حقيقة ونحن نعيش الظروف الصعبة الراهنة والقضية العراقية بكل تفرعاتها تمر في عنق الزجاجة وبما يبشر بولادة عقد عراقي جديد ومختلف يدخل معه العراق وشعبه في خضم التحديات الحضارية بعد عصور من الهيمنة المتخلفة ، لاأفهم السبب الذي يدفع بالبعض للإساءة لرموز حفرت لها تاريخا من العزة والإحترام في ضمائر العراقيين خلال مراحل الكفاح الشعبي الطويلة الصعبة ؟ ولاأدري هل هي من قيم الدين والخلق القويم أن تتقاطع سيوف الحقد ضد رجال أصبحوا في ذمة التاريخ بعد أن إختارهم الله سبحانه وتعالى لجواره ؟ وهل هي بطولة وطنية محضة أن تهاجم الموتى والراحلين من أجل تصفية حسابات معينة لاعلاقة لها بالحقائق الموضوعية ولابأقدار الرجال ولابتضحياتهم والتي يحاول البعض اليوم الإلتفاف عليها وتشويه صورتها وبأساليب هي القمة في عدم الموضوعية والإبتعاد عن المنطق القويم وبمنهج يعتمد خلط الأوراق وتشويه الوقائع والمسلمات ، والأهم من هذا وذاك الإلتفاف على الخلق الإسلامي القويم بالإبتعاد عن المقولة الكريمة ( إذكروا محاسن موتاكم )!!.
وقد فوجئت حقيقة بالهجوم الغادر الذي شنه ( أحدهم ) على الدكتور والشاعر والوجيه العراقي الراحل السيد مصطفى جمال الدين ( رحمه الله ) وفي هذا الوقت بالذات ، وبدون أية مناسبة أو مبرر ، وهو هجوم إعتمد أطنانا من الأكاذيب ليبني عليها أحقادا لاتصدر إلا عن نفوس مريضة أعماها الحقد وأكلتها الضغينة ولاتجد من ينفس عقدها وأمراضها النفسية المستعصية إلا من خلال التهجم على رموز وطنية عراقية أصيلة كان لها تاريخها الحافل البعيد عن الأضواء في خدمة العراقيين وقضاياهم وفي مرحلة زمنية كان العالم كله يقف ضد الشعب العراقي العرب والعجم والبربر والجميع وبإستثناء الرئيس السوري الراحل ( حافظ الأسد ) ولأسبابه الخاصة طبعا ، فلم يكن أي طرف مستعد لسماع مظلومية العراقيين وعويلهم وآلامهم .
لقد عرفت المرحوم د. مصطفى جمال الدين منذ أيام الطفولة حينما كنت أتفرج على تظاهرات مهرجان المربد الشعرية وكانت هيئته الوقاره وعمامته السوداء الجميلة ولغته الشعرية الراقية والمرهفة تضفي على المشهد صورا جميلة لرجل أديب ويعتمر العمامة ليؤكد التواصل بين الدين والحياة والأدب وبصورة رائعة من الشفافية والإنفتاح كانت هي السمة المميزة لشخصه الكريم حتى أخريات أيامه رحمه الله ، ثم كانت المفاجأة الكبرى حين تعرفت عليه عن كثب مستقبلا وبصورة لاتخلو من عناصر سيناريو سينمائي ودرامي غير متوقع وكان ذلك تحديدا في يوم 2/1/ 1984 وفي سجن المباحث الجنائية الكويتية حينما أقتدت بيد رجال المباحث لألقى في زنزانة مكتظة بالعراقيين المشكوك بولائهم لصدام فوقعت في حضن الراحل الكريم وكان معتقلا قبلي في هذه الزنزانة بعد أن أقتيد من بيته وأنتزع من وسط أطفاله ليعتقل ضمن القوائم التي قدمتها السفارة العراقية ( المندوب السامي العراقي البعثي في الكويت وقتذاك ) للمباحث الكويتية ومن أجل التسليم للنظام العراقي الذي حاول جاهدا إستغلال التفجيرات التي نفذتها جماعات عراقية مرتبطة بمخابرات الحرس الثوري الإيراني في الكويت للتخلص من المعارضة العراقية ورموزها في الكويت ، وقد تم لهم ماأرادوا ، فوجدت الراحل الكريم مبتسما يحمد الله رغم قسوة الإعتقال والإهانات التي كان عناصر المباحث الكويتية من ( البدون جنسية ) وبقية العناصر الناصبية الحقيرة من آل الكندري يظهرونها ضد المعتقلين العراقيين وكان وهو في الزنزانة وحوله بعض الذين تعرضوا لتعذيب بدني شنيع من المباحث الكويتية تمثل في الجلد والفلقة ونزع الأظافر والتهديد بالإغتصاب الجنسي يحاول تخفيف الجراح والآلام البدنية والنفسية ويقضي الليالي في قراءة الشعر العربي الجميل بكافة صنوفه وأغراضه وكان يشيع في أجواء الزنزانة القاتمة أجواءا من المرح والأمل في ظروف كانت هي القمة في الكآبة والتوتر والخوف ، وكان رحمه الله شجاعا لايخاف في الحق لومة لائم وفي لحظات إبعاده وتسفيره من مطار الكويت مصفدا بالأغلال حتى سلم الطائرة كان صوته مدويا ضد رجال الأمن الكويتي وضد وكيل وزارة الداخلية حينذاك اللواء يوسف الخرافي الذي جاء معتذرا عن سوء المعاملة فعنفه الراحل أشد تعنيف محذرا الحكومة الكويتية وكأنه يستشرف آفاق المستقبل بالمصير الأسود الذي يعده صدام للكويت .
