدم النسيان وجمع بيانات الضحايا ، لأن الحاضر سيكون ذكرى ، وان كل الضحايا بشر لهم أسماء وقسمات وآمال وتطلعات ، وقبل النهاية يكتب وصيته (( لم املك غير مكتبتي ، وهذه دمرها الفاشيست )) ويتحدث عما كتب في السياسة وعن دراساته في الأدب والفن والمسرح وقصصه ومخطوطاتها التي صودرت ثم يتوجه بحب كبير للشاعر التشيكي ( جان نيرودا ) ويرجو المؤرخ الأدبي والذي سيأتي في المستقبل (( أوصي بمحبتي لـ ( جان نيرودا ) انه اعظم شعرائنا ممن ظلوا يستشرفون المستقبل أبعد منا.. )) ويكتب بحس إنساني وفني متألق عن تفاصيل كبيرة وصغيرة ، عن حياة السجن والسجناء ، والرفيقات ، والرفاق ، وعن السامري ، الشمام ، كوكلار ، وروسلر ، و ( هذا ) وعن ( أنجيليكا ) والتي كانت تعمل خادمة في يوم ما ، وظلت تتمتع بالاناقة والبهاء والألق والصفاء حتى وهي تسيرُ فجر يوم ربيعي إلى الشنق حتى الموت ، ومدير السجن الوحش ونقيظه ، الأب ( سكوبا ) التقي الورع الذي مرت من بين يديه وعبر رداءه الكهنوتي مئات الرسائل السرية ، التي لم تُكتشف والذي (( يعرف كيف ومتى وأين يبث )) العزيمة والصلابة وتستطيع نظراته الابوية المخلصة ، الصادقة ، العميقة ، الحانية ، ان تمنح القوة والعناد ، انسانا يوشك ان ينهار من اليأس ، والذي يدرك ذلك ويعرفه برهافة حسّه وخبرته . عندما يوقن ( فوتشيك ) انهم غداً ، ومع الفجر سيعدمونه ، يكتب ... -:أقترب دوري من نهايته ، هذه النهاية ، لم اكتبها بعد وهو أمر لا اعرفه تماماً ، لم يعد دوراً ، بل الحياة ، وفي الحياة ليس هناك متفرجون ... الستارة تنسدل ... أيها الناس ، لقد أحببتكم ، كونوا يقظين ... !! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *في ذكرى صديقي الراحل (عبد المحسن براك) الذي تعرفت عليه في معتقلات الحرس القومي بعد 8 شباط عام 1963 **تحت اعواد المشنقة- ترجمة مصطفى عبود- تقديم فخري كريم دار الرواد- بغداد
#جاسم_العايف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوارمع القاص (مجيد جاسم العلي) رئيس اتحاد الادباء والكتاب ال
...
-
..السؤال .. مجلة تعنى بثقافة المجتمع المدني ..ملف خاص بالقاص
...
-
مابعد الانتخابات العراقية ونتائجها
-
مجلات
-
حفل (السياب) التأبيني الأول
-
حول مؤسسات المجتمع المدني في ا لعراق
-
الادباء والكتاب في البصرة يجددون احتفائهم بالسياب في ذكرى رح
...
-
المشهد الثقافي في البصرة -3
-
الشعاع البنفسجي....
-
المشهد الثقافي في البصرة -2-
-
من اجل انتخابات عراقية حرة و نزيهة
-
المشهد الثقافي في البصرة -1
-
كاردينيا.. الملاذ والأسى
-
هبات النفط العراقي بين القديم والجديد
-
اعلى راتب تقاعدي ، لأقصر خدمة فعلية.. في العراق
-
ملاحظات حول مسودة قانون اتحاد الأدباءالعراقيين
-
رئيس (مؤتمر حرية العراق) في البصرة :ديمقراطيةالفوضى ستعمل لل
...
-
قراءة: في اوراق عالم نووي عراقي
-
ملاحظات حول الاستفتاء الدستوري العراقي
-
مجلات .. الثقافة الجديدة آراء وتصورات حول الدستور العراقي
المزيد.....
-
لوبان لا تستبعد استقالة ماكرون
-
ترامب يوقع أول قانون بعد عودته إلى المنصب
-
10 شهداء في مجزرة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي ببلدة طمون بال
...
-
إسرائيل تعترف باستهداف فلسطينيين في غزة رغم اتفاق وقف إطلاق
...
-
تحول تاريخي في سوريا.. تشكيل إدارة جديدة وإنهاء ستة عقود من
...
-
كيف يستعد الجنود من المتحولين جنسيًا لمواجهة ترامب بإعادة تش
...
-
الصين تحتفل ببداية عام الأفعى وسط طقوس تقليدية وأجواء احتفال
...
-
توجيه إسرائيلي لمعلمي التاريخ بشأن حرب أكتوبر مع مصر
-
الجزائر تسلم الرباط 29 شابا مغربيا كانوا محتجزين لديها
-
تنصيب أحمد الشرع رئيسا انتقاليا لسـوريا
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|