وفي الشام وعلى الضد من كل تقولات أحفاد مسيلمة الكذاب لم يكن الراحل منعزلا عن العراقيين إطلاقا بل كان حاضرا دائما في كل تجمعاتهم ، وكانت زاويته الأسبوعية في صحن السيدة زينب (ع) وعلى أقصى اليسار من الباب الرئيسي موئلا لتجمع العراقيين ومكانا لحواراتهم وكانت طلعته البهية تزين المجالس العراقية بالخير والعطاء والكرم بمعناه الإنساني الشامل ، وكان دائم السؤال عن أحوال الناس متفقدا لمريضهم سائلا عن غائبهم مساعدا وبصمت هو من أخلاق أهل بيت النبوة الكريم من يحتاج المساعدة ، مستثمرا علاقاته الشخصية الواسعة بأهل القرار في الشام لحل مشاكل العراقيين وخصوصا مشاكلهم الأمنية مع أجهزة المخابرات السورية المتعددة والتي كانت هاجسا حقيقيا للعراقيين هناك ، فكلاب عبد الجبار الكبيسي في قيادة قطر العراق والقيادة القومية من أمثال فوزي الراوي وغيرهم من الفاشست البعثيين كانوا نشطين في كتابة التقارير ضد العراقيين ليعتقلوا ويعذبوا بذرائع واهية وكان دور السيد كريما في تعقب المسائل والدفاع عن من يعلم أنه معتقل ، وقد حدثت لي مشكلة مع المخابرات السورية أختطفت بسببها من الحدود التركية لأعتقل بتهمة ظالمة كان مصدرها مكتب شؤون العراق ( الكبيسي ورهطه ) ولن أنسى مواقف السيد الراحل الكريمة وهو يتصل كما علمت فيما بعد بهذا الطرف أوذاك لتوضيح الموقف ورفع الظلم وهو أمر تكرر مع الكثير من العراقيين ؟.
كما كان منزله رحمه الله مفتوحا لجميع العراقيين بمختلف توجهاتهم ومشاربهم الفكرية والسياسية وكان صالونا أدبيا وسياسيا ، وإنني لأعجب أشد العجب من ذلك الإتهام الظالم الموجه للراحل الكريم من كونه قد إستفاد من مأساة العراقيين ؟ أي إستفادة ياترى وهو إبن الأكرمين والشاعر الفطحل والشخصية العلمية الجامعية الأكاديمية البارزة ويكفيه كما يكفي الطائفة الشيعية فخرا من أنه رفض عرضا للتدريس في جامعة الكويت لأنهم أصروا على أن ينزع العمامة ويعتمر البدلة في قاعة المحاضرات ! فرفض العرض جملة وتفصيلا رغم حاجته الماسة لذلك وفي ظرف مادي صعب ؟ وكان موقفا أصيلا لرجل كان قمة في المواقف والمشاعر الكريمة ، كان بيته الكريم كما أسلفت محجا لكل العراقيين وكان يجامل الجميع بروحيته الشفافة رغم معاناته من حالات صداع نصفي رهيبة تعصف به ، وكنت تجد في مجلسه العراقي الإسلامي والشيوعي والبعثي والقومي والسني دون إستثناء ، وكان حالة توحيد وطني عراقية بعيدا عن ضجيج الشعارات ، وأعتقد أن علاقاته القوية مع أهل الحكم في دمشق لم تكن سبة ولاعارا بقدر ماكانت تعبيرا عن الإحترام الذي يكنه أهل الرأي والحجا لكفاءة أدبية وشعرية هي من جيل الرواد التي تفتخر بهم شعوبهم وهو قد إستثمر هذه العلاقة أيضا لخدمة القطاع الأوسع من العراقيين ، فلو كان العراق يعيش أوضاعا طبيعية لكان الراحل الكريم من أبرز رجاله ولتبلور أدبه الشعري على أروع مستوى ؟ ولكن مماليك العوجة وسقط متاعها يضيرهم كثيرا رؤية الكفاءات العراقية وهي تحتضن ثرى العراق لتبدع .
ولعل قمة الإسفاف والعار هو ماجاء في إتهاميات بعض أصحاب النفوس المريضة عن الأصل الهندي للراحل الكريم ؟ وهذه نغمات نشاز أشاعها النظام المملوكي العوجوي في أدبياته الساقطة متوهما أنها تدين أهل الكرم وسليلي بيت النبوة الكريم ، وهي إدعاءات مريضة من الذين لاأصل لهم كصدام ورهطه لتشويه المواقف بإتهامات عنصرية نتنة نهانا عنها الرسول الكريم ، ولكن أنى للنفوس المريضة أن تعرف العيب ؟
إنها حملة مريضة ضد رجال كرام صدقوا ماعاهدوا الله عليه ، وسيخلدهم الشعب العراقي في العراق الحر الجديد ، وسيدخلون التاريخ الكفاحي العراقي من اوسع أبوابه المضيئة ، فرحم الله الراحل الدكتور السيد مصطفى جمال الدين ، وسلام الله على الأحرار .